يقول الله تعالى: (ولن تجد لسنة الله تحويلا) (فاطر: 43)، و(لن تجد لسنة الله تبديلا)(الأحزاب: 62)، و(فطرة الله التي فطر الناس عليها) (الروم: 30).

بمقارنة بسيطة بين إنسان اليوم وإنسان الأمس نجد أن هنالك تشابهاً واضحاً في الأفعال والتصرفات والحاجات، فهو اليوم كما في الأمس يأكل ويتزوج ويغضب ويفرح ويبني ويسافر ويكد ويقاتل و.. فاليوم كالأمس بلا اختلاف، إلاّ في طريقة التعبير والوسائل.

وما ذلك إلاّ لتلك السنّة وتلك الفطرة.

إن السنن الكونية كانت ولا تزال على وتيرة واحدة، وإن فطرة الإنسان على شكل واحد لم يغيرها خالقها بل لن يغيرها.

وعلى الإنسان في مرحلة العمل أن ينسجم مع تلك السنن وإلا فإنه يضر نفسه قبل غيره، وفي الوقت نفسه عليه أن يكدح ويكد لتطوير وسائله التي تتناسب مع تلكم السنن والفطرة؛ إنه يحتاج إلى الملبس ليقي نفسه الحرّ والبرد لكنه طوّر الملبس من أوراق الأشجار إلى فراء الحيوانات إلى منسوجات اليد، وتفنن فيها وفي ألوانها وأشكالها، لكن بقي الملبس نفسه والحاجة إليه نفسها، إنه تطور لكنه ضمن الحاجة وضمن الإطار المحدود.

فالوسطية في هذا الأمر هي المطلوبة؛ لا تنازل عن الثوابت، ولا رفض للتطور، وفي الحديث الشريف (من استوى يوماه فهو مغبون)(1)، لأنه فقد رأس ماله وهو العمر ولم يعوضه بشيء.

في حين أن الكثيرين وقعوا في إفراط وتفريط؛ فالبعض تنازل أو استعد للتنازل عن الثوابت، ظناً منه أنه تطور، في حين أن البعض بقي جامداً يرفض أي نوع من التطور، مثلاً:

تخريب تمثال بوذا في أفغانستان:

لا تؤكد الوقائع إن هذا التخريب ابتدأ من منطلق ديني، بل انطلق من منطلق سياسي، لجلب الأنظار إلى هذه الحركة كما يرى ذلك المحللون السياسيون، وللتحول ممن يستجدي إلى من يتوسل إليه، فإن الإسلام رفض عبادة الأصنام، والرسول(ص) أمر بتكسير الأصنام التي كانت في جوف الكعبة، ولكن الصنم غير التمثال، لأن الصنم هو ما اتخذ للعبادة في أية صورة كانت، وبعض أصنام الجاهلية كانت أحجاراً مجردة عن أي تمثال، وأما التمثال فهو صورة الشيء مجسمة، سواء أكانت صورة بشرية أم غيرها، وإذا لم تتخذ للعبادة فلا محذور شرعي فيها، بل كان بعض الأنبياء(ع) يشاءون صنع التماثيل لهم، كما قال تعالى (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل) (سبأ: 13)، والمسلمون حينما كانوا يفتحون البلاد لم يحطموا التماثيل التي لم تؤخذ للعبادة، وهذا أبو الهول قائم منذ الفتح الإسلامي وإلى يومنا هذا، وهكذا تماثيل أخرى..

فالرؤية المتزمتة لتمثال بوذا واعتباره صنماً دفع طالبان إلى تحطيمه مع أنه لم يكن يعبد، وقد سبب ذلك فيما سبب إثارة النزعات الطائفية وتشويه صورة الإسلام وتضييع الآثار التاريخية للحضارة الإنسانية.

مثال آخر:

إن الإسلام أمر بالنظم والانضباط؛ ففي القرآن الكريم: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) (الصف: 4)، وقال أمير المؤمنين (ع) في وصيته: (ونظم أمركم)(2)، وهذا أمر عقلي قبل أن يكون شرعياً، فالنظم في الحركة والمرور والفكر والنشاط الاجتماعي والدراسة و.. أمور يدرك حسنها جميع العقلاء، ذلك لأن النظم يسهّل على الإنسان الوصول إلى مبتغاه من دون ضياع الوقت والجهد.

