q
نهضة الامام الحسين (ع) في جوهرها قامت في سبيل تحرير الانسان من الاستعباد ومواجهة الطغيان والطاغية الذي يستخدم قمعه وعنفه لإخضاع الاحرار وتحويلهم لعبيد، كانت نهضة الامام الحسين (ع) حركة عميقة في مواجهة الاستعباد وتحرير الانسان حدوثا وبقاء.. ورفض الظلم مطلقا، فالقبول بالظلم يعني القبول بالاستعباد...

قال الله تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) الأعراف 157.

حركة التاريخ كانت منذ البدء صراع مستمر بين الاستعباد والتحرر، استلاب الإرادة وقتل الكرامة من اجل الاخضاع والهيمنة، وكانت حركة الأنبياء والمصلحين في سبيل تحرير الانسان من الذل والاستكانة والخضوع.

هذا الخضوع للعيش تحت سياط الاذلال كان يتجه في نحوين، النحو الأول هيمنة الاستبداد والاستكبار والطغيان لسلب اختيار الانسان وتحطيم ارادته، النحو الثاني قابلية البشر للاستعباد وقبولهم بالأمر الواقع نتيجة للإرث التراكمي الثقافي في قبول العيش بلا كرامة.

قال تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) الزخرف 54.

نهضة الامام الحسين (عليه السلام) في جوهرها قامت في سبيل تحرير الانسان من الاستعباد ومواجهة الطغيان والطاغية الذي يستخدم قمعه وعنفه لإخضاع الاحرار وتحويلهم لعبيد، وقد قال (عليه السلام): (لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد).

من هنا سنحاول طرح مفهوم الاستعباد وأسباب قبول البشر به، وكيف كانت نهضة الامام الحسين (عليه السلام) حركة عميقة في مواجهة الاستعباد وتحرير الانسان حدوثا وبقاء. ونقدم مقترحات لحاضرنا ومستقبلنا في مواجهة مختلف أنواع الاستبداد والاستعباد.

في مفهوم العبودية

العبودية هي خضوع الإنسان لإنسانٍ آخر بحيث يُصبح مملوكًا له بشكل مباشر او خفي.

ولكن الانسان في غاية خلقه وفلسفة وجوده هو مالك لنفسه حرا في ارادته مستقلا في اختياراته، لذلك فإن العبودية الحقيقية هي العبودية لله تعالى وحده فقط الذي جعله حرا مختارا.

يقول الامام علي بن الحسين (عليهما السلام) في رسالة الحقوق: (وأما حق المنعم عليك بالولاء فأن تعلم أنه أنفق فيك ماله وأخرجك من ذل الرق ووحشته إلى عز الحرية وأنسها وأطلقك من أسر الملكة وفك عنك حلق العبودية وأوجدك رائحة العز وأخرجك من سجن القهر ودفع عنك العسر...).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (العبودية جوهرة كنهها الربوبية، فما فقد في العبودية وجد في الربوبية، وما خفي عن الربوبية أصيب في العبودية).

فالعبودية هو تحوّل المستعبَد بشكل قاهر او طوعي الى ملكية متسلط عليه والثاني وهو الطوعي الأخطر والأكثر بشاعة، وهو سبب كل المآسي التي يمر بها البشر.

أنواع العبودية

القابلية للاستعباد: هي القبول للعبودية كشكل من اشكال الحياة الحقيقية مع رفض أي تحرر او تفكير في التحرر.

العبودية الاستبدادية: هي ممارسة يتناقلها البشر فيما بينهم ويحاول كل مستبد صغيرا كان ام كبيرا ان يتسلط على الآخر.

العبودية المادية: عبادة المادة يجعله عبدا لكل ماتنتجه المادة ولأجلها يتخلى عن روحه واخلاقه وانسانيته.

العبودية بالذل: القبول بالأمر الواقع وعدم وجود أي استعداد لتحرر شعوره من عدم الجدوائية.

العبودية كحالة امنية: حيث يتخلى عن حريته في مقابل أمنه حيث يختلق المستبدون الازمات لاستمرار الهيمنة.

العبودية الخائفة: الخوف يجعل الانسان مستعبدا لكل ما يخاف منه.

العبودية الانانية: فالأناني هو عبد لمزاجه ونرجسيته بل يعتقد بكونه اهم من الاخرين.

العبودية الاقتصادية: وهذا نراه في الاقطاعيات والدولة الريعية المستبدة.

العبودية الاجتماعية: الخضوع للأعراف الاجتماعية وان كانت خاطئة ومحرمة شرعا وقانونا.

