يوما بعد آخر تثبت الولايات المتحدة الامريكية فشلها وعجزها عن قيادة العالم نحو الأفضل، فأمريكا التي زعمت يوما ما أنها تحمل رسالة الحرية والسلام الى البشرية لم تعد كذلك. لقد برز فشل واشنطن بوضوح منذ اللحظات التي قررت فيها ضرب الاجماع والقانون الدوليين عرض الحائط والقيام بأفعال منفردة اتجاه دول بعينها بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، الا أن العالم تعاطف معها –آنذاك- بسبب حجم الضربة التي تعرضت لها، وضخامة عدد الضحايا من المدنيين الأبرياء الذين سقطوا فيها، وكان المطلوب منها عدم الاساءة الى هذا الاجماع الدولي المساند لها والمتعاطف مع ضحاياها، وأن تستثمره بطريقة إيجابية لحماية صورتها الدولية، وإظهار نفسها كقوة كبرى حكيمة قادرة على اتخاذ القرارات المناسبة. لكن يبدو انها لا تتحلى بهذه الحكمة ابدا، وأن الحلم الأمريكي الذي راود الكثير يوما ما سيتحول مع الأيام الى كابوس مزعج يرغب الجميع بالتخلص منه.

ان الدول الكبرى تحتاج في مثل الوضع الدولي الحرج الذي تمر به اليوم (التحول من وضع دولي الى آخر) الى نمط خاص من القيادة يحافظ على الاجماع الدولي، ويلهم الاخرين على تبني جدول اعمال يميل لمصلحة الامن والسلام العالمي، فبدون قيادة تتحلى بهذه الصفات ستكون الكارثة وشيكة في أي لحظة، وهذا هو بالضبط السبب الكامن وراء اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، اذ عندما كانت القوى الكبرى القائدة –آنذاك- ليست بمستوى الحدث، في ظل وضع دولي قديم يأفل نجمه، ووضع دولي جديد يتبلور في رحمه، كانت النتيجة ظهور أنظمة وقيادات خارجة عن السيطرة تعمل من اجل تغيير النظام الدولي بالكامل لمصلحتها.

ان العالم يعيش اليوم نفس الظروف التي عاشها نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فالوضع الدولي القائم على قيادة أمريكا آخذ بالأفول التدريجي، وحاليا يتبلور في رحمه، وربما على انقاضه وضع دولي جديد غير واضح المعالم بعد، الا أن الحقيقة المفزعة التي قد تعجل بالنهاية الكارثية للعالم، هو ان القوة الكبرى الأولى في العالم قد أصابها الجنون المبكر، وتعاني من عقد حضارية عميقة، ولا تحسن توظيف قدراتها الحقيقية لإعادة انتاج نفسها او حماية النظام الدولي الحارسة له.

فأمريكا التي يقودها زعيم تتناسب ردود افعاله الدولية مع مزاجه النفسي، فيسمي الخليج مرة بالخليج العربي، وأخرى بالخليج الفارسي، ويتجاهل الاجماع الدولي ومواقف القوى الكبرى وردود افعالها، ويضرب الاتفاقيات الدولية التي وقعتها دولته عرض الحائط، ويتخذ قرارات معادية للمواقف الدولية المرتبطة بقضايا عديدة كقضية المناخ، ويظهر إرادة واضحة لتجاوز القانون الدولي، ويعجز عن حل أزمات دولية صغيرة في دول مجهرية قياسا بواشنطن كأزمات قطر واليمن، فضلا عن عجزه عن معالجة قضايا حساسة كالملف النووي لكوريا الشمالية...

كل هذه المؤشرات التي عززها خطاب ترامب في هذا اليوم الجمعة الثالث عشر من أكتوبر 2017 حول برنامج الملف النووي الإيراني عندما أعلن نيته الانسحاب منه كونه "أحد أسوء الاتفاقات في تاريخ الولايات المتحدة" على الرغم من كل التأكيدات الدولية الواردة من شركاء أمريكا الدوليين (موسكو، أوروبا، والأمم المتحدة) التي تؤكد التزام طهران بالاتفاق، يدل على ان واشنطن أصبحت دولة متمردة وخارج السيطرة، وستقود سياساتها الى كارثة كبيرة تهدد السلام العالمي برمته.

ومشكلة أمريكا في هذه اللحظة انها لا تميز بين النصر التكتيكي والنصر الاستراتيجي، فهي تظن ان حصولها على بعض المنافع المادية والدعائية من بعض الحلفاء، او استعراض قوتها العسكرية هنا أو هناك من العالم تمثل انتصارات استراتيجية، لكن هذه مجرد أوهام تنخدع بها القوى الضعيفة أو تلك التي لم تعد لديها القدرة على تقديم المزيد.

ان خروج دولة من اتفاقات كانت طرف فيها لا يفسر بكونها دولة قوية، بل على العكس تماما، اذ يفسر على أنها دولة غير مستقرة وعاجزة عن اتخاذ القرارات التي تحقق مصالحها، وليست لديها القدرة على الالتزام بما تعهدت به، وهذا هو واقع أمريكا اليوم، التي تشبه ثور هائج لديه قدرات مدمرة هائلة، ولكنه يفتقد الى العقل القادر على توظيف هذه القدرات في الوقت والمكان المناسبين، مما يجعل الاخرين على الرغم من ضعف قدراتهم يتفوقون عليه بما يمتلكونه من عقل، فيستمرون بتسديد الضربات الموجعة اليه حتى يعجز عن الحركة ليقبل في النهاية الهزيمة او يواجه الموت. ولكن لأن الثور الأمريكي الهائج حلبة صراعه العالم بقاراته ومحيطاته وفضائه، فأن نتيجة الدمار التي يتركها الصراع معه غير قابلة للتصور.

ان العالم بحاجة الى أمريكا عاقلة وحكيمة، وتعمل بسياسات فاعلة تصب في مصلحة الامن العالمي، بقدر حاجة أمريكا الى فضاء دولي إيجابي يضمن مصالحها. ولكن عندما تتقاطع مصالح العالم مع مصالح واشنطن وتنخدع الأخيرة بمواقف دول صغيرة كإسرائيل وامارات الخليج وما شابه، فالنتيجة المتوقعة هي اننا نقترب بسرعة من اندلاع الحرب العالمية الثالثة.

* الأستاذ المساعد الدكتور خالد عليوي العرداوي، مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2017
www.fcdrs.com

اضف تعليق