تعتبر الانتخابات وسيلة لإعادة توزيع موازين القوى داخل العملية السياسية وبين المكونات نفسها. ويتجلى هذا التوجه من خلال حرصها على تبنّي مسارين متوازيين في التحشيد الانتخابي: الأول يقوم على الخطاب الهوياتي الطائفي تحديدًا، في حين يعتمد الثاني على شبكات المصالح والنفوذ التي عملت على ترسيخها لضمان الولاءات الانتخابية...

يتجه العراقيون في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 إلى الإدلاء بأصواتهم في سادس انتخابات برلمانية منذ الغزو الأميركي للبلاد وإسقاط نظام صدام حسين عام 2003. وفي حين جرت الانتخابات السابقة، في عام 2021، في أعقاب الحركة الاحتجاجية التي شهدتها البلاد في خريف 2019، والمعروفة بـ "احتجاجات تشرين"، بوصفها مخرجًا سياسيًا لها، فإن الانتخابات الراهنة تجري في سياق التغييرات الإقليمية التي أدت إليها الحروب الإسرائيلية العدوانية على غزة ولبنان وإيران بعد عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وسقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024. ولا تتفق القوى السياسية العراقية النافذة، سواء أكانت في مؤسسة الحكم أم خارجها، على رؤية موحدة إزاء هذه الأحداث، أو مقاربة مشتركة في كيفية التعامل معها؛ ما أسفر عن انقسامات حادة في المشهد السياسي العراقي، انعكست آثارها على الحملات الانتخابية.

توقعات المشاركة

في ضوء الانقسامات، تبرز توقعات تشير إلى أن نسبة التصويت في الانتخابات الحالية قد تكون الأدنى منذ أول انتخابات في عام 2005، في ظل شعور عام بعدم جدوى العملية الانتخابية في إحداث تغيير في نهج الحكم وممارساته، فضلًا عن التراجع المستمر في نسب المشاركة مع كل دورة انتخابية جديدة. ويُظهر الشكل (1) الانحدار المستمر في نسب المشاركة في الانتخابات البرلمانية العراقية.

نسب المشاركة في الانتخابات البرلمانية في العراق (2005-2021)[1]

 

المصدر: "نسبة إقبال الناخبين في العراق بعد غزو الولايات المتحدة للبلاد عام 2003"، أمواج ميديا، شوهد في 9/11/2025، في: https://acr.ps/1L9BPhb


العودة إلى القواعد الانتخابية ما قبل "حراك تشرين" 2019

صوّت البرلمان العراقي، في آذار/ مارس 2023، على إدخال تعديلات جديدة على قانون الانتخابات، المعدَّل عن قانون رقم 9 سنة 2020. وقد أعادت هذه التعديلات النظام الانتخابي إلى الصيغة التي كانت معتمدة قبل الانتخابات المبكرة عام 2021[2]؛ فبعد أن كانت الدوائر الانتخابية مقسّمة إلى 83 دائرة صغيرة، وهو التقسيم الذي أتاح صعود قوى جديدة ومرشحين مستقلين، صوّت البرلمان على أن كل محافظة تُعدّ دائرةً انتخابية واحدة، وأن يُحتسب القاسم الانتخابي وفقًا لنظام "سانت ليغو" (1.7)، الذي يصبّ في صالح الأحزاب الكبيرة؛ إذ تُوزَّع المقاعد، بحسبه، وفق نظام التمثيل النسبي داخل الدائرة، على القوائم والكيانات، بناء على نسب الأصوات التي تحصل عليها؛ ما يحدّ من فرص الكتل الصغيرة في الحصول على مقاعد. ويأتي هذا التحول بعد أن كان النظام السابق المعتمد في انتخابات عام 2021، والذي عُدّ أحد أبرز منجزات "احتجاجات تشرين"، يقوم على نظام "الصوت الواحد غير المتحوّل"، الذي مكّن المستقلين والقوى الناشئة من دخول البرلمان.

تكريس القواعد الطائفية وانحسار "القوى العابرة للطائفية"

تشهد الانتخابات الراهنة، بحسب الأرقام الصادرة عن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، مشاركة 31 تحالفًا و38 حزبًا و75 مرشحًا مستقلًا، للتنافس على 329 مقعدًا، يخصص 9 منها لكوتا المكونات[3]. ومع الإعلان عن انطلاق الحملات الانتخابية في 3 تشرين الأول/ أكتوبر، برزت مفارقة لافتة (إن لم نقل تناقضًا) تمثلت في أن هذه الانتخابات قد حملت، ربما، الشعارات الأكثر طائفية منذ بدء العملية الانتخابية في العراق منذ عام 2003. فلم يعُد التنافس يدور بين كتل تمثّل هويات طائفية متقابلة، أو بين كتل ذات قواعد طائفية وأخرى ذات توجه وطني عام، بل بات التنافس محصورًا داخل كل مكون.

