روبرت جيه شيللر
نيوهافين ــ في كثير من الأحيان ربما يتسم التباطؤ الاقتصادي بفترات من التردد. فالمستهلكون يترددون في شراء مسكن جديد أو سيارة جديدة، على اعتبار أن القديم سوف يؤدي الغرض منه لفترة أطول. ويتردد المديرون في توسيع القوة العاملة لشركاتهم، أو شراء مبنى جديد للمكاتب، أو بناء مصنع جديد، في انتظار الأخبار التي تجعلهم يكفون عن التخوف من الالتزام بأفكار جديدة. ولكن من هذا المنظور، إلى أي مدى ينبغي لنا أن نشعر بالقلق إزاء العواقب المترتبة على التردد اليوم؟
كثيرا ما يكون التردد أشبه بالمماطلة والتسويف. فربما تنشأ لدى المرء شكوك مبهمة ويشعر بالحاجة إلى التمعن في الأمور؛ وفي الوقت نفسه، تتطفل قضايا أخرى على فِكر المرء وذهنه فلا يتخذ القرار. وإذا سألت الناس لماذا يسوفون، فلن تجد إجابة واضحة في الأرجح.
لماذا إذن يصبح مثل هذا السلوك منتشرا على نطاق واسع إلى الحد الذي يجعله سببا في إحداث الركود الاقتصادي؟ الواقع أن السبب وراء تأجيل الأنشطة الكفيلة بتحفيز الاقتصاد ربما يكون من الصعب تمييزه.
يتبادر إلى ذهني أولا ردود فِعل الآخرين من المترددين. ربما تعمل التأثيرات المرتبطة بالدخل والسيكولوجية الجمعية على تضخيم السلوك المتردد لدى الأفراد. ولكن لابد أن يكون عامل ما بعينه هو الذي بدأ دورة التغذية المرتدة هذه ــ مصدر أساسي كامن للتردد.
ربما يكون فقدان "الثقة" الاقتصادية أحد الأسباب المحتملة. تستند مؤشرات الثقة المنشورة المتاحة منذ خمسينيات القرن العشرين إلى استطلاعات للرأي تسأل المستهلكين أو رجال الأعمال عن تصوراتهم للنشاط التجاري وتوقعاتهم بشأن الدخل وفرص العمل في المستقبل.
ويشكل "عدم اليقين" حول السياسة الاقتصادية مصدرا آخر محتملا للتردد. فإذا لم يكن رجال الأعمال على عِلم بالقواعد التنظيمية، أو الضرائب، أو مشاريع التأميم المقبلة، فربما يترددون. وهذه الفكرة ليست جديدة، فقد جرى التعبير عنها خلال أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين؛ ولكنها لم تخضع للقياس بشكل جيد، على الأقل حتى وقت قريب.
في ورقة عمل من عام 2015، عمل خبراء الاقتصاد سكوت ر. بيكر، ونيكولاس بلوم، وستيفن جيه. ديفيز على بناء مؤشرات لعدم اليقين في السياسة الاقتصادية لنحو عشر دول باستخدام أرشيف الأخبار الرقمية. وقد أنشِئت المؤشرات (التي غطت كندا، والصين، وفرنسا، وألمانيا، والهند، وإيطاليا، واليابان، وروسيا، وكوريا الجنوبية، وأسبانيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة) عن طريق إحصاء عدد مقالات الصحف في كل دولة وكل شهر التي اشتملت على المصطلحات الثلاثة "الاقتصاد"، و"السياسات"، و"عدم اليقين".
وكان مؤشر كل شهر يعبر عن إجمالي عدد المقالات التي ضمت هذه الكلمات الثلاث، مقسوما على إجمالي عدد المقالات في الصحف المستهدفة في كل شهر. وقد استشار القائمون على هذا العمل الناطقين باللغة الوطنية في كل دولة بشأن الترجمة المناسبة للكلمات الثلاث. وغطت المؤشرات عقودا من الزمن، وفي دولتين (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة) رجعت المؤشرات إلى عام 1900. وكان مؤشر الولايات المتحدة مرتبطا بتقلبات أسعار الأسهم الضمنية في أسواق الخيارات (VIX).