وهذا النظم يختلف من مكان إلى آخر ومن زمان إلى زمان آخر، فكل زمان وكل مكان تختلف أساليب النظم فيهما عن الزمان والمكان الآخر، لكن الجوهر والروح هو النظم.

وفي العصور المتأخرة ظهرت فكرة الحزب الذي هو عبارة عن تنظيم الجهود والأفراد لأغراض سياسية، وقد نظمت هذه الفكرة الجهود وسهّلت إيصال الأفكار والآراء إلى الجمهور والناس.

لكن هذه الفكرة وُوجهت بالرفض في كثير من البلدان الإسلامية، لأن الأحزاب الأولى كانت - عادةً - مرتبطة بالاستعمار، وعملت لتمزيق بلاد الإسلام، ونشر مبادئ الكفر والإلحاد، مضافاً إلى أن كثيراً من الأحزاب الإسلامية لم يكن سيرها على جادة الصواب، فاصطدمت بالمجتمع، أو دخلت في صراعات هامشية، وهذا التزامن سبب توهم أن الحزب والاستعمار كلمتان مترادفتان، وهذه القضية الاتفاقية - حسب تعبير المنطقيين - سببت رفض هذه الفكرة، مع أن جوهر الفكرة وهي النظام مما دعا إليه الإسلام، وهذا من المشاكل التي يقع فيها الكثير حين يخلطون بين الفكرة والتطبيق، مع أنه لا يوجد تلازم بين صحة الفكرة وصحة التطبيق، فكم من فكرة صحيحة لا تطبق تطبيقاً صحيحاً، وكم من فكرة خاطئة تطبق بطريقة منظمة.

ولذا نجد كثيراً من العلماء عارضوا الأحزاب لكنهم صرحوا أو ساهموا في تأسيس التنظيم الديني، مثلاً آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره) انتقد الأحزاب في كتابه القيّم (كلمة الإسلام) ثم دعا في كلمات له إلى تأسيس تنظيم ديني يضم رجال الدين(3).

وعلى العكس من ذلك:

نرى البعض تنازل عن كل شيء أو بعض الثوابت ظناً منه أنها تمنع التطور، ويتجلى ذلك في عدة أمور.

1) الانهزامية:

إن الشعور بالخجل من المبدأ الذي يحمله الإنسان أو الممارسة التي يمارسها هو من مظاهر هذه الحالة.

فإن البعض ينبهر بإنجازات الآخرين، ولأنه غير مقتنع بمعتقده، يشعر بأن إنجازاتهم إنما هي لأجل مبادئهم ومعتقداتهم؛ فهو يحاول التخلي عن معتقده أو مبدأه كلّما تمكن من ذلك، فالبعض ترك مبادئه، والبعض الآخر حافظ على إسلاميته، لكن مع التنازل عن كثير من ثوابت الإسلام؛ فكأنه اتخذ من الدين قميصاً يحفظ به صبغته الدينية، أو لأن مصالحه مرتبطة بالحالة الدينية.

وكردّ على هذه الحالة فإن القرآن الكريم أكثر من بيان استهزاء الكفار بالأنبياء، بل حتى أنه نقل عباراتهم واتهامهم الأنبياء بالجنون وغيره، وحالة الاستهزاء هذه شملت جميع الأنبياء، قال تعالى: (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) (يس: 30)، وكلمتا (ما، إلا) تفيدان العموم، وكان نصيب رسول الله محمد (ص) من الاستهزاء أكثر من جميع الأنبياء وكلمته(ص) مشهورة: (ما أوذي نبي مثلما أوذيت)(4).

ومن مظاهر هذه الحالة:

* التخلي عن الحجاب أو الشعور بالحرج منه، وكذلك عموم المسائل المرتبطة بالنساء والزواج وآداب المعاشرة.

إن الاستعداد للتخلي عن أمر صغير -حتى وإن لم يكن مهماً- إرضاءً للآخرين هو مقدمة للسقوط في الهوة السحيقة بالتخلي عما هو أكبر وأهم، وذلك لا يفيد شيئاً في رضاهم، فقد قال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى) (البقرة: 120)، ويتجلى ذلك واضحاً حينما نلاحظ الحالة التركية حيث منع العسكر الحاكم هناك ومنذ ما يقارب الثمانين عاماً مظاهر الإسلام بشتى الوسائل والحجج، لكن مادام اسم الإسلام موجوداً فإنها لن تقبل في الاتحاد الأوربي حتى أنهم رفضوا جعل اسم تركيا ضمن قائمة المرشحين للالتحاق بهذا الاتحاد.