تكرّس هذه الانتخابات، في ما يتعلق بالتعبئة والدعاية، تراجع البرامج التفصيلية لصالح الاقتصار على اسم الكتلة المشاركة، مختَزَلةً في اسم زعيمها وصورته، وأحيانًا في شعار مفتاحي يعبّر عن الكتلة ومضمونها، مثل: "دولة القانون"، أو "عراق قوي"، أو "الإعمار والتنمية"، أو "تقدم"، أو "السيادة"، أو "الحسم الوطني"، أو "البديل". وكان جزء لا بأس به منها ذا مضمون طائفي. ولا يُقصد بـ "الطائفية"، في هذا الإطار، التوجه إلى جمهور مكون طائفي محدد، بل إظهار "امتياز" مخصوص تتمتع به هذه الطائفة. فعلى سبيل المثال، رفع "ائتلاف قوى الدولة الوطنية"، بقيادة عمار الحكيم، شعار "لا تضيعوها"، في إشارة إلى ضرورة تضافر جهود الجمهور الشيعي لمنع "سلب حقوق المكون الأكبر" (الشيعة)، ومنع التفريط بالسلطة، التي تُفهم، ضمنيًا، باعتبارها "امتيازًا شيعيًا"[4] لا تجوز إضاعته. وكذلك تبنّى تحالف "تقدم"، بقيادة رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، شعار "نحن أمة"، في إشارة إلى المكون السنّي، الذي يقدّمه الشعار بوصفه أمة متميزة من سائر المكونات التي تعدّ طوائف وأقليات[5]. واللافت أن "نحن" في هذه الانتخابات، عمومًا، يقصد بها الطائفة، لا الشعب العراقي.

وإذا انتهى التنافس بين المكونات لصالح التنافس داخل كل مكون، فإن تصاعد الشعارات الطائفية يعكس سباقًا داخليًا بين قوى المكون الواحد لإثبات تفوقها في تمثيله.

ومن أبرز سمات هذه الانتخابات، كما في سابقاتها، "تشظي" الكتل الممثلة لكل مكون، وعدم دخولها في ائتلافات؛ ما يجعل من الانتخابات وسيلة لتحديد وزن كل كتلة داخل المكون، لا تنافسًا عامًا على السلطة، بل ستكون تنافسًا على المناصب المحددة سلفًا لكل مكون.

بناء عليه، وبما أن المكون الشيعي يحاجّ بحقه، الذي يفرضه الواقع الديموغرافي، في تولّي منصب رئيس الوزراء، فإن الوظيفة الأساسية للانتخابات البرلمانية باتت تتمثل في تحديد الرصيد الرقمي للكتلة التي ستشكّل الحكومة وترشّح رئيس الوزراء، والتي قد لا تكون بالضرورة الكتلة الفائزة، أو صاحبة العدد الأكبر من المقاعد، بل التي تنجح في عقد صفقة بين الكتل الشيعية لتشكيل أكبر كتلة داخل البرلمان، كما حصل في دورتين انتخابيتين سابقتين من أصل خمس.

ويكشف هذا الأمر عن أزمة شرعية في النظام السياسي العراقي؛ فمع مقاطعة الانتخابات والعزوف عن التصويت فيها، واقتصار الكتل الفاعلة على تمثيل مكونات بعينها، لا سيما المكون الشيعي، فضلًا عن أن تشكيل الحكومة وترشيح رئيسها غالبًا ما يكونان عبر صفقات بين كتل تمتلك عددًا محدودًا من المقاعد، لا عبر الكتلة الفائزة، فإن ذلك كله يجعل الحكومة لا تمثل سوى شريحة ضيقة من الشعب العراقي.

