واقعة الغدير ليست ذكرى نسترجعها ثم ننساها، بل هي مدرسة فكرية وأخلاقية وسياسية تقدم حلولاً عملية لأزماتنا المعاصرة. إذا أردنا أن نواجه التحديات التي تعصف بأمتنا، فلنبدأ بإحياء مفاهيم الولاية العادلة، الإمامة الحكيمة، والقيادة الأخلاقية التي أرستها واقعة الغدير، فهل نستطيع تطبيق دروس الغدير في واقعنا؟ هذا هو التحدي الحقيقي...

تحتفل الأمة الإسلامية كل عام بذكرى عيد الغدير الأغر، الذي يُعدُّ منعطفاً تاريخياً وخطاباً إلهياً يُؤكِّد على أهمية القيادة الرشيدة في حياة الأمم. ففي هذا اليوم، نزل قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3)، ثم أعلن الرسول (ص) ولاية الإمام علي (ع) قائلاً: "مَن كُنتُ مَولاهُ فهذا عليٌّ مَولاهُ".

لكن الغدير ليس مجرد حادثة تاريخية، بل هو مشروع متكامل للولاية والإمامة، يحمل في طياته حلولاً لكثير من التحديات المعاصرة التي تواجهها المجتمعات الإسلامية، من الفرقة السياسية إلى الأزمات الأخلاقية.  

١. الولاية في فكر الغدير: العدل بديلاً عن الاستبداد  

أبرز ما يميز خطاب الغدير هو تأكيده على أن القيادة يجب أن تقوم على الكفاءة والأخلاق، لا على العصبية أو المصالح الشخصية. فالإمامة في المفهوم الإسلامي الأصيل تعني "الحاكم العادل، العالم، الشجاع، المضحّي"، وهو ما جسده أمير المؤمنين علي (ع) في حكمه. 

اليوم، تعاني الكثير من الدول الإسلامية من الاستبداد والفساد بسبب غياب مفهوم القيادة المؤهلة. لو طُبِّقت معايير الولاية الغديرية، لاختفى الكثير من الظلم الاجتماعي، ولتحوّلت الأنظمة من حكم الفرد إلى حكم القانون والمؤسسات. 

٢. الإمامة والوحدة: لماذا نعيش التشرذم؟  

من أعمق الدروس التي يقدمها الغدير هو أن الولاية ليست سبباً للفرقة، بل عامل وحدة. فلو التزم المسلمون بخط الإمامة بعد الرسول (ص)، لما تشتت الأمة إلى مذاهب وممالك متناحرة. 

اليوم، نرى الصراعات المذهبية والانقسامات السياسية تهدد كيان الأمة. الغدير يذكّرنا بأن الولاية الحقيقية هي التي تجمع لا تفرّق، وتُخضع المصالح الشخصية للمصلحة العامة. لو التزم قادة العالم الإسلامي بهذا المبدأ، لتحققت الوحدة الإسلامية المنشودة. 

٣. التحدي الأخلاقي: إمامة القيم في زمن الانحدار  

لا تقتصر إمامة الغدير على الجانب السياسي، بل تشمل الإمامة الأخلاقية والروحية. ففي عصر طغت فيه المادة، وأصبحت القيم نسبية، يحتاج المجتمع إلى قدوات تحمل رسالة الحق والعدل. 

الإمام علي (ع) لم يكن حاكماً فحسب، بل كان "إماماً للضمير"، يُعلّم الناس التقوى والزهد والإيثار. لو تمسك المسلمون اليوم بهذا النموذج، لاختفت كثير من المشكلات كالفساد المالي والاجتماعي. 

٤. الشباب وإمامة المستقبل  

أحد أهم التحديات التي يواجهها العالم الإسلامي هو أزمة القيادات الشابة. فكثير من الشباب يعيشون فراغاً روحياً وفكرياً بسبب غياب القدوات الحقيقية. 

الغدير يقدم نموذجاً للشباب بأن القائد ليس بالضرورة كبير السن، بل هو من يمتلك العلم والحكمة. الإمام علي (ع) كان شاباً عندما نصبه الرسول (ص)، لكنه كان الأكفأ. لو استلهمت الأمة هذا الدرس، لاستطاعت أن تختار قيادات شابة مؤهلة بدلاً من الاستسلام للتمييز العمري أو القبلي. 

واقعة الغدير ليست ذكرى نسترجعها ثم ننساها، بل هي مدرسة فكرية وأخلاقية وسياسية تقدم حلولاً عملية لأزماتنا المعاصرة. إذا أردنا أن نواجه التحديات التي تعصف بأمتنا، فلنبدأ بإحياء مفاهيم الولاية العادلة، الإمامة الحكيمة، والقيادة الأخلاقية التي أرستها واقعة الغدير.

فهل نستطيع أن نتحول من مرحلة "الحديث عن الغدير" إلى مرحلة "تطبيق دروس الغدير" في واقعنا؟ هذا هو التحدي الحقيقي.

اضف تعليق