q
لشخصية الامام القيادية أثرا كبيرا في اعتقاله، لأنه صاحب الكيان المتميز في الشعب المسلم. ولحقد الرشيد أثره الفاعل في اعتقال الامام، وللسعايات أثرها في التعجيل باعتقال الامام، ولحاشية السوء وبطانة الشر الأثر الكبير في تهييج الأحاسيس المضادة للامام، كما أن للأطماع سبيلها الى ذلك كله...
بقلم: الدكتور محمد حسين علي الصّغير/مقتبس من كتاب الإمام موسى بن جعفر (ع) ضحية الإرهاب السياسي

رؤية مجهرية لأسباب سجن الامام

رأيت فيما سبق بيانه في الفصول المتقدمة، ما كان عليه الامام من عظيم المنزلة وسمو الذات، وما احتل من شعبية عند الجماهير، وما هو عليه من كيان رفيع لدي العلماء وقادة الفكر وحملة القرآن ورجال الحديث، وما امتاز به من الخلق العظيم وكريم الشمائل، وما جبل عليه نفسه من كظم الغيظ وضبط النفس وسخاء اليد، وما عرف به من الحلم والصبر الجميل. وفوق هذا كله توجه النظر العقلي الى قيادته الدينية وامامته الشرعية، يضاف الى ذلك اندماجه الكلي في ذات الله، ونفاذ بصيرته بأمر الله، وتمتعه بتلك القابليات الفذة من العلم الفياض بشقيه الكسبي واللدني، وكونه الامام الماثل الذي تشخص نحوه الأبصار عند الأزمات والملمات.

وقد رأيت فيما مضي آراء الأساطين والفحول وهي تقوم فضله وتشيد بمكارم أخلاقه وتنص على خصائصه ومميزاته.

كل أولئك مؤشرات بارزة السمات في حياة الامام، وقيادة الامام، ومكونات شخصية الامام.

والرشيد في تركيبه النفسي المعقد، وفي طبيعة ما جبلت عليه ذاته من الأنانية، وما اشتملت عليه تصرفاته الدالة على حقده الدفين لأهل البيت (عليهم‌ السلام)، وهو في قرارة نفسه يعلم من هو الامام، ويقر بما للإمام من مثل وقيم لا تتوفر في سواه، وهو يري تدافع الفقهاء والمحدثين وأهل العلم على جامعة الامام، وهو يري مدرسة الامام تشق طريقها في التشريع والحياة والاجتماع، وهو يرى شطر المسلمين يقولون بإمامة موسى بن جعفر (عليه‌ السلام)، حتى عاد الامام حديث المجالس والأندية، وشغل المحافل والدواوين.

وهذا كله من أبرز العوامل المساعدة على استفزاز الرشيد. والرشيد أحرص الناس على الحياة، وأحب الناس للسلطان، وأشد الناس طلبا للملك، فقد تسلمه بعد هن وهن، فهو لهذا لا يتورع عن اقتراف أية جريمة مهما كان نوعها، للإبقاء ـ فيما زعم ـ على الحكم، وقد هاله هذا الزخم الهائل من فضائل الامام، وقد روعه ذلك الرصيد الشعبي للإمام، فهو يحمي ملكه، ويبقي على نفسه، فيما يعتقده عندما يقدم على اعتقال الامام.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي:

«لقد كان هارون يقظا، فكان يخرج بغير زيه متنكرا ليسمع أحاديث العامة، ويقف على اتجاهاتهم ورغباتهم، فكان لا يسمع الا الذكر العاطر للإمام والثناء عليه، وحب الناس له، ورغبتهم في أن يتولي شؤونهم، فلذلك أقدم على ارتكاب الموبقة» (1).

وكانت البنية الخلفية للرشيد تتكئ على تركيب متدهور مريض، يفيض لؤما وحساسية من أهل هذا البيت الكريم، وهذا موسى بن جعفر زعيم العلويين وكبير الطالبيين، وهذا هو موقعه من الأمة وتلك مآثره في الآفاق، وأولاء شيعته في الحياة، فلماذا يبقي طليقا؟ وهو مصدر قلق وهلع، ولماذا لا يسجن؟ عسى أن تتفرق الجموع، وتتلاشي المخاوف، ويثبت السلطان.

