إن اختيار رئيس الوزراء بعد انتخابات 2025 يعكس أكثر من توزيع مقاعد، إنه نتيجة هندسة سياسية متعددة المستويات، تتقاطع فيها قواعد اللعبة الدستورية مع توازنات داخلية وخارجية، ومعايير للكفاءة وأخرى أمنية واقتصادية ملحة، وكلما ازداد تشظي البرلمان، زاد احتمال ظهور مرشح تسوية على حساب مرشح أغلبية...
في الحادي عشر من تشرين الثاني، أدلى العراقيون بأصواتهم لانتخابات 2025 والتي تمثل منعطفا حاسما في مسار النظام السياسي العراقي، لأنها تضع الأساس العملي لمن يكلف بتشكيل الحكومة التالية، ولأنها تحدد تركيبة البرلمان، وفي ظل تراكم الأزمات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وتحولات مزاج الناخبين بعد دعوات المقاطعة وظهور قوى سياسية ناشئة، يصبح تعيين رئيس الوزراء مسألة أكثر تعقيدا من كونها مجرد حساب أغلبيات نيابية.
بعد 2019 دخلت الساحة العراقية مرحلة جديدة بمزاج شعبي يميل إلى السخط على الأداء التقليدي للحكومات، وفي الوقت نفسه يتخلى تدريجياً عن توقعات سريعة بالتغيير، فالاحتجاجات أضعفت النفوذ الرمزي لبعض الأحزاب التقليدية، ومنحت زخماً لحركات مدنية ومستقلين قادرين على اجتذاب أصوات متضررة من البطالة والخدمات والفساد، لكن قدرة هذه الحركات على تحويل المكاسب الشعبية إلى قوة تفاوضية داخل البرلمان تبقى مرهونة بحضور عدد أقوى وبناء هياكل تحالفية فعالة، وبالتالي فالنتيجة المتوقعة هي مجلس نواب موزع، حيث لا لوجود هيمنة كاملة لأي كتلة، وفي هذا السياق من المرجح أن يتقاطع التأثير الانتخابي بين المحاور الكبيرة.
مساحة تفاوضية
يتحول النص الدستوري، وبخاصة حول مفهوم "الكتلة الأكبر"، إلى ساحة نزاع (سياسي -قانوني) في كل دورة برلمانية، وان غياب تجسيد قاطع لهذا المفهوم يمنح مرونة واسعة للتتفاوض، ما يحول الجلسة الأولى للبرلمان وما بعدها إلى عملية إعادة تكوين حقيقية للتحالفات، أما الحديث عن دور المحكمة الاتحادية في مثل هذه الحالات يتأرجح بين ضبط المسار وتوسيع مساحة المفاوضات عبر تفسيرات تحفظ الاستقرار المؤسسي أو تمنح منحى سياسياً مرناً. بمعنى ان مرشح رئاسة الحكومة سيكون غالباً نتاج مفاوضات ما بعد الانتخابات وليس اختياراً تلقائياً وفق حساب المقاعد، فيما يظل البيت الشيعي هو الحقل الأكثر تأثيراً في ملف رئاسة الوزراء، لكن هشاشة التماسك قد تُنتج مرشحاً توافقيا أو تفضي إلى تنازع يمنع التصويت السلس، أما المرجعية الدينية قد لا تتدخل علناً، لكنها تمارس تأثيراً رمزياً عبر رسائل توازن تهدف إلى تفادي تصعيد داخلي.
في كل الأحوال، ان عملية حسم المرشح داخل هذا الحقل تتأثر بحجم المال السياسي وشبكات المصالح الاقتصادية يمثلان متغيراً مركزياً، فان التمويل لا يخدم فقط الحملات، بل يؤمن قنوات نفوذ بعد الانتخابات من خلال شبكات التوظيف والمناقصات والصفقات، إلى جانب ذلك الانقسامات الداخلية داخل الكتل نفسها قد تُستغل إعلامياً لإضعاف مرشحين أو فرض أسماء أقل مقاومة للضغوط، وهناك أساليب ظهرت بشكل واضح مثل التسقيط الإعلامي والحملات الرقمية التي قد تعيد تشكيل صورة المرشحين وتضغط لإحداث تحولات سريعة في مواقف الكتل أثناء مفاوضات التشكيل.