ويلاحظ في هذا السياق أيضًا تأثير التحولات الإقليمية العميقة، التي شهدتها المنطقة خلال العامين الماضيين، في المشهد الانتخابي العراقي؛ إذ باتت قدرة إيران على ترتيب التحالفات الانتخابية داخل المعسكر الشيعي أضعف مما كانت عليه سابقًا، في وقت تتزايد فيه الضغوط الأميركية على الحكومة العراقية للحدّ من نفوذ الجماعات القريبة من إيران، والتي باتت تخضع لعقوبات صارمة قد تؤثر في مخرجات العملية الانتخابية.

وفي ظل تراجع الحماسة الشعبية، وانشغال القوى السياسية بتثبيت توازنات الوضع القائم بدل الدفع بالمسار الديمقراطي، غدت الانتخابات أداة لتعزيز حجم قواعدها داخل مكوناتها. ويتجلى هذا التوجه في الانقسام داخل "الإطار التنسيقي"، الذي فضّلت قواه السياسية خوض الانتخابات منفردةً، وإعلان نيتها الالتئام مجددًا بعد الانتخابات، رغم أنها شكّلت سابقًا كيانًا بمنزلة مجلس لإدارة الدولة. ويقابل هذا الوضع ما تشهده القوى السنية من انقسامات داخلية وصراع انتخابي شرس، رغم محاولات رأب الصدع، بهدف كسب المقاعد المخصصة في المحافظات ذات الأغلبية السنية.

خريطة القوى والتحالفات الانتخابية

لا يمكن فهم خريطة القوى السياسية المتنافسة في الانتخابات الحالية وتوزيعها من دون الرجوع إلى التقسيم الإثني والطائفي الذي بُنيت عليه العملية السياسية وقواها، وهو ما بات يشكّل مفتاح الفهم الأساسي للسياسة في العراق، وبات يتكرس على نحو متزايد. ومن هذا المنطلق، يصبح الحديث عمليًا عن ثلاثة مكونات رئيسة: القوى الشيعية، والقوى السنية، والقوى الكردية.

وإذا كان ثمة، دائمًا، هامش لما يُعرف بـ "القوى المدنية"، العلمانية أو العابرة للطائفية، داخل العملية السياسية بعد عام 2003، كحركة الوفاق، التي يقودها رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، فإن هذا الهامش أخذ في التقلص. ورغم أنه شهد فترات توسع، كما حصل مع "القائمة العراقية" التي فازت في انتخابات عام 2010، أو مع دعوة التيار الصدري، قبيل انتخابات عام 2021، إلى تشكيل كتلة عابرة للطائفية، فإنه سرعان ما انحسر إلى ائتلافات يسارية وعلمانية تقليدية، لا تفوز، في العادة، سوى بعدد محدود من المقاعد.

ويلاحظ في خريطة القوى الشيعية المشاركة في هذه الانتخابات غياب التيار الصدري، الذي فاز في انتخابات عام 2021 بـ 71 مقعدًا، قبل أن ينسحب بسبب عجزه عن تشكيل ائتلاف حاكم، نتيجة تعنت القوى الشيعية الأخرى ورفضها التحالف معه. وفي هذه الانتخابات، أعلن التيار مقاطعته رسميًا، وقاد حملة من أجل ذلك تحت عنوان "مقاطعون".

أما الائتلافات المشاركة، فيتصدرها "ائتلاف الإعمار والتنمية"، بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الذي تولى رئاسة الوزراء بترشيح من "الإطار التنسيقي"؛ وهو ائتلاف يضم القوى الشيعية الرئيسة، ما عدا التيار الصدري، ومعظمها قريب من إيران. غير أن السوداني، كسابقيه من رؤساء الوزراء، شكّل كتلة خاصة به، مستفيدًا مما تمنحه الزعامة ومنصب رئيس الوزراء من زخم سياسي، يعتمد كثير منه على العلاقة الزبائنية التي يتسم بها نظام الحكم في العراق.

أعلن السوداني صراحةً رغبته في الترشح لولاية ثانية[6]، لمواصلة مشروعه الذي أطلق عليه في بداية ولايته اسم "حكومة الخدمات"[7]. ولذلك، تطورت فكرة ائتلافه لتشمل محافظين برزت مؤشرات على نجاحهم في إدارتهم المحلية، مثل محافظي البصرة وواسط وكربلاء[8].

ويتمثل رصيد السوداني الانتخابي الأساسي، وفق روايته، في ما شهدته البلاد في ولايته من مشاريع إعمار، لا سيما في قطاعات الطرق والبنية التحتية والإسكان. ولذلك، يستند اسم ائتلافه ودعايته الانتخابية إلى فكرة "الإعمار" وربطها بالتنمية، بل تقديمه عليها (الإعمار والتنمية).