وجد الباحثون أن مؤشر الكلمات الثلاث كان يُنذِر بالانكماش الاقتصادي في كل الدول التي شملتها الدراسة، وفي الدولتين حيث غطت المؤشرات فترة طويلة، كانت قيم الكلمات الثلاث مرتفعة خلال أزمة الكساد العظيم. ولكن هل تتسبب فترات الانكماش في نشوء حالة عدم اليقين، أو أن عدم اليقين هو السبب وراء الانكماش؟ إذا ما علمنا أن الناس شديدو التفاعل بين بعضهم بعضا، فسوف يتبين لنا أن العلاقة السببية تجري في الاتجاهين في الأرجح، وفي حلقة مفرغة.
يتعلق السؤال الأكثر عمقا وإثارة للاهتمام بالأسباب المفضية إلى نشوء حالة عدم اليقين. تتطلب الإجابة على هذا توفر أوصاف انطباعية للقصص والأفكار الباقية إلى الآن والتي ربما تؤثر على التفكير ــ أو تجنب التفكير ــ في الاقتصاد عموما.
أما عن الكساد العظيم، فقد يتساءل المرء حول ما إذا كانت الدرجة العالية من ورود الكلمات الثلاث مرتبطة بالاتجاهات الاجتماعية بعد التجاوزات التي حدثت في عشرينيات القرن العشرين، والتي غذت الخوف من الشيوعية، وفي الولايات المتحدة الخوف من الصفقة الجديدة. ويتساءل المرء، ما إذا كان الخوف من الأنظمة الفاشية، ومن الحرب القادمة، هو الذي تسبب في إطالة أمد الكساد بعد وصول هتلر إلى السلطة عام 1933. يشير الاهتمام المكرس لكتاب يوهانس ستيل الصادر في عام 1934 بعنوان "الحرب العالمية الثانية"، والذي تنبأ بذلك الحدث، إلى أن الخوف من الحرب كان من الواجب أن يجري تناوله والحديث عنه بالقدر الكافي لدعم بعض التردد. ولابد أن فِكرة التتمة للحرب بدت شديدة الترويع في نظر الناس الذين عاشوا خلال الحرب العالمية الأولى.
بطبيعة الحال، لا يمكن إثبات ما إذا كان أمد الكساد العظيم قد طال بفِعل هذه القصص أو الأفكار. فكيف لنا أن نعرف أي القصص كانت تؤثر على تفكير الناس؟ ومن ناحية أخرى، بوسعنا أن نتأكد بدرجة كبيرة من أن بعض القصص تؤثر بالفعل على عدم اليقين الاقتصادي المتصور.
أثبت علماء النفس أن الناس يعرضون "تأثيرا حدسيا"، يتمثل في الميل إلى تعليم الذكريات ببطاقات العواطف والانفعالات ومن ثَم لهذه العواطف بالتأثير على عملية اتخاذ القرار، حتى وإن لم يكن القرار مرتبطا بما أثار تلك العواطف. ومن الممكن أن يُفضي عدم تطابق المشاعر على هذا النحو إلى الخلل التنفيذي، والتقاعس عن العمل، والتردد.
وربما تؤسس بعض أنواع القصص المتداولة اليوم ــ والتي تتعلق بتنامي النزعة القومية أو الخوف من التحديات التي يفرضها المهاجرون على القيم الثقافية التقليدية ــ لقدر أعظم من التردد. فقد استُقبِل التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة الشهر الماضي بقدر غير عادي من الانزعاج في مختلف أنحاء العالم باعتباره مؤشرا لعدم الاستقرار السياسي. كما أضاف تصاعد وتيرة الهجمات الإرهابية حافة عاطفية شديدة القوة إلى مثل هذه التطورات.
تُرى هل تغذي هذه المخاوف قدرا كافيا من التردد الاقتصادي لجلب ركود آخر في مختلف أنحاء العالم؟ الواقع أن أي إجابة في وقتنا هذا قد تكون انطباعية وغير دقيقة. ولكن نظرا لأهمية العواقب، فلا ينبغي لنا أن نتقاعس عن النظر في الكيفية التي قد تؤثر بها هذه المخاوف على اتخاذ القرار الاقتصادي.
اضف تعليق