q

في أدبياتنا وتراثنا، طالما نفخر بأسماء لامعة في سماء العلم الفكر والادب وحتى القادة المحررين والناجحين، عاشوا في نفس الارض التي نعيش عليها، مع اختلاف الظروف الموضوعية، مثل الشيخ المفيد والشريف الرضي والشيخ نصير الدين الطوسي والشيخ البهائي والمجدد السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي والشيخ محمد تقي الشيرازي وغيرهم.

وربما يكون لهذا الاستذكار في الحديث والكتابة، مردود ايجابي من الناحية النفسية – على الاقل- بيد أننا في الوقت الذي نستذكرهم، نجد انفسنا نعيش في واقع بعيد عن ذلك العالم، فالأسماء اللامعة التي نتعامل معها، ليست لها سنخية مطلقاً بالشخصيات التي استشهدنا بها آنفاً، فهي اسماء تعود الى مفكرين وعلماء وادباء من بريطانيا والمانيا وروسيا وغيرها. ويمكنني القول؛ - إن جاز لي التعبير- إننا أمسينا كمن يرى يشاهد فيلماً وثائقياً جميلاً عبر الشاشة الصغيرة، يتضمن معلومات مثيرة وجميلة، ثم بعد فترة معينة، يتم إطفاء التلفاز ويعود هذا المشاهد الى حياته العادية والنظر فيما يحيط به وما هو مطلوب منه.

العلم الذي يغيّر

ليس من باب المقارنة، انما لاستحضار المثال على سبب وجود العباقرة والمكتشفين من العلماء والمفكرين في الغرب، وافتقار البلاد الاسلامية في نطاق الامة الكبيرة، لمثل نيوتن او اديسون او باستور وغيرهم، نجد ان هؤلاء ركزوا جهدهم الذهني على قضايا يحتاجها المجتمع، مثل الإنارة وضرورة وجود مصباح متوهج بشكل دائم، بدلاً من استخدام الزيوت وتحمّل مخلفاتها غير الصحية، او ضرورة ايجاد حلول لمشكلة تعفّن المواد الغذائية مما دفع لوئى باستور للبحث واقتفاء أثر البكتريا، وتوصل الى نظرية "تخمّر الجراثيم"، بل حتى بالنسبة للأفكار السياسية والفلسفية التي ظهرت على يد جان جاك روسو وكانت وديكارت وغيرهم، فهؤلاء بحثوا وطالعوا اجروا التجارب الطويلة، واكثر من ذلك تحملوا التهميش والتشكيك وحتى المحاربة، ليضعوا اكتشافاتهم في خدمة الفلاح والعامل والطفل والمرأة وجميع افراد المجتمع. فاذا نجد التكريم لهم حالياً، فهو امر بديهي جداً.

واذا كانت ثمة طموحات بالنهوض العلمي والثقافي، يتعين اولاً؛ مراعاة هذا الجانب وإعادة النظر كليةً في الرؤية الى العلم بشكل عام، والدوافع التي من اجلها يدخل شباب اليوم، بل ومنذ ان وجدت الجامعات في بلادنا وحتى اليوم، وعندما يناقش سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في اسباب التخلف ومنها وجود ظلال الجهل في ادمغة الكثير، فهو يشير في كتابه "ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين" بانه "في الوقت الذي كانت اوربا واميركا تسير حثيثاً نحو الصناعة والنظام والديمقراطية، كنا نغطّ في سبات عميق وجهل شائن...". نعم؛ تم تشييد الجامعات والمعاهد في البلاد الاسلامية، بيد ان أحد ابرز الانطباعات الشهيرة عنها، لاسيما في الوقت الحاضر، هو تخريجها لموظفين حكوميين، مع وجود عدد لا بأس به من الطامحين لتجاوز حدود الشهادة الجامعية الى حيث صناعة الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والتأثير على الحياة بشكل عام.

الوفاء للأرض والانسان

ان السبب في هذا الواقع العلمي يعود لأسباب متشابكة وعديدة، وقد كتب عنه الباحثون الكثير، فقسمٌ منهم، أرجأه الى "نظرية المؤامرة" وأن الاستعمار في القرون الماضية وأذنابه في العقود الماضية، حاولوا بشتى السبل وضع القيود على انفتاح العلم على الحياة في البلاد الاسلامية، فيما يطرح آخرون مشكلة السياسات الحاكمة واستغلالها العلم والعلماء لتحقيق مصالح سياسية في حروب واعمال تجسس، ولعل اقربها الينا مشروع التصنيع العسكري على يد النظام الصدامي البائد، وانتاج اسلحة الدمار الشامل.

بيد ان كل هذا وغيره، لا يمكن ان يكون مطلقاً مسوغاً لان يحجم طالب العلم والعالم عن ايجاد التطبيقات العملية لما يدرسه ويتوصل اليه من افكار ونظريات وتجارب. واذا طالعنا تجارب علماء الغرب نجد ان معظمهم لم يتلقى التصفيق والاستحسان والتكريم في المؤتمرات والتغطية الاعلامية، عندما طرحوا ما توصلوا اليه، لان الجامعات بالأساس، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت تعجّ بطلبة العلم والاساتذة المخضرمين، فكانت بعض الاكتشافات تتقاطع مع نظريات سابقة لعلماء آخرين لهم الوجاهة في الاوساط الاكاديمية او لدى البلاط الحاكم، فكانت تحدث المواجهات الساخنة. كل ذلك لم يدفع هذا العالم وغيره من الاستسلام، انما المواصلة لإيمانهم الراسخ بصوابية المنهج الذي هم عليه.

صحيح ان العراق، يعد من الامثلة البارزة على محاربة العقول ودفع الادمغة المبدعة الى الخارج، لكن ماذا عن سائر البلاد الاسلامية مثل ايران وتركيا وباكستان ومصر وغيرها من حاضنات العلم والفكر والمعرفة، هل تعرض هناك عالم الى الاعتقال والسجن والابتزاز حتى نراه في العواصم الغربية؟

المشكلة لها اسباب وعوامل عديدة، ولسنا في وارد البحث فيها، بيد اننا اذا كنا نريد التغيير الحقيقي، والتطلع الى التطور والتقدم، علينا النظر أولاً واخيراً الى الارض والانسان، وليس الى النظام الحاكم او الوزير ورئيس الوزراء والمؤسسات الحكومية، فهذه ربما تكون عامل مساعد على ايجاد التطبيقات العملية للنظريات العلمية على ارض الواقع، تبقى المشاعر التي يحملها العالم، وقبله طالب العلم إزاء الواقع المرير الذي يعيشه الناس والبلد بشكل عام، والطريقة التي يحكم فيها على الامور، فهذه وغيرها تؤثر أيما تأثير على ظهور عباقرة جدد في بلادنا واستعادة أمجاد الماضي، ولو بشكل تدريجي.

اضف تعليق