غير أن أطرافًا أساسية داخل "الإطار التنسيقي"، لا سيما نوري المالكي و"دولة القانون"، تعارض طموحات السوداني نحو ولاية ثانية، متهمة إياه بـ "التنكّر" لمن رشحوه لتولي المنصب، واستغلاله له لتشكيل زعامة خاصة به[9]، في سياق توجه داخل النخبة الشيعية الحاكمة لتحويل منصب رئيس الوزراء إلى منصب تنفيذي، في حين تُبقي تحديد السياسات العامة للحكومة والدولة في يد الإطار الشيعي الحاكم، الذي يرجّح أنه سيسعى لمنع السوداني، أو أيّ رئيس وزراء في المستقبل، من تجديد ولايته.

استطاع السوداني، بفضل منصبه، ضمّ طيف واسع من القوى والشخصيات إلى ائتلافه، بعضها من خارج الإطار الشيعي، من أبرزها: "تحالف العقد الوطني"، بقيادة فالح الفياض رئيس هيئة الحشد الشعبي، و"ائتلاف الوطنية" بقيادة علاوي، ووزير العمل أحمد الأسدي رئيس "تجمع بلاد سومر"، وتحالف "حلول الوطني"، الذي يضم قوى مدنية محسوبة على حراك تشرين، مثل حركة "نازل آخذ حقي"، وتحالفات محلية على مستوى المحافظات مثل "إبداع كربلاء" بقيادة نصيف الخطابي. ويتوقع أن يحل ائتلاف السوداني في المرتبة الأولى، بنحو 60 مقعدًا أو أكثر[10].

تتمثل القوة البارزة الثانية في خريطة القوى الشيعية في "ائتلاف دولة القانون"، بقيادة المالكي، الذي يطمح إلى استعادة منصب رئيس الوزراء[11]. وتستند أهمية ائتلافه إلى عمق حزب الدعوة الإسلامية وقاعدته التاريخية، إضافة إلى شبكة النفوذ والمصالح التي بناها خلال ولايتيه في الفترة 2006-2014.

أما تحالف "قوى الدولة الوطنية" الذي يتزعمه عمار الحكيم، الأمين العام لـ "تيار الحكمة"، فقد شهد انسحاب "ائتلاف النصر" بقيادة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، احتجاجًا على ما سماه دور "المال السياسي" وغياب الضوابط المانعة لتوظيفه[12].

وتشارك في الانتخابات قوى شيعية أخرى بارزة، منها: "حركة صادقون" بقيادة قيس الخزعلي، الأمين العام لـ "عصائب أهل الحق"، الذي قدّم وزير التعليم العالي نعيم العبودي ليكون واجهة الحركة في الانتخابات، وقائمة "بدر" التي يرأسها هادي العامري الأمين العام لمنظمة بدر، وتحالف "أبشر يا عراق" بقيادة همام حمودي الأمين العام للمجلس الأعلى، وائتلاف "الأساس العراقي" الذي يتزعمه محسن المندلاوي النائب الأول لرئيس مجلس النواب، إضافة إلى تحالف "تصميم" الذي يرأسه محافظ البصرة أسعد العيداني، الذي يستند في حملته هو أيضًا إلى المنجزات الخدمية بوصفه محافظًا للبصرة.

أما القوى السياسية السنّية، فقد كرّست هذه الانتخابات انحسارها، لا سيما تلك التي سيطرت على المجال السياسي السني بعد عام 2003، مثل الحزب الإسلامي، وزعامات من قبيل أسامة النجيفي، وصالح المطلك، مقابل بروز قوتين أساسيتين، تنافسهما قوتان صاعدتان، ويقودها جميعًا من يمكن تسميتهم "الجيل الثاني للنخبة السنية العراقية". والقوتان الأساسيتان هما:

حزب "السيادة"، الذي يتزعمه السياسي ورجل الأعمال خميس الخنجر، ويقدّم نفسه بوصفه الممثل الرئيس للعرب السنة في العراق[13]. يضم الحزب عددًا من الأحزاب والشخصيات، من أبرزها رئيس البرلمان محمود المشهداني، وحزب "تشريع" برئاسة زياد الجنابي. إضافة إلى تحالفه مع أحزاب محلية أُنشئت داخل المحافظات، مثل حزب "مسار الوطني" الذي يرأسه عبد الله أثيل النجيفي، ويتركز حضوره في محافظة نينوى.

