نهاية داعش، باتت في حكم الأهداف المؤكَّدة، وهذه نتيجة يؤكدها أعداء العراق قبل أصدقائه، نعم لقد انتهى هذا التنظيم المجرم المتطرف، وكل ما يُشاع عن ظهور نسخة جديدة لداعش أشد فتكا ووحشية من الأولى، يدخل في باب الحرب النفسية التي خبرها العراقيون ودرسوها جيدا، وعايشوها وتعلموا مواجهتها بأساليب نفسية مدروسة مسبقا، فها هي النسخة الأصلية للتنظيم الارهابي (داعش) تلفظ آخر أنفاسها، وتدخل في مرحلة الطمر النهائي في مزابل التاريخ.
فما هي إلا جولة عصماء، في الموصل وأطرافها، ويتم طرد آخر جرذ داعشي من أرض البطولة والسخاء، أرض العراق المشرفة بالأنبياء والأولياء والرموز العظيمة الخالدة، لتبقى هذه الأرض محصَّنة مصانة كما هي على مر التاريخ، ولكن في مراجعة سريعة لما جرى خلال العقد المنصرم من عمر التغيير بعد نيسان 2003، هناك سؤال يلحّ على الجميع، لماذا فشل العراقيون حتى الآن في بناء دولتهم المدنية المحدثة، ولماذا لم تستطع الطبقة السياسية من تشييد مؤسسات مستقلة تحصّن النظام السياسي من الفساد الاداري والمالي؟.
إن الإجابة بدقة عن هذه التساؤلات في غاية الأهمية، لسبب واضح، أن هذه الأجوبة سوف تجعل المعنيين في صناعة القرار، على اطلاع على أسباب الفشل في بناء الدولة العراقية التعددية المنضبطة وفق دستور دائم، وعندما يتم معرفة أسباب الاخفاق في بناء الدولة والنظام السياسي المحدث، فإن ذلك سوف يسهم بصورة فعالة على معالجة الاخطاء، والنهوض في البلد والعبور به الى ضفة الاستقرار والتقدم، بعد أن تعرض لموجات الفساد التي ضربته بشدة، فحطمت البنى السياسية والادارية والاقتصادية، وكافة البنى التي تقدم الخدمات الأساسية للشعب، من باب التعويض عن مراحل الأنظمة السياسية الفاشلة ابان الانقلابات العسكرية.
ولذلك تعد معارك الفلوجة والانتصارات المذهلة والسريعة التي نتجت عنها، بداية راسخة لبناء دولة عراقية جديدة، وليس العكس كما يحاول أن يشيع بعض الساسة والجهات غير الحيادية، فهناك من يروج اليوم لدولة عراقية مفككة فيما بعد مرحلة داعش، أي أن الخلاص من التنظيم الاجرامي لن يقود العراقيين بحسب وجهة نظرهم الى دولة الدستور الدائم ودولة المؤسسات والتداول السلمي للسلطة، بلهي دولة مفككة الى أقاليم ضعيفة.
ولكن هذا المنطق لا يصمد أما الحقائق القائمة على الارض، إن الانتصارات الكبيرة التي تعاقبت ضد داعش على نحو ناجح في تكريت ثم الأنبار ثم الفلوجة فالشرقاط فالموصل، هذه المعارك، تفند نظرية الدولة العراقية المفككة، بل تذهب الى بناء الدولة القوية ذات النظام السياسي الديمقراطي التعددي.
هل خططنا مثلما يخططون؟
السؤال الآخر الذي يفرض نفسه على المعنيين بالشأن العراقي السياسي، هو هل تم التخطيط فعلا لبناء دولة جديدة بنظام حكومي دستوري محدث؟ وهل قامت النخب السياسية والمعنية الأخرى، بالتخطيط لمرحلة ما بعد داعش بصورة دقيقة مثلما خطط أعداء العراق لهذه المرحلة الحاسمة؟.
ان الاخرين في الجهة المقابلة للعراق يروجون لاهدافهم ويقومون بتسريبها عبر وسائل الاعلام المتنوعة، بأشكال وأساليب وصور تبدو انها طبيعية وغير مخطط لها، ولكن الامر في واقع الحال مخطَّط له ولا يجري اعتباطا، فالعوامل التي تتعلق بتقسيم العراق يجري العمل عليها وفق الخارطة المرسومة من الجهات الدولية والاقليمية والمحلية التي تهدف الى القضاء الكلي على الشعور الشعبي بالمواطنة، والهدف من ذلك خلق دولة عراقية مفككة وضعيفة، تسهل معها السيطرة على ثرواته النفطية وسواها، وهذا هو الهدف رقم واحد لأعداء العراقيين.
