الإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، الذي نعيش هذه الايام ذكرى مولده العطِر، وكان يُكنّى بعالم آل محمد، شمله هذا الاهتمام في البيت العلوي، فقد كان ثمرة لزواج من نوع خاص بحثت عنه والدة الإمام الكاظم لتكون الزوجة المنتقاة لولدها، ثم تكون والدة لعالم آل محمد...

حسناً قال أحد علماء الدين مؤخراً أن العظماء لا تقف خلفهم امرأة، وإنما الأمّ، فمن يريد البحث في سيرة الناجحين عليه البحث فيمن كانت أمه؟ وما هي مواصفاتها، وما هو منهجها التربوي من المراحل الأولى للتنشئة وحتى الكِبر، بل يسلط علماء الدين الضوء على مرحلة ما قبل الزواج (الاختيار)، وما قبل الولادة (مرحلة الحمل). 

والإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، الذي نعيش هذه الايام ذكرى مولده العطِر، وكان يُكنّى بعالم آل محمد، شمله هذا الاهتمام في البيت العلوي، فقد كان ثمرة لزواج من نوع خاص بحثت عنه والدة الإمام الكاظم لتكون الزوجة المنتقاة لولدها، ثم تكون والدة لعالم آل محمد، وهكذا كان همّ الامام الكاظم، عليه السلام.

بإمكان الامام الكاظم، وهو سيد الأشراف في مدينة جدّه، أن يختار بين العديد من الفتيات من بني هاشم، ومن بنات وجوه المجتمع، من ذوات الحسب والنسب، بيد أنه يصطحب احد اتباعه للقاء رجل من تجار الرقيق توقع الإمام قدومه من بلاد المغرب، فطلب منه، عليه السلام، أن يعرض له ما عنده، فعرض عليه سبع جواري لم تجذب انتباهه، فطلب منه أن يعرض عليه غيرهنّ، فقال له: ما عندي شيء، فقال له الإمام: بلى؛ أعرض علينا! قال لا والله، ما عندي إلا جارية مريضة!

نكتفي من هذه الرواية بهذا القدر، ولا نسهب بما لا يفيدنا للعبرة، وما في الرواية من تكهّن نسوة من اليهود في أمر هذه الجارية وأنها ذات شأن في المستقبل، وأنها لا تكون إلا من حظ رجل يلد منها غلاماً ما يولد بشرق الأرض وغربها مثله، فقضية اختيار الزوجة من المباحث المحورية في النظام التربوي في الإسلام، وعليه يتم تقرير مصير الولد من هذه الزوجة. 

فما هي المواصفات التي وجدها الإمام الكاظم في نجمة، أو تكتم؛ هذه الفتاة المجهولة والجارية القادمة من أقصى الأرض، في وقت أمامه العديد من الفتيات اللاتي يغنين الانسان من عناء التعرّف والتحقق في العفّة والأخلاق والنسب الرفيع؟

ثم لنسلّم بالقضية الغيبية التي تؤكد الروايات أن تفتيش الامام عنها بين الجواري يؤكد الإلهام السماوي باختيار هذه الفتاة دون غيرها، كما حصل مع سائر الأئمة المعصومين ممن ولدوا من جواري، بيد أن الذي يجب ان نسلّم به ايضاً؛ الاسباب المؤدية لهذا الاختيار، إيماناً منّا بما وضعه الله –تعالى- لنا من قانون السبب والمسبب في الحياة، فقبل النظر في بحث الإمام عما يهديه اليه يد الغيب، علينا البحث في شخصية تكتم أو نجمة، وكيف كان سلوكها، وأخلاقها، وشخصيتها؟

نقرأ في القرآن الكريم عن سيرة السيد مريم بنت عمران، وكيف كان اختيارها لتكون صديقة وأمّاً لأول وآخر معجزة في البشرية، تستوقفنا الآية الكريمة بكثير من التأمّل: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}، (سورة الأعراف، الآية:91)، فقد تميّزت مريم عن سائر بنات قومها من بني اسرائيل آنذاك بأنها لم ترتكب الزنا، كما تفعل الأخريات، بل تحملت الضغوط وتحدّت المغريات لتحافظ على عفتها وطهارتها، فعندما نجحت في هذا الاختبار كانت جديرة بأن ينفخ الله فيها من روحه، وتحمل بنبي الله عيسى وتبقى عذراء دون زواج، وتلد من أعظم الانبياء، وصاحب كتاب الانجيل، فيدين له اليوم حوالي خمسة مليارات من البشر، ويقود الديانة المسيحية التي تميزت عن سائر الاديان بديمومتها وانتشارها في الارض منذ الفي عام. 

هكذا كان يفكر الأئمة المعصومون الهداة في مسألة اختيار الزوجة لابنائهم، بل وهكذا كانوا يختارون أصحابهم المقربون اليهم، ومن يحملون علومهم ويحفظون اماناتهم الى الاجيال، وهذه رسالة ليست موجهة الى الآباء والأمهات في حسن الاختيار وعدم اللهاث خلف المظاهر الخادعة والمدمرة لهم ولابنائهم، وإنما موجهة بالدرجة الأساس الى الفتيات ممن يحملن الآمال العريضة والطموحات الكبيرة بأن يكنّ زوجات سعيدات في حياتهن، وأمهات مربيات لأبطال وناجحين، بأن ينتبهن الى كل صغيرة وكبيرة في حياتهنّ.

إن ما تملكه الفتاة من مال مال وجمال وعلم كله قابل للتغيير إلا ما تملكه من منهج تربوي وأخلاقي وسلوك وطريقة في الحياة، فهذا من الصعب تغييره، حتى وإن تأكد خطله على صعيد النفس والذات، وعند المحيط الاجتماعي، فالانسان بطبعه يعتزّ بما تعلمه ودرج عليه من طريقة الكلام، وطريقة الأكل، وطريقة المشي، والتعامل مع الآخرين، واحياناً يحصل أن يدعو الآخرين لأن يكونوا مثله ويستجيبون لما يلبي رغباتهم وفق هذا المنهج التربوي. 

ولذا فان الطفل المؤدب، والذكي، و ذو الصفات الأخلاقية العالية لن يكون سوى نتاج أم من نفس السنخ، وأب أحسن الاختيار وجعل من هذه الأم الصالحة وعاءً للولد الصالح لأن "وكلّ إناء بالذي فيه ينضح".

اضف تعليق