على حين رأينا الامام في سيرته ومسيرته: صاحب دين لا صاحب دنيا، ورائد ايمان لا رائد سلطان، ورجل رسالة لا رجل سلطة. ولم تكن هذه الحقائق لتثني الرشيد عن عزمه في القضاء على الامام.

بينما يرى الأستاذ محمد حسن آل ‌ياسين أن سبب سجن الامام كان مرتبطا بحج الرشيد أول مرة بعد استخلافه، وزيارته قبر النبي، وقوله: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا بن العم.

فتقدم الامام الى القبر، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبه.

فتغير وجه الرشيد، وتبين الغيظ فيه فكتمه، وقال: هذا هو الفخر يا أبا الحسن.

والمستنبط من مجموع روايات هذه الحادثة، وقد وردت في عدد غير قليل من المصادر المعتمدة (2) أن الرشيد قد صدمته هذه المفاخرة الصريحة أو المباهلة الجريئة، فأفسدت عليه مشاعر التعالي ولذة المباهلة، وحرمته من توهم قدرته على خداع السامعين والمشاهدين بأنه أقرب الناس الى رسول الله (صلي الله عليه وآله) ويكون الأحق بالخلافة بحكم هذه القربي المتصلة الوشائج.

ويبدو أن الامام قد أحس بهدف الرشيد من هذا الاعلان، فبادر الى اعلام جماهير الحاضرين: بأنه الأقرب رحما ونسبا، والألصق لحمة وسببا، وأنه ابن رسول الله (صلي الله عليه وآله) حقا على رغم زيف المزيفين، وتضبيب المضببين. وتدلنا الأخبار المعنية بهذا الموضوع أن الرشيد بعد أن كتم غضبه وغيظه، لم يستطع نسيان ذلك أو اغفال أمره، بل يظهر بجلاء أن تلك المجابهة العنيفة المؤدبة من الامام موسى بن جعفر، قد هيمنت على نفس الخليفة وأفكاره فأصبحت شغله الذهني الشاغل (3).

ومهما يكن من أمر، فقد يكون هذا هو السبب الرئيسي في اعتقال الامام، ويضاف اليه: أن لشخصية الامام القيادية أثرا كبيرا في اعتقاله، لأنه صاحب الكيان المتميز في الشعب المسلم.

ولحقد الرشيد أثره الفاعل في اعتقال الامام، وللسعايات أثرها في التعجيل باعتقال الامام، ولحاشية السوء وبطانة الشر الأثر الكبير في تهييج الأحاسيس المضادة للامام، كما أن للأطماع سبيلها الى ذلك كله، فقد أجيز علي بن اسماعيل بمائتي ألف درهم، فجي‌ء بها اليه وهو في النزع الأخير، اذ زحر زحرة خرجت بها حشوته وأمعاؤه، فقال: ما أصنع بالمال وأنا في الموت (4).

وقد اعتبر الأستاذ باقر شريف القرشي أن أهم أسباب اعتقال الرشيد للامام: سمو شخصية الامام ـ حقد هارون علي الامام ـ حرص الرشيد على الملك ـ بغضه للعلويين ـ الوشاية بالامام ـ احتجاج الامام على الرشيد ـ تعيين الامام لحدود فدك ـ صلابة موقف الامام موسى بن جعفر (5).

وأخيرا أقدم الرشيد على فعلته النكراء فكان سفيها حقا، فحج البيت مبتدئا بقبر النبي (صلي الله عليه وآله) مخاطبا له:

«يا رسول الله؛ اني أعتذر اليك من شيء أريد أن أفعله، أريد أن أحبس موسى بن جعفر، فانه يريد التشتت بين أمتك وسفك دمائها» (6).

ولست أدري كيف يقبل عذره؟ أو يقبل رسول الله عذره؟ وهو يريد اعتقال بضعة منه، ومن ذا الذي يصدق هذا السفه اللا مسؤول الذي أطلقه الرشيد على عواهنه؟ ومتي أراد الامام تشتيت الأمة وهو الداعي الى وحدتها، ومتي أراد سفك دمائها؟ والحل والعقد بيد أبناء الطلقاء من العباسيين.