يتوقف مسار الحسم السياسي أيضا على قدرة المفاوض داخل البيت الشيعي على تقديم تنازلات متبادلة، وإقناع الشركاء من الكرد والسنة بمنحهم حوافز اقتصادية وسياسية تكفي لقبول حكومة مشتركة. فالقوى الكردية والسنية تلعبان دوراً حاسماً في تحويل أي مرشح إلى رئيس وزراء فعلي، وإن الحزبان الكرديان الرئيسيان وفي كل انتخابات يقيمان توازنات بين مصالح الإقليم وضرورات التعاون مع بغداد، ما يجعل موقفهما رهناً بضمانات مالية وإدارية سياسية (رواتب، موارد، ملف المناطق المتنازع عليها).
القوى السنية بدورها من المتوقع أن تطالب بضمانات إقليمية ومحلية لوجودها الفعلي في مراكز اتخاذ القرار، وبدون ذلك قد تتحول مساهمتها إلى عنصر تعطيل أو عقدة تفاوض، أما التحالفات العابرة للمكونات قد تتكرر إذا وجدت أرضية مصالح مشتركة، لكنها ستحتاج إلى إدارة دقيقة للتوازنات الطائفية والإقليمية.
ثلاثة مخرجات واقعية
يلعب الفاعلون الخارجيون أدواراً متباينة في العراق، فالولايات المتحدة تفضل استقراراً يسهل التعاون الأمني والاقتصادي رغم محدودية تأثيرها، فيما تمتلك إيران نفوذاً مباشراً يتيح لها ترجيح كفة المرشحين بما ينسجم مع مصالحها، أما دول الخليج وتركيا فتوفران ضغطاً اقتصادياً واستثمارياً يمكن أن يمنح زخماً لمرشحين يوظفون ملفات الإعمار والطاقة كورقة تفاوض. ومن خلال هذه الخلاصة هناك ثلاثة مخرجات واقعية:-
أولا. رئيس وزراء توافقي، شخصية مقبولة لدى الإطار الشيعي مع تنازلات كردية وسنية، تمثل خيار الاستقرار المؤقت.
ثانيا، مرشح تسوية اللحظة الأخيرة، يظهر عندما تفشل القوى الكبرى في فرض مرشحها، ويصبح اختياراً لتجاوز الانسداد.
ثالثا، مرشح قوي من كتلة متقدمة، إذا حققت كتلة واحدة تفوقاً واضحاً، قد تُشكل مركز القوة لفرض اسم أكثر حزبية أو تحالفية.
ويمكن تلخيص المتطلبات العملية للمرشح في عدة جوانب:-
- القدرة على إدارة الأزمات الاقتصادية والمالية، والمهارات في احتواء السلاح خارج إطار الدولة ودمجه ضمنها، إضافة الى التوازن في العلاقات الإقليمية والدولية، والقدرة التفاوضية داخل برلمان مشظى، ووجود قبول شعبي نسبي لتخفيف الاحتقان.
- الموازنة العامة المرتبطة بالنفط، وشبكات الفساد الإدارية، واستعادة ثقة المواطنين، وهي ملفات ستختبر جدية أي حصيلة سياسية جديدة من اليوم الأول.
من خلال ما تقدم يمكننا القول إن اختيار رئيس الوزراء بعد انتخابات 2025 يعكس أكثر من توزيع مقاعد، إنه نتيجة هندسة سياسية متعددة المستويات، تتقاطع فيها قواعد اللعبة الدستورية مع توازنات داخلية وخارجية، ومعايير للكفاءة وأخرى أمنية واقتصادية ملحة، وكلما ازداد تشظي البرلمان، زاد احتمال ظهور مرشح تسوية على حساب مرشح أغلبية، فان نجاح أي حكومة يقاس بمدى قدرتها على مجابهة التحديات المعيشية وإعادة بناء ثقة المواطن بمؤسسات الدولة.



اضف تعليق