العبودية السياسية: القبول بالنظام الحاكم مهما كان منحرفا عن هدفه.

العبودية الثقافية: ان يكون خاضعا لأنواع التجهيل التضليل وغسل الدماغ، وعدم وجود حركة للتحرر من ربقة الجهل.

أسباب العبودية

1- التراكم الاجتماعي السيء الذي يؤدي تطبيع الاستعباد وتحوله الى طبع دائم.

2- ترسخ النظام الاستبدادي بشكل ساحق تاريخيا بحيث يصبح مقدسا لايمس. واذا تحرر المجتمع بفعل عامل خارجي فانهم يحنون للاستعباد بل يخلقونه من جديد.

3- مسخ هوية الانسان وكرامته وارادته بحيث يفقد كل إحساس وشعور باستقلال وجوده وعدم تبعيته.

4- التربية على الخضوع منذ الصغر بحيث يفقد الانسان أي معنى للحرية والكرامة.

5- التعلق الكبير بالدنيا فان حب الدنيا رأس كل خطيئة، والطمع يجعله عبدا لأسوء نزواته.

6- الخوف الدائم من تحمل أعباء فعل الإرادة وبالتالي مسؤولية العمل.

7- الركود الاجتماعي والسكون عن تحمل المسؤولية يخلق كل أسباب الهيمنة وتسلط الفاسدين، فالحياد واللامبالاة والانزواء والاشتغال بالمصالح الذاتية يؤسس لاستعباد خفي تمارسه مختلف القوى المستعبدة.

8- القبول بالباطل هو عمل به وبالتالي فتح الطريق امام الانحراف وتكريس الاستعباد الذاتي.

9- القبول بالعنف كسلوك ثابت للتعبير عن العنفوان والاحساس بالتجبر، بالتالي لم تكن الحروب والصراعات الا ممارسة تكرس العبودية والذل.

الامام الحسين (عليه السلام) في مواجهة الاستعباد

الحياة مع الظالمين

كانت حركة الامام الحسين (عليه السلام) قائمة على منهجية واضحة تؤكد على رفض الظلم مطلقا، فالقبول بالظلم يعني القبول بالاستعباد، حيث قال (عليه السلام) لمحمد بن الحنفية: (يا أخي والله لو لم يكن ملجأ، ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية. فالبيعة تعني الخضوع وإعطاء الشرعية للظالم). وقال (عليه السلام): (فإنّي ﻻ أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً).

الحياة في ذل

كما ان معنى الحياة هو العيش بكرامة ورفض أي نوع من أنواع الذل مهما كانت الضغوط، حيث يقول (عليه السلام): (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنين وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).

رفض الباطل

التعايش مع الباطل يفتح الطريق لكل الرذائل التي تنشر الاستعباد وبالتالي يصبح المجتمع رهينة للفاسدين، فالمجتمعات المستعبدة هي التي فضلت الركون للباطل وتركت الاصلاح فأصبحت مجتمعات هشة متحطمة، وقد قال الامام الحسين (عليه السلام): (وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في امّة جدّي (صلى الله عليه وآله) اريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر). وقال (عليه السلام): (ألا ترون إلى الحق ﻻ يعمل به، وإلى الباطل ﻻ يتناهى، عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً فإنّي ﻻ أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً).

العبودية للدنيا

وقد اعتبر الامام (عليه السلام) ان السبب الرئيسي لهذا الخضوع والاذعان للأمر الواقع هو الخوف من فقدان المكاسب في الدنيا، لذا تتأصل العبودية الدنيوية ويصبح الدين مجرد اطار لهذه العبودية، حيث يقول (عليه السلام): (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون).

بصيرة الانتصار

عبودية المادة تجعل الناس عبدا لحواسه القائمة على النفعية واللذة الآنية، فيفتقد الرؤية للواقع ومابعد عالم الحواس، وقد كانت عاشوراء رؤية عميقة ممتدة للمستقبل تحقق اليقين الإنساني والاطمئنان الروحي والاستقرار النفسي، يقول الامام الصادق (عليه السلام): (كان عمنا العباس بن علي نافذ البصيرة، صلب الإيمان جاهد مع أبي عبد الله عليه السلام وابلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً). وفقدان البصيرة يزعزع الايمان ويتسرب الشك والشك هو الطريق للاستكانة للأمر الواقع، وهذا ما رأيناه في الذين تركوا الامام الحسين (عليه السلام) في عاشوراء.

