q
اليوم، نرى أن البراغماتية النفعية؛ تتسلل إلى الكتابات المُفَسِّرة لقضية إنسانية عظيمة، كقضية استشهاد الإمام الحسين (ع)، حيث يرى النفعيون أن الإمام الحسين اقترف عملاً خاطئاً حين صدَّقَ الرسائل التي وصلت إليه، وبالتالي انتهى الأمر إلى مقتله دون الظفر بالسلطة التي كان يريدها. مثل هكذا منطق بليد لا يمكن له أن يصمد أمام حقائق النهضة الحسينية...

كل من يعتمد النظرية (النفعية) في تفسيره للأشياء والأحداث؛ سيكون لتفسيره وشرحه طابع انفعالي لن يأتي بنتائج مرجوة، خصوصاً لو أثبت التقادم الزمني انفعاله، ونقضت الأحداث المتلاحقة ما جاء به من فكرة. لابد من اشتغال فكري جاد، وجهود معرفية كبيرة؛ لتحرير العقول من المنطق الميكيافيللي النفعي، خصوصاً ونحن نشهد تفسيرات موالية لهذه البراغماتية المتنامية في صفوف كثيرين من الكتاب لأحداث صار لخلودها في الفكر الإنساني أثرٌ لن ينكره إلا ذوو النظرة الضيقة، البعيدون عن البصيرة.

اليوم، نرى أن البراغماتية النفعية؛ تتسلل إلى الكتابات المُفَسِّرة لقضية إنسانية عظيمة، كقضية استشهاد الإمام الحسين (ع)، حيث يرى النفعيون أن الإمام الحسين اقترف عملاً خاطئاً حين صدَّقَ الرسائل التي وصلت إليه، وبالتالي انتهى الأمر إلى مقتله دون الظفر بالسلطة التي كان يريدها. مثل هكذا منطق بليد لا يمكن له أن يصمد أمام حقائق النهضة الحسينية، فشتان بين رؤية تقوم على إصلاح المفاسد، والثورة على الطغيان، وبين أخرى تنظر من زاوية المكسب السياسي، والمغنم الشخصي، وقياس النتائج وفق نظرة مادية. والغريب أن الذين يقيسون النتائج براغماتياً لايلتفتون إلى النتائج المستقبلية وهي شاخصة أمام أعينهم، الأمر الذي يجعلنا إزاء حقيقة غاية في الخطورة، تتمثل في المفكر الذي يعطي الرؤى والأفكار معتمداً على معطيات المرحلة السياسية التي يعاصرها، فيكون بعيداً كل البعد عن الحقيقة، أو ربما هو قريب منها لكنه يغمض عينيه عنها؛ من أجل غاية تتعلق بنفعيته التي آمن بها فكرة وسلوكاً.

وبالعودة لتفسير القضية العاشورائية وفق المنطق النفعي؛ نجد أن المقبولية الانفعالية لهكذا تفسيرات تأخذ شكلاً مذهبياً حيناً، وإيديولوجياً حيناً آخر، ويلزم التنبيه من خطورة هذا الانفعال الذي قد يؤدي إلى حالة من الصدام المجتمعي، فيتهدد السلم الأهلي، وتنحسر قيم التعايش والتسامح، خصوصاً وأن الهجوم على قيم عاشوراء ورموزها مستمرة بنسق متصاعد.

ومخطىءٌ من يعتقد أن هذا الهجوم التفسيري وليد أزمنة قريبة، أو أن هيمنة الوسائل الاتصالية، وإتاحتها فرصة التبادل المعرفي هي من حرّك هذا الاختلاف أو الانفعال؛ لأن النظرة البراغماتية تجاه قضية عاشوراء تمتد زمنياً إلى حقب تاريخية تسبق العولمة ومعطياتها الاتصالية بقرون.

في عام 1926 صدر كتاب بعنوان (الدولة الأموية في الشام) ومؤلفه (أنيس زكريا النصولي)، وقد تناول الكتاب هذه النظرة البراغماتية التي مجدت بالطغاة، وبذكائهم في شراء ذمم الآخرين على حساب القيم والمبادىء. الكتاب تم طبعه في بغداد حيث كان المؤلف أستاذاً منتدباً من سوريا للعمل في وزارة المعارف العراقية آنذاك، وقد أحدث كتابه ضجة كبيرة وانقساماً طائفياً هائلاً إذا ماأخذنا بنظر الاعتبار التركيبة المجتمعية العراقية، فكثرت المطالبات بطرد النصولي وإعادته إلى بلده؛ لأنه تجاوز على مشاعر أكثرية العراقيين، وأشد المطالبات كانت في النجف حيث كان الملك فيصل الأول في زيارة للمدينة.

وبالمقابل، خرجت تظاهرة طلابية مكونة من مئات لتأييد النصولي تحت يافطة حرية الفكر، وهي اليافطة التي يبدو أنها تُقرأ لغاية اليوم بطريقة مقلوبة، فحدث خلاف في وقتها بين وزير المعارف (عبد المهدي المنتفجي) و (ساطع الحصري) الذي كان يشغل منصب مدير عام المعارف حيث اتهم المنتفجي المديرَ العام بأنه شجع النصولي على طباعة هذا الكتاب المستفز للمشاعر الدينية بحجة حرية الفكر. ومن بداية هذا الكتاب، ومن الإهداء يمكن أن نلمس مقاصد المؤلف، حيث جاء الإهداء بهذه الكلمات: "من أحق بتاريخ أمية من بني أمية، ومن أحق بتاريخ معاوية والوليد من أبناء معاوية والوليد، فاقبلوا ياأبناء سورية الباسلة المستقلة المتحدة هذه الثمرة الصغيرة"

والواضح من الإهداء أن الخطاب موجه للسوريين، وبتحليل بسيط لماسبق الخطاب من كلمات، ولطبع الكتاب في العراق تحديداً، مع ربطهما في الخلاف بين وزير المعارف والمدير العام؛ سيتضح لنا الفهم الخاطىء والمقلوب لعبارة "حرية الفكر"، فأي حرية تجعلك تستهين بمشاعر الملايين لدرجة إحداث الانقسام، وتهديد التعايش والسلم الأهليين عبر قناعات موهومة ومغلوطة، أو لنقل بصراحة قناعات نفعية براغماتية؟

ويبقى السؤال المحوري: متى يقتنع البراغماتيون النفعيون بسطوع الحقيقة العاشورائية التي تُزَيِّتُها كربلاء في كل سنة وبصور خلّاقة ومبدعة تلهم الإنسانية؟

الحقائق واضحة وضوح الشمس، والإمام الحسين (ع) لايمكن أن ينهض وفق عقلية شراء ذمم الآخرين، فهو ابن الرسالة المحمدية العظيمة، وهذا لايعني أنه يستغل هذه المكانة النسبية لتحقيق أغراضه كما جاء في كتاب (أنيس النصولي) فالقيمة الحسينية أكبر وأعمق بكثير من تلك الرؤى النمطية السطحية الغالبة على الذهنيات المُربَكة مذهبياً وإيديولوجياً. عاشوراء هي أيقونة انتصار الهوامش الثائرة على المتون الفاسدة والمستبدة، عاشوراء تجسيد عملي لمنطق السماء، وإرادة الله في تحقق قيمة الإنسان وكينونته.

اضف تعليق