زينب ابنة أمير المؤمنين، فتاة كأي فتاة أخرى في المدينة آنذاك، لها مشاعر مرهفة إزاء أبيها وأمها، وايضاً؛ إزاء إخوتها، قولبتها ضمن مفاهيم دقيقة تضع الامور في نصابها، فهي تعد علاقة الأبوين بالابناء ضمن إطار "الشفقة"، كما تجسد العلاقة بين الزوج و زوجته بما أوصانا القرآن الكريم بأن تكون ضمن إطار "المودة والرحمة"...

الحبّ؛ كلمة رقيقة، وفي نفس الوقت مفهوم عميق، من أفضل ما نحتاجه لمد جسور العلاقة بين طرفين؛ الأب مع أبنائه- الزوج مع زوجته- الصديق مع صديقه- وفي مستوى أعلى في النسيج الاجتماعي عندما يزيّن العلاقة بين الجماهير وقائدها.

ولرقّة الحب، في لفظها ودلالتها، نجدها تميّعت وعمّت العلاقات العاطفية والجنسية بين الرجل والمرأة، او بين الشاب والفتاة، فاذا وجهنا سؤالاً الى أحدهم، أو إحداهن، لوصف أعلى وأسمى علاقة تربطه بالطرف المقابل، يكون الجواب: الحُب! وهي الاجابة التي تعد عند الكثير قاعدة للزواج وتشكيل الأسرة والانجاب، وهو حقّ لا غبار عليه، وأمر مطلوب، بينما اذا تلونا القرآن الكريم نقرأ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، و{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، وفي جانب الكراهية نقرأ: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، حينئذ نعرف أن الحب مفهوم ذو أبعاد واسعة جداً ندركها بواسطة من جرّبه بكل أبعاده؛ العاطفية منها، والاجتماعية، والرسالية.

الحب لله فقط، هكذا تقول زينب

وهي صبية صغيرة السنّ، "أجلساها أبوها أمير المؤمنين في حجره، و راح يلاطفها و يتودد اليها، ثم سألها أن تقول: واحد، فقالت: واحد، ثم قال: قولي: اثنان، فسكتت! فقال لها: تكلمي يا قرّة عيني، فقالت: يا أبتاه! ما أطيق أن أقول اثنين بلسان أجريته بالواحد، فضمّها الى صدره، وقبلها بين عينيها"، (زينب الكبرى من المهد الى اللحد- آية الله المرحوم السيد كاظم القزويني".

إن زينب ابنة أمير المؤمنين، فتاة كأي فتاة أخرى في المدينة آنذاك، لها مشاعر مرهفة إزاء أبيها وأمها، وايضاً؛ إزاء إخوتها، قولبتها ضمن مفاهيم دقيقة تضع الامور في نصابها، فهي تعد علاقة الأبوين بالابناء ضمن إطار "الشفقة"، كما سيأتي في القصة التالية، كما تجسد العلاقة بين الزوج و زوجته بما أوصانا القرآن الكريم بأن تكون ضمن إطار "المودة والرحمة"، فقد كان الودّ هو الحاكم في علاقة العقيلة زينب بزوجها وابن عمّها؛ عبد الله بن جعفر الطيار، بينما الحب الرسالي كان يحكم علاقتها بالإمام الحسين، عليه السلام، وبالدور الريادي والاستثنائي في تأسيس مدرسة للتحدي والصبر والشجاعة والإصلاح، فالودّ والشفقة والحنان، كلها مفردات تتفرع من شجرة الحب الكبيرة، فهذه الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تقرر مصير الانسان في ديناه وآخرته، بينما أغصانها تقوم بدور إدارة العلاقات بين الافراد.