ان هذا الاعتداء السافر على حرمة رسول الله (صلي الله عليه وآله) كان على مسمع ومشهد من المسلمين، وهم يستمعون ذلك ويسخرون منه، والرشيد ينتهك الحرمة ومقاييس الأدب بحضرة الرسول الأعظم، والامام تقطع عليه صلاته ولا يمهل لاتمامها، ويؤخذ مكبلا بالحديد من مسجد جده، وهناك قبتان ضربت من دونهما الأشعار، لا يعلم الامام بأيهما هو، وتؤخذ واحدة بطريقها الى البصرة، والأخري نحو الكوفة، ليعمي على الناس خبره، وكان الامام في التي مضت الى البصرة (7). (صفحه 229) وهكذا ينتزع الامام جهارا من مدينة جده، ويتولي شؤونه في مسيرة هذا زمرة من الغلاظ الشداد، حيث تنتظره معتقلات الطاغية. وكان الامام قد استدعي الى بغداد في عهد المهدي وسجن في بغداد، فليس السجن على الامام بجديد (8).

ايديولوجية تنقل الامام بين عدة سجون

كان الهدف الاستراتيجي من عملية سجن الامام ـ فيما يحسب الرشيد ـ هو تضييع خبر الامام، وايقاف زحفه الهادر، عسى أن يتناساه الناس، وتمحي صورته عن الذاكرة، ومن ثم يتم تنفيذ المخطط اللا انساني باغتياله مع سبق الاصرار، دون أدنى ريب.

ولم يكن الامام بالشخص الذي يتجاهل تأثيره الحكام ولا الطغاة، ولا هو بالرجل الاعتيادي الذي ان حضر لا يعد، وان غاب لا يفتقد، فالصورة على العكس تماما، فهو في ضمير الناس أمثولة تقتدي، وهو في حياة الناس الامام البر التقي النقي، وهو في الميدان العام سيد الموقف ورائد الحق الصريح، والسجن في مثل هذا الواقع الشاخص لا يغير شيئا من منزلة الامام، ولا يطوي صفحة لذكر الامام، ولا يحقق غاية يسعي لها النظام، فآثار الامام في حياة المجتمع المسلم لا تختفي بحال من الأحوال.

ولم يكن الاستعجال بقتل الامام يمثل خطة سليمة في نظر الرشيد، فكان السجن هو الاختيار الأمثل عنده، عسى أن يكون السجن بديلا يستطيع فيه القضاء على ذيوع شهرته، وعسى أن يقال: مرض، واعتل، أو مات حتف أنفه، ليتخلص من أية مسؤولية.

هكذا أراد الرشيد، وهكذا خطط الرشيد.

وذهبت مصادر دراسة حياة الامام موسى بن جعفر (عليه‌ السلام) الى أن سجونه قد تعددت وتكررت، وأن مواضعها قد تنوعت وتوزعت، وأنه سجن في البصرة مرة، وسجن في بغداد مرات. وكان في البصرة في سجن عيسي بن جعفر بن المنصور الدوانيقي، وهو والي البصرة من قبل الرشيد، وقد نظر في شأن الامام وأمره، فذهل الرجل بعبادته وانابته، وأعجب بصبره وخلقه الرفيع، واستمع الى الامام في دعائه، واذا به يقول:

«اللهم، انك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت، فلك الحمد» (9).

وكان عيسى بن جعفر ـ فيما يبدو ـ عاقلا متأنيا، فما أراد أن يتورط في شيء من أمر الامام، ويبدو أن الامام كان عنده موسعا عليه في سجنه، وقد أتيحت له فيه الحرية بعض الشي‌ء، اذ تمكن جملة من رواة الحديث من الاتصال بالامام والاستماع اليه، وكان منهم ياسين الزياتي، فقد روي عن الامام بعض الأحكام وهو في سجن البصرة.

ومكث الامام في سجن البصرة سنة، فتململ عيسي بن جعفر بذلك، ثم كتب الى الرشيد: أن خذه مني، وسلمه الى من شئت، والا خليت سبيله، فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة فما أقدر على ذلك، حتى اني لأتسمع عليه اذا دعا، لعله يدعو علي أو عليك، فما أسمعه يدعو الا لنفسه، يسأل الرحمة والمغفرة. فوجه الرشيد من تسلمه منه (10).