التضحية عطاء بلا حدود

التضحية تعبير عن أعظم معاني الانسان، فهو السمو عن الذات وارتقاء الانسان عن عبودية المادة، وقد كانت عاشوراء معركة التضحيات، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في زيارة جده الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم الأربعين: (وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة). وقد رأينا تضحية الامام الحسين (عليه السلام) بنفسه وأولاده وعائلته في سبيل استنقاذ الناس من عبودية الجهل والانحراف.

صبر الأقوياء

الصبر في مواجهة الشدائد هو أعظم مستويات التحرر، يقول الإمام علي (عليه السلام) في صفة المتقين: (صبروا أياما قصيرة، أعقبتهم راحة طويلة). ويقول رسول الله (ص): (إن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا). والكثير من الناس يخضعون للأمر الواقع عندما يفتقدون القدرة على التحمل. وقد رأينا ملحمة الصبر في عاشوراء وكيف تجسد صبر الامام الحسين (عليه السلام) في قضية مقتل الرضيع، عندما قال: (هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله).

وروى ولده علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) الصور المذهلة عن صبر أبيه وصموده قال: (كان كلما يشتد الأمر يشرق لونه، وتطمئن جوارحه)، وقال بعضهم: انظروا كيف لا يبالي بالموت.. ويقول عبد اللّه بن عمار:... فو اللّه ما رأيت مكثورا قد قتل أولاده وأصحابه اربط جأشا منه، ولا أمضى جنانا منه، وو اللّه ما رأيت قبله ولا بعده مثله..

وكذلك عندما وقفت حفيدة الرسول (ص) وابنة أمير المؤمنين (عليه السلام) العقيلة زينب عليها السلام على جثمان أخيها العظيم الذي مزقته السيوف، وجعلت تطيل النظر إليه ورفعت بصرها نحو السماء وهي تدعو بحرارة قائلة: (اللهم تقبل هذا القربان).

شجاعة الصامدين

الشجاعة ليست فيما تملكه من سلاح بل بما تملكه من قدرة على التحرر من الطمع والغنائم والثبات على المبادئ، فالانتصار هو بالتحرر من العبودية والذل، والجبن القبول والاذعان للعبودية، واحد أسباب الهزيمة هو الخوف الامام الصادق (عليه السلام) يقول: (من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء). وقال (عليه السلام): (من عرف الله خاف الله ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا). يقول الامام علي (عليه السلام): (لو تميزت الأشياء لكان الصدق مع الشجاعة، وكان الجبن مع الكذب).

وعن رسول الله أن (الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مسلم)، ويقول الامام علي (عليه السلام) (والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر. ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة. ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة..).

وكانت عاشوراء انتصار الشجاعة وان أدت الى الموت، وهزيمة العبودية وان كانت تعني حياة قصيرة.

مقترحات وتوصيات

1- التركيز في التربية والتنشئة على القيم الحسينية وفضائل التحرر مثل التضحية والشجاعة والبصيرة، ونبذ رذائل الاستعباد مثل الجبن والجزع والشك والكذب والانتهازية.

2- التربية على عدم الخوف الا من الله تعالى فالتربية على الخوف التي نراها في مجتمعاتنا تربي على الاستكانة والخضوع. ورفض الباطل وعدم القبول به.

3- تشجيع شبابنا واطفالنا على المشاركة في الشعائر والمواكب والمجالس الحسينة فإنها طريق لتعلم العطاء والتضحية والتعاون والتكافل والتفاعل الوجداني.

4- ضرورة بناء المسؤولية فإنها طريق لبناء إرادة الانسان وتفكره وعقلانيته، ونبذ حالات الإحباط واللامبالاة واليأس التي ترسخ الانكفاء.

5- التأكيد على نبذ الغلو الاستهلاكي وانماط الاسراف والتبذير من خلال نشر ثقافة الترشيد والاعتدال، والتربية على ان العيش المادي مجرد وسيلة وليس هدفا.

6- مكافحة الاستبداد بكل انواعه ومستوياته لأنه يجعل من العبودية امرا طبيعيا.

7- ان يكون الإصلاح منهجا ثابتا في كل أنواع التربية والتعليم بحيث يصبح سلوكا دائما في حياتنا.

8- من المهم دراسة القضية الحسينة باعتباره حدثا مؤثرا بعمق في حياتنا، عبر كتابة البحوث والدراسات الإبداعية وإقامة المؤتمرات والندوات، واستنباط العبر والدروس التي تحقق التحرر في حياتنا وتحجم الاستعباد والذل.

* ورقة مقدمة الى الملتقى الفكري الذي عقدة مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

اضف تعليق