تحالف "تقدم"، بقيادة الحلبوسي، الذي شهد خطابه السياسي تحوّلًا بين انتخابات عام 2021 والانتخابات الحالية؛ إذ انتقل من خطاب يركّز على إعادة الاعمار، إلى تبنّي خطاب الهوية السنية على نحو واضح، رافعًا شعار "سنّي الهوى والهوية"[14].

أما القوتان المنافستان، فهما:

"تحالف العزم"، الذي يتزعمه النائب مثنى السامرائي، ويضم عددًا من الأحزاب والشخصيات السنية.

"تحالف الحسم الوطني"، الذي يقوده وزير الدفاع ثابت العباسي، ويضم عددًا من الأحزاب السنية، مثل "حزب الحل"، و"حزب نينوى لأهلها" الذي يتصدره عبد الله حميدي العجيل الياور، شيخ قبيلة شمر، ونجم الجبوري محافظ نينوى السابق.

أما المجال السياسي الكردي، الذي يبدو أكثر رسوخًا وثباتًا من نظيريه الشيعي والسني، فلا يزال يحتكره، ويتقاسمه أيضًا، الحزبان الكبيران، الحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة مسعود بارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة بافل طالباني. وقد شهد الاتحاد الوطني تصدعات عدة بعد وفاة مؤسسه جلال طالباني، الرئيس العراقي الأسبق، تمثّلت في صراعات بين قيادة الحزب ومكتبه السياسي من جهة، وأبناء طالباني، المدعومين من والدتهم، هيرو إبراهيم أحمد، ابنة السياسي الكردي إبراهيم أحمد، شريك طالباني في تأسيس الحزب، من جهة ثانية، وبين أبناء عمومتهم من جهة ثالثة.

يكرّس هذا الانقسام الثنائي هيمنة الحزبين الكبيرين، ويشير إلى استمرار هامشية الأحزاب الكردية الأخرى، مثل الأحزاب الإسلامية، ولا سيما الاتحاد الإسلامي الكردستاني (الإخوان المسلمون الأكراد)؛ فقد فشلت محاولات تقويض هذه الهيمنة، على نحو ما حصل في تجربة حركة "التغيير"، التي أسّسها السياسي الكردي نوشيروان مصطفى في عام 2009، الذي كان نائبًا لطالباني في قيادة الحزب، وانشق عنه ليؤسس حركته، غير أن قوتها بدأت تتراجع بُعيد وفاته في عام 2017. وينطبق الأمر أيضًا على تجربة "حراك الجيل الجديد"، الذي أسّسه وقاده رجل الأعمال شاسوار عبد الواحد، وسعى من خلاله لتفكيك احتكار الحزبين الكبيرين وزيادة مقاعده، بعد أن حصل على 9 مقاعد في الانتخابات البرلمانية الماضية في عام 2021[15]، غير أنه تعرّض للقمع والاعتقال، وأحيل إلى المحكمة في عام 2025.

أما القوى المدنية العابرة للطائفية، فبعد أن أعلنت معظم أطرافها، المحسوبة على حراك تشرين، مقاطعة انتخابات 2021، احتجاجًا على سلسلة الاغتيالات والتهديدات التي استهدفت ناشطيها، فإنها تعود في هذه الانتخابات عبر "تحالف البديل"، الذي يضم مجموعة من التنظيمات والشخصيات العلمانية واليسارية، من أبرزها: "الحزب الشيوعي العراقي"، و"حزب الاستقلال" بقيادة النائب سجاد سالم، أحد قادة الحراك، و"البيت الوطني"، بقيادة الناشط في الحراك أيضًا حسين الغرابي، و"الحركة المدنية الوطنية"، التي تتزعمها النائبة السابقة شروق العبايجي. ويقود هذا التحالف عدنان الزرفي، مرشح رئاسة الوزراء عام 2020 ومحافظ النجف في فترتين متفرقتين، والذي ارتبط اسمه بعملية "صولة الفرسان"، حين شغل منصب مساعد وكيل وزير الداخلية لشؤون الأمن، وقد نُفذت العملية في عهد حكومة المالكي في عام 2008 لبسط السيطرة على مدن وسط العراق وجنوبه في مواجهة جيش المهدي التابع للتيار الصدري. وإلى جانب "البديل"، تبرز قوى مدنية أخرى، منها "التحالف المدني الديمقراطي"، الذي يرأسه الأكاديمي والسياسي علي الرفيعي، ويضم عددًا من القوى المدنية والديمقراطية في العراق، والتي كانت جزءًا من حراك تشرين.