ويبدو أن هذه الرسالة من عيسي الى الرشيد قد كتبت بعد أن اضطرب الوضع بالبصرة احتجاجا على سجن الامام، وقد بلغ الرشيد ذلك، فبادر بالطلب الى عيسي أن يقوم باغتيال الامام (عليه ‌السلام) فجمع عيسى مستشاريه وعرض عليهم أمر الرشيد، فحذروه من قتل الامام فاستجاب لهم، وقد كان كارها لذلك، وكتب الى الرشيد يستعفيه من هذه المهمة، ويدل على هذا الرسالة المفصلة التي بعث بها عيسي الى الرشيد، يقول فيها:

يا أمير المؤمنين، كتبت الى في هذا المجال، وقد اختبرته طول مقامه بمن حبسته معه عينا عليه، لينظروا حيلته وأمره وطويته ممن له المعرفة والدراية، ويجري من الانسان مجري الدم، فلم يكن منه سوء قط، ولم يذكر أمير المؤمنين الا بخير، ولم يكن عنده تطلع الى ولاية، ولا خروج، ولا شي‌ء من أمر الدنيا، ولا دعا قط على أمير المؤمنين، ولا على أحد من الناس، ولا يدعو الا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين، مع ملازمته للصيام والصلاة والعبادة، فان رأي أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره، أو ينفذ من يتسلمه مني، والا سرحت سبيله، فاني منه في غاية الحرج (11).

ويبدو من عرض هذه الرسالة وأسلوبها الرقيق أن عيسي بن جعفر أراد أن يخفف ما في نفس الرشيد عن الامام، فأنبأه بأنه في ظل رقابة صارمة، وأن عينا عليه في السجن يلحظه بدقة متناهية، ينظر في أمره ويوافيه بأخباره، وأنه لم يذكر الرشيد الا بخير، وأنه اختبره فوجده عازفا عن السلطان، لا يتطلع الى ولاية، وليس من رأيه الخروج على الرشيد، وطلب اليه تخلية سبيله، واطلاقه من سجنه، والا أطلق سراحه.

وكان الامام قد قضي سنة كاملة في سجن عيسي، واستجاب الرشيد لطلب عيسي فنقله الى الفضل بن الربيع في بغداد (12).

ولكن الذي يبدو من الأخبار، ويظهر للبحث أن الرشيد أودع الامام معه في قصره لدي جلبه الى بغداد، ومن ثم سلمه لمدير شرطته عبدالله بن مالك الخزاعي، وهو ما رواه المسعودي، وأكده ابن‌طاووس، ونقله ابن‌خلكان، وذكر عند القندوزي، وابن‌حجر، وأورده المجلسي، وفي هذا السجن لدي مدير الشرطة تم اطلاق سراح الامام، ويبدو أنه الاطلاق، ثم قبض عليه، وأودع سجن الفضل بن الربيع.

هذا ما توصل اليه البحث، فقد حدث عبدالله الخزاعي بسند صحيح قال: دعاني هارون... فقال امض الى تلك الحجرة وخذ من فيها، واحتفظ به الى أن أسألك عنه، فدخلت واذا هو موسى بن جعفر، فحملته وأدخلته داري، وكنت أتولي خدمته بنفسي، ومضت الأيام فلم أشعر الا برسول الرشيد يقول:

أجب أمير المؤمنين، فذهبت الى الرشيد، وأذن لي بالدخول، فوجدته قاعدا على فراشه، فسلمت، فسكت ساعة، ثم قال لي:

يا عبدالله أتدري لم طلبتك في هذا الوقت؟ اني رأيت الساعة حبشيا قد أتاني ومعه حربة، فقال: ان لم تخل عن موسى بن جعفر الساعة، نحرتك بهذه الحربة.

فاذهب فخل سبيله. فقلت: أطلق موسى بن جعفر؟ ثلاثا، قال: نعم؛ امض الساعة حتى تطلق موسى بن جعفر، وأعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له: ان أحببت المقام قبلنا فلك عندي ما تحب. وان أحببت المضي الى المدينة فالأذن في ذلك اليك. قال: فمضيت الى الحبس... وخليت سبيله (13).

