في مسير الزائرين، تنشأ تلقائيًا خطوط الفصل بين عالمين: عالم السائرين نحو الحسين، وعالم الغارقين في اللامبالاة، أو الخضوع، أو الانبهار بالنظام العالمي المادي. من هنا، فإن هذه الزيارة تُنتج وعياً سياسياً-اجتماعياً يُفرز الهوية، لا بوصفها انتماءً جغرافياً، بل مشروعاً وجودياً...

في كل عام، ومع حلول موسم زيارة الأربعين، تتدفق ملايين الأقدام الراجلة نحو كربلاء، لا بحثًا عن نُزُل فاخر أو طقسٍ ترفيهي، بل سعيًا للانخراط في طقس روحي يُعد من أعمق تجليات التديّن الشيعي. إلا أن زيارة الأربعين ليست مجرد ممارسة دينية، أو طقسًا من طقوس الحزن الجماعي، بل هي في حقيقتها إعادة إنتاج متكررة للهوية الجماعية الشيعية، وفضاء رمزي تُعاد فيه صياغة "نحن" الشيعية في مقابل "الآخر" الذي قد يكون مذهبًا آخر، أو سلطة سياسية، أو نظامًا اجتماعيًا عالميًا يُهدد هذه الهوية.

الهوية في زمن العولمة 

في ظل العولمة، تذوب الكثير من الهويات التقليدية أمام سطوة السوق المفتوحة والثقافة الرقمية العابرة للحدود. لكن في المقابل، نشهد تماسكًا مدهشًا للهويات الدينية، وعلى رأسها الهوية الشيعية، التي استطاعت، لا فقط أن تصمد، بل أن تعيد إنتاج نفسها بأشكال أقوى وأكثر تماسكًا. وتُعدّ زيارة الأربعين أحد أبرز تجليات هذا التماسك؛ فهي ليست مجرد استحضارٍ لحدث كربلاء، بل استعادة واعية ومستمرة لهويةٍ شعوريةٍ وجماعية تتحدى التفكك العولمي.

الزائر في الأربعين لا يأتي فقط ليبكي الحسين، بل ليعلن، من خلال خطواته، انتماءه إلى أمةٍ رمزية تتجاوز الحدود الوطنية، والعرقية، واللغوية. تلك الأمة التي تجمع العربي والفارسي، والهندي والباكستاني، والأفريقي والأوروبي تحت لواء الحسين، في سردية واحدة تتحدث عن الظلم والمظلومية، عن الثورة والعدل، وعن الإنسان بوصفه مشروعًا إلهيًا خالدًا في مواجهة الطغيان.

الحسين كمشروع تحرري عابر للمذهب

في مسيرة الأربعين، لا تكتفي الجموع بإحياء الذكرى، بل تُحيل الحسين من شخصية تاريخية إلى رمزٍ تحرري عالمي. فـ"الحسين" في الزيارة ليس فقط الإمام الثالث لدى الشيعة، بل أيقونة للثورة على الظلم، وشعارٌ لرفض الانصياع، وتجسيدٌ حيّ لقيم "الرفض" و"البديل". هذا ما يجعل المشاركة في الأربعين ليست مجرد إحياء شعائري، بل فعلًا سياسيًا رمزيًا، يتموضع خارج الحسابات الآنية، ويتجذر في الوجدان الجمعي بوصفه تعبيرًا عن خيار حضاري.

إن الحسين في الزيارة لا يُستدعى كمجرد رمز طائفي، بل يُعاد تقديمه كنموذج أخلاقي وإنساني يمكن أن يتوحد حوله حتى غير الشيعة. من هنا، لا غرابة أن نرى مفكرين، وناشطين، ومحبين من ديانات وأعراق شتى يشاركون في هذه المسيرة، من منطلق شعورٍ داخلي بأن هذا الطريق ليس مجرد شعيرة، بل رحلة نحو المعنى الأعمق للإنسانية

نحن الشيعية في مقابل الآخر

من أبرز ملامح زيارة الأربعين هو إنتاج شعور جمعي بالانتماء إلى "نحن" تتجاوز الفردانية وتُذيب الفروقات. "نحن" هنا ليست صيغة مغلقة أو متعصبة، بل وعاءٌ واسع يستوعب المظلومية، والثورة، والانتماء العقائدي، والحنين إلى العدالة الإلهية. لكنها، وفي الوقت ذاته، تعيد تعريف "الآخر": من هو؟ أهو من لا ينتمي إلى هذه المنظومة القيمية؟ أهو الظالم؟ أهو الذي يقف خارج مدار الحسين؟

في مسير الزائرين، تنشأ تلقائيًا خطوط الفصل بين عالمين: عالم السائرين نحو الحسين، وعالم الغارقين في اللامبالاة، أو الخضوع، أو الانبهار بالنظام العالمي المادي. من هنا، فإن هذه الزيارة تُنتج وعياً سياسياً-اجتماعياً يُفرز الهوية، لا بوصفها انتماءً جغرافياً، بل مشروعاً وجودياً.

الأمة الرمزية: كربلاء بوصفها مركزًا شعوريًا

الأمة الشيعية، كما تتجلى في الأربعين، ليست أمة قومية بالمعنى الكلاسيكي، بل "أمة رمزية" تتشكل حول سردية كربلاء. كربلاء تتحول إلى مركز شعوري/روحي تلتقي عنده الجموع لتجدد بيعتها للحق، لا بصناديق اقتراع، بل بخطى مثقلة بالحب والمعاناة. هذه الأمة لا تحتاج إلى حدود سياسية، بل تكتفي بسردية عاشوراء كجامعٍ روحي يُغنيها عن القوميات.

ولعلّ من أهم مؤشرات الأمة الرمزية هذه هو التداخل العابر للحدود في الزيارة: فالمواكب من دولٍ شتى، والخدمة مشتركة، واللغات متعددة، لكن الهدف واحد. يتقاسم الزائرون الطعام، والتعب، والدموع، كأنهم أبناء وطنٍ واحد، أو بالأحرى، أبناء قضية واحدة.

زيارة الأربعين ليست مجرد ممرٍّ شعائري يتكرر كل عام، بل هي عملية دائمة لإعادة تعريف الذات الشيعية، وتثبيت أركان الهوية، وتأكيد حضورها في زمنٍ تهتز فيه الهويات تحت ضربات العولمة. إنها لحظة تتجلى فيها الأمة الشيعية بأبهى صورها: متماسكة، متجاوزة لحدود الجغرافيا، مؤمنة بأن الحسين ليس ماضٍ مضى، بل مستقبل يُصنع كل عام من جديد، على طريقٍ لا ينتهي إلا عند عدالة الله.

اضف تعليق