بطبيعة الحال نحن نرفض العودة الى الوراء، ولا نريد نظاما مركزيا يكبت انفاس العراقيين كما حدث سابقا، ولكن هذا لا يعني التفريط بدولة المواطنة، فنحن كعراقيين لا نريد أن نكون أما خيارين كلاهما لا يليق بنا كشعب عريق، نحن نرفض الدكتاتورية للنظام السياسي الحاكم، وفي الوقت نفسه لا نريد للنظام الديمقراطي أن يلغي دولة المواطنة، نحن نريد أن نشعر بأننا نعيش في دولة عراقية قوية مستقلة، يقودها نظام ديمقراطي تعددي.
وليس هذا بالأمر المستحيل، فمعظم دول العالم المتقدم، تحتفظ بهذين الشرطين (الدولة القوية المستقرة بنظام ديمقراطي محدث)، هذا ما ينبغي أن يتحقق للعراقيين بعد هذه التضحيات العظيمة التي قدمها الشعب عبر مسيرة المكللة بالدماء، وآخرها هذه التضحيات البليغة في رحلة تحرير المدن التي دنستها عصابات داعش، ولكنها اليوم تلفظ آخر أنفاسها في الفلوجة ثم أطراف الموصل، ثم الموصل نفسها، ليعود العراق كله الى العراقيين، بسيادة كاملة، وتحت حكم عراقي تقوده الارادة الوطنية التي تستند الى تأييد الشعب والتفافه حول منظومة القيادة الدستورية بسلطاتها الثلاث المستقلة عن بعضها استقلالا تاما لا رجعة فيه.
هناك من يقول، أن تفكيك العراق بعد داعش اصبح حقيقة لا مفر منها، بعد أن تم التخطيط لذلك وفق اساليب متعددة، تقوم على انواع القوة، ومنها (سياسة القوة الناعمة)، أو القوة المباشرة من اطراف ودول اقليمية وكبرى، ولكن هناك من يسعى من العراقيين الى بناء دولة المواطنة، وهو هدف على الرغم من انه غائب عن الرؤى السياسية المطروحة، ولكن ليس هناك مناص من العمل نحو تحقيق دولة المواطنة، وفق تخطيط مدروس وموضوع من جهات وكفاءات متخصصة في هذا المجال.
الفرصة سانحة أمام المعنيين
كل الأمور التي تمس حياة الانسان، يمكن التحقق منها عبر التحليل السليم، وتحليل المختصين لمعارك الفلوجة، والنتائج الكبيرة التي تحققت عسكريا على الارض، تحسم وجود الارادة السياسية الوطنية، وهذا يؤكد القدرة على بناء دولة المواطنة بنظام ديمقراطي تعددي، إن الربط بين الانتصارات الكبيرة على داعش، وبين مستقبل الدولة العراقية الناهض الى الأمام، امر يكاد أن يكون محسوما.
فلا يمكن لدولة تمتلك هذا النوع من التشكيلات المقاتلة، كلها تأتمر بأمرة قيادة عسكرية واحدة، لا يمكن لمثل هذه الدولة ان تكون تحت رحمة التهديد بتفكيك مكوناتها جغرافيا وسياسيا واجتماعيا، لاسيما أن هناك توجّه شعبي داعم لمؤازرة القوة السياسية التي تهدف الى ترسيخ دولة المواطنة بين العراقيين، وهناك من يحاول التفريق بين العراقيين على اساس تفضيل الهوية الفرعية وتقديمها على الهوية الوطنية.
ان هذه التفرقة بين الهوية الام والهوية الفرعية لا تضارب بينهما، خاصة أننا نتطلع الى بناء دولة ذات نظام تعددي يقبل جميع المكونات ضمن دولة مدنية تكون قادرة على حماية حقوق الجميع بصورة متساوية، وهو امر قابل للتحقيق اذا ما تم استثمار الانتصارات العسكرية بصورة سليمة وتوظيفها لبناء دولة العراق الدستورية المحدثة.
لذا نحن نتوقع من الطبقة السياسية وكل من يهمهم الامر، ان هناك تخطيطا دقيقا وتمهيدا على مدار الساعة، لاستكمال خريطة ما بعد داعش التي ترفض تفكيك العراق، وتركز على الأسس الوطنية الراسخة في بناء دولة عراقية واحدة، بحكومة لا مركزية، يضبطها نظام دستوري، ومؤسسات مستقلة قوية، قادرة على تقديم الحماية للجميع، وخاصة في مجال الحقوق والحريات وتوزيع الثروات وضمان حرية الرأي، والتعددية في الفكر والسلوك، هذا كله متاح ضمن الفرص الراهنة والقادمة، اذا ما احسن السياسيون العراقيون توظيف الانتصارات العسكرية وتوجيهها في المسارات الدقيقة لبناء الدولة العراقية.
اضف تعليق