واذا صحت هذه الرواية بإطلاق سراح الامام فانه قد أبقي في بغداد في ظل اقامة جبرية، حتى استثني الرشيد من قراره فاعتقله عند الفضل بن الربيع أحد وزرائه، فصيره في داره، ويبدو أن الفضل كان متحرجا من سجن الامام، أو في الأقل كان مرفها عليه في سجنه، فقد أعجب الفضل بعبادة الامام، وأطلع على ذلك عبدالله الشزويني (القروي) وهو على سطح داره، وحدثه عنه بقوله: «اني أتفقده الليل والنهار، فلم أجده الا على الحال التي أخبرك بها: انه يصلي الفجر، ويعقب ساعة، ويسجد سجدة لا يزال بها حتى تزول الشمس... ثم يثب لصلاة الظهر... الى أن يفرغ من صلاة العصر... فاذا غابت الشمس وثب فصلي المغرب... ولا يزال في صلاته وتعقيبه الى صلاة العتمة، ثم يفطر على شوي... ثم يقوم فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر... فاذا طلع وثب لصلاة الفجر (14)

وأراده الرشيد على قتل الامام فأبي ذلك (15).

وقال القروي للفضل: «اتق الله ولا تحدث في أمره حدثا يكون منه زوال النعمة... فقال الفضل: قد أرسلوا الى غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم لذلك، وأعلمتهم أني لا أفعل ذلك، ولو قتلوني ما أجبتهم الى ما سألوني» (16).

ويبدو أن الفضل بن الربيع أراد من الرشيد اطلاق الامام، وعاتبه على التضييق عليه في الحبس، فأجابه هارون: هيهات لابد من ذلك.

ويبدو أن هارون قد أطلق الامام بما رواه حاجب الفضل بن الربيع عن الفضل نفسه، اذ دخل عليه مسرور الكبير، قائلا: أجب الأمير... فخرج معه الى الرشيد فقال له: تداخلك رعب؟ قلت: نعم، قال: صر الى حبسنا، فأخرج موسى بن جعفر بن محمد... وخيره بين المقام أو الرحيل، فقلت:

تأمر باطلاق موسى بن جعفر، قال: نعم؛ ويلك تريد أن أنكث بالعهد (17).

وأطلق سراح الامام موقنا، وقبض عليه، فسجن عند الفضل بن يحيي. فوسع على الامام وأكرمه ـ في رواية ـ فاتصل ذلك بالرشيد وهو في الرقة، فكتب اليه الرشيد ينكر عليه توسيعه على الامام، وأمره بقتله، فتوقف الفضل، ولم يقدم على ذلك (18).

فأنفذ الرشيد مسرورا الخادم الى بغداد على البريد، وأمره من فوره أن يدخل الى موسى بن جعفر فيعرف خبره، فان كان الأمر على ما بلغه أوصل كتابا منه الى العباس بن محمد وأمره باعتقاله، وأوصل كتابا آخر الى السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس.

فقدم مسرور فنزل دار الفضل بن يحيي، ولا يدري أحد ما يريد، ثم دخل على الامام موسى بن جعفر (عليه ‌السلام) فوجده على ما بلغ الرشيد من السعة والرفاهية، فأوصل لهما الكتابين، فلم يلبث الناس أن خرج الرسول يركض الى الفضل بن يحيي فركب معه، وخرج مشدوها دهشا حتى دخل على العباس، فدعا بسياط وعقابين، فوجه ذلك الى السندي بالفضل فجرد، ثم ضربه مائة سوط، فخرج الفضل متغير اللون خلاف ما دخل، فأذهبت نخوته، فجعل يسلم على الناس يمينا وشمالا.

وكتب مسرور بالخبر الى الرشيد فأمر بتسليم الامام الى السندي بن شاهك، وجلس مجلسا حافلا سب به الفضل بن يحيي وأمر بلعنه، حتى تدارك ذلك أبويحيي بن خالد، فساوي الأمر (19).

وهذه المرويات تشير أن الفضل بن يحيي قد وسع على الامام لما رآه من حسن سمته، ورفيع عبادته، وانقطاعه الى الله تعالي، وعزوفه عن الدنيا والجاه والسلطان.

بينما تقول بعض الروايات: ان البرامكة بما فيهم الفضل وأبوه كانوا من أعداء الامام، حتى روي أن الفضل قدم للامام مائدة فيها السم، واستدعي له الطبيب، فأراه الامام راحته وكانت خضرة، تدل على أنه قد سم، فانصرف الطبيب قائلا: والله لهو أعلم بما فعلتم به منكم (20).

وقد ورد عن الامام علي بن موسى الرضا تصديق ذلك، فقد قال لأحمد بن محمد بن أبي‌نصر من حديث:

«ان الله يدافع عن أوليائه، وينتقم لأوليائه من أعدائه، أما رأيت ما صنع الله بآل برمك، وما انتقم لأبي‌الحسن (عليه‌السلام)» (21).