وفي ملاحظة بسيطة لأوضاع الغرب نلاحظ أنهم لم يتخلوا عن الأمور البشعة والقبيحة التي يدرك بشاعتها وقبحها كل أحد، بل استمروا على ذلك النهج وملأوا الدنيا صخباً وضجيجاً، بحيث أزالوا قبح القبائح وفرضوا أمراً واقعاً، فنلاحظ مثلاً انتشار المواخير والترويج للفساد والفحشاء عبر جميع الوسائل، من إذاعات وأقمار صناعية وانترنيت وغيرها.. ولم يمنعهم عن ذلك قبح الأمر والاستهزاء به من قبل الآخرين بل أصروا وجنّدوا جميع الوسائل لذلك حتى صار الأمر طبيعياً لدى الكثيرين، وهكذا بالنسبة لأمور بشعة أخرى جعلوها أمراً واقعاً، هذا في باطلهم، ونحن في حقنا يجب أن لا نهتم بالمستهزئين، وأن لا نشعر بحرج من الأحكام الشرعية الإلهية بل نستقيم حتى نحول الأمور الشرعية إلى أمر واقع طبيعي، وقال تعالى: (فاستقم كما أمرت) (هود: 112)، وقال: (إنا كفيناك المستهزئين) (الحجر: 95).

* والمناداة بالتخلي عن المستحبات والمباحات وحتى العادات التي لا تتعارض مع الشرع، إرضاءً للغير أو كفاً لاستهزائهم، دعوة غير صحيحة؛ ذلك أنها ستؤدي في النهاية إلى الشعور بلزوم التخلي عن الواجبات والمحرمات.

ومن هذا المنطلق نرى الشرع قد جعل لأحكامه وشرائعه أجواءً وسدوداً دفاعية، وكثير من الأحكام الشرعية لها ملازمات وأمور لا ربط لها بجوهر الحكم، سوى إيجاد الأجواء المناسبة لذلك الحكم، ومن هنا ورد الحديث: (فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه)(5)؛ إن مناطق الخطر يُجعل حولها تحصينات، لكي لا يفاجأ الإنسان بالسقوط فيها، وإن التخلي عن تلك الحصون والسدود سيؤدي في النهاية إلى السقوط في الهاوية.

2) اتباع الغير بلا دراية

إن اتباع الغير من غير بينة لأمر مبغوض عقلاً، وخاصة إذا كان ذلك الغير على غير صواب، ويستثنى من ذلك الاتباع عن علم ودراية، أو الرجوع إلى أهل الاختصاص واتباعهم في اختصاصهم، أو إذا تبين عن علم ويقين للإنسان عدم صحة أسلوبه وصحة أسلوب الآخرين، أما في غير ذلك فالاتباع الأعمى والاتباع الأجوائي الذي لا يلاحظ فيه إلا مسايرة الأجواء المحيطة، فهو لا يجر على الإنسان إلا الخسارة والويل.

ولذا فإن القرآن يذمّ اتباع ضلال الآباء، ويدعو الناس إلى تحكيم العقل، وانطلاقاً من ذلك قال الفقهاء بعدم جواز التقليد في أصول الدين، بل يجب على الكل الاعتقاد بها عن بينة وبرهان.

إن اتباع الغرب في كل شيء ليس تطوراً، بل التطور هو الأخذ بالصحيح وترك القبيح من تصرفاتهم، وإذا كانت هنالك عادات لهم لكنها غير مرتبطة بالتطور فإنه لا يصح اتباعهم في ذلك؛ فإن الاتباع فيه مقدمة للتخلي عن أمور مهمة.

وحينما دخل الاستعمار في بلادنا حاول فرض ثقافته في كل شيء، وبدأ من صغار الأمور، ومن العادات المستحسنة أو العادية، ففرض طريقته في اللباس، مع إن المسلمين قبل دخل المستعمرين بلادهم كانوا يضعون العمامة على رؤوسهم، هذا في حين أن تبديل اللباس غير مرتبط بالتطور بوجه من الوجوه، قال رسول الله (ص):(العمائم تيجان العرب إذا وضعوا العمائم وضع الله عزهم)(6)، أي إذا خلعوها ذلّوا؛ وذلك لما ذكرناه من أنهم تخلّوا عن طريقة اللباس، وجرّهم ذلك إلى التخلي عن أحكام الإسلام التي فيها عزهم، وهو ما أوقعهم في المذلّة التي نشاهدها لحدّ الآن.