في نفس مؤلفه القيّم والرائع، يذكر آية الله القزويني –طاب ثراه- أن السيدة زينب "سألت أباها ذات يوم: أتحبنا يا أبتاه؟! فقال: عليه السلام: وكيف لا أحبكم وأنت ثمرة فؤادي، فقالت: يا أبتاه! إن الحب لله –تعالى- والشفقة لنا"، وهذه الحادثة الخاطفة في سيرة حياة أسرة أمير المؤمنين، تستوقفنا للتأمل أولاً؛ في ذكاء الفتاة الصغيرة بسؤال من هذا النوع، وهي لا تجهل الاجابة، ثم العمق المعرفي في التوضيح، لنتعلم كيف يجب ان تكون ثقافة الفتاة في مرحلة نضوجها الذهني والبدني، وضرورة ان يواكبه نضوج معرفي. 

الحبّ الزينبي يتغلّب على العاطفة

لو كان حب السيدة زينب لأخيها الامام الحسين، عليه السلام، عاطفياً، على أنه المحامي والكفيل والسند لها أمام التهديدات والملمّات، لما واكبته في مسيرة الموت نحو كربلاء، ربما –مع فرض المحال- كانت تبدي معارضتها لمشروعه الفدائي، أو أن تبقى في مكانها مع زوجها وابنائها، كما تفعل الكثير من النساء اليوم، فهي تتخذ قرارها بكامل حريتها، حسب قناعاتها، بيد أن القضية تختلف تماماً مع حب لا علاقة له بالعاطفة، وإن كان؛ فهي تأتي عابرة غير مهيمنة، فالمرأة تبكي بفقدان عزيزاً لها في كل الاحوال، بينما زينب التي بكت على علي الاكبر، وعلى العباس، ومن ثمّ على أخيها الامام الحسين، هي نفسها التي وضعت يديها تحت جثمانه الطاهر وقالت: "اللهم تقبّل هذا القربان من آل محمد". 

هنا يتجسّد الحب بمعانيه الحقيقية في ساحة المعركة بين جبهة الحق وجبهة الباطل، عندما يضع الحب صاحبه في أرقى مرتبة معرفية توثق علاقته بالسماء، وتهون عليه كل شيء في هذه الحياة يعدها من مسببات الهناء والراحة، من مال، و جاه، و أولاد، مما يعجز عن الاحتفاظ به طوال حياته، فهو يحب الفتاة الجميلة التي يتعرف عليها بالجامعة –مثلاً- أو الاموال التي يربحها في تجاربته، او العقارات الفاخرة في الاماكن المرموقة، والامتيازات والمناصب وما الى غيره من مظاهر الترف والغِنى، ولكن تقادم الزمن، وتقلبات الظروف السياسية والاجتماعية، ربما تجعله على حين غفلة، وحيداً في غرفة صغيرة لا يسأل عنه أحد.

فما قيمة هذا الحب الذي بنى حياته كلها عليه، وقد تحول بعد حين من الزمن الى خذلان، وخيانة؟ 

نعم؛ يوصينا ربنا –عزوّجل- بإظهار مشاعرنا المرهفة ذات الصلة العضوية بالفطرة السليمة التي أودعها فينا، من خلال "الودّ" وهي حالة أكثر دقّة في لغة المشاعر والعاطفة بين الافراد، وليست عامة وفضفاضة مثل "الحب"، فهو كمن يشرب الماء بإناء كبيرة مخصص لطبخ الطعام! 

حتى مشارعنا إزاء رسول الله، وهو نبينا الأكرم، وأهل بيته، عليهم السلام، وهي علاقة نعدها عابرة للعواطف والمشاعر، الى العقيدة والايمان، نجد القرآن الكريم يعلمنا بأن تكون من خلال "المودة"، فلا نقرأ آية توصينا بأن نحب نبينا وأهل بيته: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، بمعنى أن تكون علاقتنا بأهل بيت نبينا علاقة رعاية، وعناية، والتزام بحقوقهم ومنهجهم في الحياة، وهو ما عجز المسلمين عن فهمه، في صدر الإسلام، ويعاني من فهمه شريحة واسعة من المؤمنين حتى اليوم. 

اضف تعليق