هذا ملخص تأريخي اجمالي بسجون الامام في عهد الرشيد، وقد تناوب عليها: في سجن عيسي بن جعفر بن المنصور في البصرة، ونقل الى بغداد فسجن فيها عدة مرات، فكان من سجونه قصر الرشيد، ثم سلمه الى مدير شرطته والموكل بقصره: عبدالله بن مالك الخزاعي، ثم أطلق، وأبقي في بغداد، وقبض عليه وسجن عند الفضل بن الربيع مرفها عليه، ثم أطلق لكرامة له، وقبض عليه أخيرا، فسجن عند الفضل بن يحيي بن خالد البرمكي، فوسع على الامام، وعاقبه الرشيد على ذلك، وقيل على العكس من هذا، ثم أمر به الى سجن السندي بن شاهك، وكان سجنه من أضيق السجون معاملة مع الامام، ومن أشد المعتقلات عليه.

وكان موقع هذا السجن في دار المسيب قرب باب الكوفة، وباب الكوفة يقع اليوم ـ كما في خارطة بغداد ـ في منطقة «الوشاش» وهي احدي أحياء محلة الكرخ ببغداد.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي:

«وسمعت من الأفواه أن المحل الذي سجن به الامام معروف لدي الأوساط البغدادية، وهو أحد قصور آل الباججي» (22).

وقيل: ان الامام سجن في دار السندي بن شاهك نفسه، وقد يدل على ذلك أن أخت السندي سألت أخاها أن تتولي أمر هذا العبد الصالح في حبسه ـ وكانت من المتدينات ـ فوافق على ذلك فكانت على خدمته، وحكي أنها قالت:

«كان اذا صلي العتمة حمد الله ومجده ودعاه، فلم يزل كذلك حتى يزول الليل، فاذا زال الليل قام يصلي حتى يصلي الصبح، ثم يذكر حتى تطلع الشمس، ثم يقصد الى ارتفاع الضحي، ثم يتهيأ ويستاك، ويأكل، ويرقد الى الزوال، ثم يتوضأ ويصلي، ثم يذكر في القبلة حتى يصلي للمغرب، ثم يصلي ما بين المغرب الى العتمة، فكانت تقول: خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل» (23).

وقد ضيق السندي على الامام أشد التضييق بأمر مباشر من هارون الرشيد، وأوعز اليه أن يقيده بثلاثين رطلا من الحديد، ويقفل الباب في وجهه، ولا يدعه يخرج الا للوضوء، فامتثل السندي ذلك، ونفذ ما أراد الرشيد (24).

وكان القبض على الامام قد تم من قبل الرشيد لأول مرة لعشر ليال بقين من شهر شوال عام 179 ه، وما انفك كما رأيت، ينقل بين السجون، حتى توفي مسموما في سجن السندي بن شاهك لخمس بقين من شهر رجب عام 183 ه على المشهور (25).

وعلى هذا فقد قضي الامام في غياهب السجون خمس سنوات الا شهرين ونصف الشهر بالضبط.

وكانت هذه المدة حقبة انقطاع للامام عن شيعته الا لماما، وكانت حياته في السجن حياة ابتهال وتهجد وصلوات ودعاء، ولم تكن تقتصر على ذلك من النشاط الروحي، فهناك أنشطة ذات بال ستراها في المبحث الآتي.

حياة الامام في طوامير السجون

أرأيت طهر السماء، ونقاء الأفق، وصفاء البحر؟ ذلك هو الامام موسى بن جعفر في ضميره الزكي النابض، واذا به يمني بعصف الرياح، وتلبد الأجواء، ومرارة الارهاب.

أرأيت عزة الخليل، ومهابة الكليم، وقداسة المسيح؟ ذلك هو الامام موسى بن جعفر، وهو يعايش سلاطين الجور، وجلاوزة الطغيان، وأجهزة القمع.

أرأيت محمدا في قيادته، وعليا في شجاعته، والزهراء في عفتها، والحسن في صبره، والحسين بنضاله، وزين‌العابدين في دعائه، ومحمدا الباقر في أصالته، وجعفر الصادق في علمه؟ ذلك هو الامام موسى بن جعفر، وارثهم جميعا؛ مغيبا بين جدران السجون، ومكبلا بأثقال الحديد، يتجرع الغصص والاغتراب.