وغاندي حينما أراد تحرير الهند خلع الزي البريطاني حتى أنه حضر المؤتمرات العالمية بقطعتي قماش مثل لباس الإحرام، وكان مثاراً للاستهزاء والسخرية، لكنه أصرّ على هذا المظهر.

وكذلك تمّ تغيير السنة والأشهر الهجرية القمرية إلى تقاويم أخرى، مع إن كل شعائر الدين مرتبطة بالأشهر القمرية الهجرية، وبذلك يمكن أن يضيع كثير من المناسبات الدينية على أكثر الناس.

كما تمّ تغير الأوزان مع إن كثيراً من الأحكام الشرعية كالخمس والزكاة والديات و.. مرتبطة بالأوزان، وبهذا التغيير اختلت النظم وضاع كثير من الأحكام وارتبك كثير من المكلفين.

وهنالك أمثلة كثيرة ذكرنا منها نماذج، ومقصودنا هو أن التطور ليس بالتخلي حتى عن العادات، كما لا يعني التغيير كيفما كان، بل التطور هو التغيير نحو الأحسن، وعدم الإخلال بالمنظومة العمومية للنهج، وإن أي تغيير واتباع للغير من دون دراية إنما هو إرباك للوضع وتخلف وليس تطوراً.

والحاصل؛ إن التطور لازم وواجب مع المحافظة على الثوابت، وعدم الانهزام، أو الاتباع الأعمى للغير.

3) عدم الاختصاص:

إن التطوير في أي شيء يحتاج إلى مراجعة أهل الخبرة فيه؛ لأن الحاجة إلى التطوير يدركها الجميع، لكن الذي يحق له الإدلاء بالرأي فيه إنما هم أهل الخبرة، فيجب مراجعتهم واستشارتهم لا أن نتخبط فنحكّم من لا خبرة له.

فإذا أردنا تجديد بناء البيت نراجع المهندس، لا أن نضع حجراً على حجر بدون محاسبات هندسية دقيقة، وعندئذٍ لا نصل إلى الهدف بل قد نعرّض أنفسنا للتهلكة.

وفي الأمور الفكرية؛ الحاجة إلى مراجعة أهل الاختصاص أهم، وترك مراجعتهم أخطر، وعليه فإن التطوير في الفقه، وإبداء الرأي في المسائل المستحدثة هو شأن الفقهاء العارفين بالحلال والحرام وبمصادر الشرع، فلا يحق لأي أحد غير فقيه إبداء الرأي فيه، وشأن الفقه شأن سائر العلوم التي يبدي المختص رأيه فيها، ولا يحق ذلك لغير المختص بل قد يتعرض للملاحقة القانونية إذا اتبع رأيه، فغير الجراح إذا أجرى عملية جراحية يحاسب ويحاكم ويعاقب.

وهكذا في مسائل الشرع حيث يُرجع إلى الفقهاء فقط دون غيرهم، لمعرفة الحلال والحرام، ولمعرفة انطباق الآراء الجديدة على الثوابت الشرعية.

فإذا رأينا رواية لا تعجبنا، لا يجوز أن نتهم رواتها بالوضع والاختلاق، لأن ذلك من شأن أهل الاختصاص بعلم الرجال والدراية، وحتى هؤلاء إذا رأوا رواية لم يفهموا معناها يرجعون علمها إلى أهله كما ورد عن الصادق (ع) أنه سئل: هل يكون كفر لا يبلغ الشرك؟، فقال: إن الكفر هو الشرك. ثم قام فدخل المسجد فالتفت إليّ وقال: نعم الرجل يحمل الحديث إلى صاحبه فيردّه عليه، فهي نعمة كفرها ولم يبلغ الشرك(7).

* مقال نشر في مجلـــة النبـــأ-العــدد 57-صفــر 1422/آيــار 2001

.........................
الهـــوامـــش:
(1) الوسائل: ج16 ص94.
(2) البحار: ج42 ص256.
(3) راجع كتاب الشهيد السيد حسن الشيرازي (فكرة وجهاد) - قسم الوثائق.
(4) البحار: ج39 ص56.
(5) الوسائل: ج27 ص167.
(6) الوسائل: ج5 ص57.
(7) البحار: ج2 ص188.

اضف تعليق