هكذا أراد الرشيد، وهو القائل عن الامام:

«أما ان هذا من رهبان بني‌هاشم».

فقيل له: فما لك قد ضيقت عليه في الحبس؟.

قال: هيهات، لابد من ذلك (26)

أجل، لقد ضيق الرشيد على الامام، وفي سجن السندي بالذات، فما بدا من الامام اعتراض، ولا حاول اطلاق سراحه بوسيلة، بل ترفع عن التنازل لهارون، وأبي ‌وساطة أي انسان في شأنه، وامتنع عن تلبية الراغبين بذلك، وقال لهم:

«حدثني أبي عن آبائه، أن الله عزوجل أوحي الى داود: يا داود ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني، وعرفت ذلك منه، الا قطعت عنه أسباب السماء، وأسخت الأرض من تحته» (27).

وكان منهجه في السجن المواظبة المثلي على العبادة الخالصة، والانابة والخشوع والتسليم، قال الشيخ المفيد، وهو يتحدث عن حال الامام في السجن:

«وكان (عليه ‌السلام) مشغولا بالعبادة، يحيي الليل كله صلاة، وقراءة قرآن، ودعاء، واجتهادا، ويصوم النهار أكثر الأيام، ولا يصرف وجهه عن المحراب» (28).

وفي قبال هذا التوجه العبادي، كان الامام محاطا بزمر أهل المعاصي ومرتكبي الكبائر، ولا حول ولا طول لديه على التغيير. فقد حدث كاتب عيسي بن جعفر، والامام سجين لديه، قال: «لقد سمع هذا الرجل الصالح ـ يعني الامام ـ في أيامه هذه؛ في هذه الدار التي هو فيها من ضروب الفواحش والمناكير ما أعلم ولا أشك أنه لم يخطر بباله» (29).

وكانت الحياة العلمية وهو سجين تنام وتستيقظ، فقد يسمح السندي بلقاء الامام من قبل العلماء، وقد يسمح بتبليغه الرسائل من أوليائه، وقد يوصل الأجوبة من قبل الامام الى السائلين.

ويعتبر الأستاذ محمد حسن آل ‌ياسين: أن هذه الأساليب التي سلكها السندي من جملة طرائقه في التغطية والتمهيد لقتل الامام (30).

وقد يكون ذلك من بواعث التعتيم على معاناة الامام لجملة الضغوط والمضايقات، فيشاع أنه يتمتع بحرية واستقلالية، بحيث تصله رسائل شيعته، وحيث يجيب عليها بمحض ارادته واختياره.

فقد روي عن علي بن سويد الطائي، قال:

كتب الى أبو الحسن الأول (عليه‌ السلام) في كتاب:

«ان أول ما أنعي اليك نفسي في ليالي هذه، غير جازع، ولا نادم، ولا شاك فيما هو كائن، مما قضي الله وحتم، فاستمسك بعروة آل محمد، والعروة الوثقي الوصي بعد الوصي، والمسالمة والرضا بما قالوا» (31).

وكما في رواية الحسين بن المختار، قال:

«خرجت الينا ألواح من أبي ‌الحسن موسى، وهو في الحبس...» (32).

وقد تتأخر اجابة السؤال من قبل الامام لأسباب أمنية فرضت عليه، أو لأسباب تتعلق بالامام، فعن علي بن سويد، قال: كتبت الى أبي‌ الحسن موسى (عليه ‌السلام) وهو في الحبس كتابا، أسأله عن حاله، وعن مسائل كثيرة، فاحتبس الجواب على أشهرا!! ثم أجابني بجواب مفصل، ورد فيه بعد حمد الله والثناء عليه، قوله: «أما بعد؛ فانك امرؤ أنزلك الله من آل محمد بمنزلة خاصة، وحفظ ما استرعاك من دينه، وما ألهمك من رشده، وبصرك من أمر دينك...»

ثم نعي الامام نفسه لابن سويد، وأجابه عن عدة مسائل مسائل فقهية في الغصب والشهادات، ومسألة كلامية في مدي علم أهل البيت (33).

وكانت مدرسة الامام قد انتشر روادها في الآفاق وهو في السجن، فكانت اجابات الامام يذاع خبرها بانتظام رغم الرصد والعيون، وسبب ذلك أن التشيع قد استطار في الأقاليم الاسلامية وشاع، وكان العلماء والوكلاء يقومون بالمهمات في التبليغ والدعوة، ويتعاونون علي تسلم الحقوق المالية ويصرفونها في مواقعها الشرعية، كما أشار لمواليه بالإمام من بعده، ونص على ولده علي الرضا قائلا: «ان ابني «علي» أكبر ولدي، وآثرهم عندي، وأحبهم الي، وهو ينظر معي في الجفر، ولم ينظر فيه الا نبي أو وصي نبي» (34).

وكما عن الحسين بن المختار، قال: خرجت الينا ألواح من أبي‌الحسن موسى (عليه‌السلام) وهو في الحبس: عهدي الى أكبر ولدي (35).

وبذلك لم يترك الامام الأمة سدي بل نص على حجة الله في خلقه. وأدى الأمانة التي استحفظ عليها، كما أوصي وأوقف وحرر كما سنرى.

...........................................
(1) باقر شريف القرشي/حياة الامام موسى بن جعفر 2/450.
(2) رويت هذه الحادثة في أكثر من عشرين مصدرا معتمدا.
(3) محمدحسن آل‌ياسين/الامام موسى بن جعفر/70 ـ 71.
(4) ظ: المجلسي/بحارالأنوار 48/232.
(5) ظ: باقر شريف القرشي/حياة الامام موسى بن جعفر 2/443 ـ 460.
(6) المجلسي/البحار 48/232.
(7) ظ: تفصيلات ذلك؛ المجلسي/بحارالأنوار 48/232.
(8) ظ: الخطيب البغدادي/تأريخ بغداد 13/27، ابن كثير/البداية والنهاية 10/153، القندوزي/ينابيع المودة/382.
(9) ابن شهر آشوب/المناقب 3/432، البحار 48/107.
(10) ظ: المجلسي/بحارالأنوار 48/233.
(11) ظ: الأصبهاني/مقاتل الطالبيين/502، الشيخ المفيد/الارشاد/337، الاربلي/كشف الغمة 3/25.
(12) ظ: المجلسي/بحارالأنوار 48/233.
(13) ظ: المسعودي/مروج الذهب 3/265 ـ 266، ابن‌طاووس/مهج الدعوات/245، ابن‌خلكان/وفيات الأعيان 4/934، القندوزي/ينابيع المودة/363، ابن‌حجر/الصواعق المحرقة/122.
(14) المجلسي/بحارالأنوار 48/211.
(15) ظ: الاربلي/كشف الغمة 3/25.
(16) الصدوق/الأمالي/146، البحار 48/211.
(17) ظ: المسعودي/مروج الذهب 3/265.
(18) ظ: الاربلي/كشف الغمة 3/26.
(19) ظ: الأصبهاني/مقاتل الطالبيين/503، الطوسي/الغيبة/22.
(20) ظ: المجلسي/البحار 48/212 عن الصدوق/الأمالي/146.
(21) ظ: المجلسي/البحار 48/249.
(22) ظ: باقر شريف القرشي/حياة الامام موسى بن جعفر 2/487.
(23) ظ: الخطيب البغدادي/تأريخ بغداد 13/31، ابن‌الأثير/الكامل 5/108، أبوالفداء/التأريخ 2/15، الذهبي/سير أعلام النبلاء 6/273.
(24) ظ: القرشي/حياة الامام موسى بن جعفر 2/487.
(25) ظ: الطبري/تأريخ الأمم والملوك 1/70، ابن‌الأثير/الكامل 6/54، الخطيب البغدادي/تأريخ بغداد 13/32، ابن‌خلكان/وفيات الأعيان 2/73، الكليني 1/476، المجلسي/البحار 48/206.
(26) الصدوق/عيون أخبار الرضا 1/95.
(27) اليعقوبي/التأريخ 3/125.
(28) المفيد/الارشاد/338.
(29) المجلسي/بحار الأنوار 48/221 وانظر مصدره.
(30) محمد حسن آل‌ ياسين/الامام موسى بن جعفر/88.
(31) الحميري/قرب الأسناد/192، البحار 48/229.
(32) الكليني/الكافي 1/312.
(33) الكليني/الكافي 8/124 ـ 126، البحار 48/242 ـ 244.
(34) المفيد/الارشاد/343.
(35) المصدر نفسه/343.

اضف تعليق