خاتمة

في ظل التوقعات بانخفاض نسب المشاركة في الانتخابات الحالية، تنظر القوى السياسية إلى الانتخابات باعتبارها فرصة لتعظيم وزنها السياسي من خلال قواعدها التصويتية. ورغم أن ثمة قوى قد لا تبدي بالضرورة اهتمامًا فعليًا بزيادة نسب الإقبال على صناديق الاقتراع، فإنها، في الحصيلة، تعتبر الانتخابات وسيلة لإعادة توزيع موازين القوى داخل العملية السياسية وبين المكونات نفسها. ويتجلى هذا التوجه من خلال حرصها على تبنّي مسارين متوازيين في التحشيد الانتخابي: الأول يقوم على الخطاب الهوياتي الطائفي تحديدًا، في حين يعتمد الثاني على شبكات المصالح والنفوذ التي عملت على ترسيخها لضمان الولاءات الانتخابية؛ ما يُبقي العراق رهين انقساماته الطائفية والاثنية، ويحول دون بروز أجندة وطنية عراقية، ويجعل من الانتخابات مناسبة أخرى لإعادة إنتاج المشهد السياسي الراهن.

 https://www.dohainstitute.org/

.....................................

[1] ثمة شكوك، دائمًا، في دقة الأرقام التي تعلنها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، لا سيما في ما يتعلق بنسبة المشاركة؛ إذ تشير منظمات المجتمع المدني المعنية بمراقبة الانتخابات إلى أن نسب التصويت الفعلية أقل مما يُعلن رسميًا، وتُطرح اتهامات بوجود "تحايل" مقصود في آلية الاحتساب؛ فبدلًا من إعلان المفوضية نسبة المصوّتين من مجموع العراقيين الذين يملكون حق الاقتراع، تكتفي باحتسابها من عدد الناخبين الذين حدّثوا سجلهم الانتخابي (وهم من بات لهم حق التصويت؛ إذ لا يحق ذلك لمن لم يحدّث سجله الانتخابي).

[2] “Iraqi Parliament Passes Controversial Vote Law Amendments,” Aljazeera, 27/3/2025, accessed on 9/11/2025, at: https://acr.ps/1L9BPiu

[3] "56 حزبًا من أصل 349 يشاركون في الانتخابات البرلمانية العراقية"، روداو، 27/10/2025، شوهد في 9/11/2025، في: https://acr.ps/1L9BPi3

[4] "الحكيم يطلق شعار ’لا تضيعوها‘: لولا وعي المكوّن الأكبر لما صمد العراق أمام الإرهاب"، روداو، 10/10/2025، شوهد في 9/11/2025، في: https://acr.ps/1L9BPyj

[5] "الحلبوسي: كنا وما زلنا وسنبقى أمة"، الشرقية، 18/10/2025، شوهد في 9/11/2025، في: https://acr.ps/1L9BPOq

[6] "رجل في الأخبار-رئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني يسعى للفوز بفترة ثانية"، رويترز، 4/11/2025، شوهد في 9/11/2025، في: https://acr.ps/1L9BPhP

[7] "السوداني يعتزم تشكيل حكومة خدمات بـ22 وزارة"، ميدل إيست أونلاين، 17/10/2022، شوهد في 9/11/2025، في: https://acr.ps/1L9BP0p

[8] "ملامح تحالف جديد بين السوداني و«الأقوياء الثلاثة» في العراق"، الشرق الأوسط، 25/8/2024، شوهد في 9/11/2025، في: https://acr.ps/1L9BPVj

[9] "مصادر لـ ‘العالم الجديد’: إيران أبلغت الإطار التنسيقي رفضها التجديد للسوداني"، العالم الجديد، 5*11/2025، شوهد في 9/11/2025، في: https://acr.ps/1L9BPnH

[10] "استطلاع: السوداني سيحصد 60 مقعدا في الانتخابات"، بغداد اليوم، 5/11/2025، شوهد في 9/11/2025، في: https://acr.ps/1L9BPSe

[11] "ائتلاف دولة القانون يتمسك بترشيح المالكي لرئاسة الحكومة العراقية المقبلة"، شفق نيوز، 5/10/2025، شوهد في 9/11/2025، في: https://acr.ps/1L9BPpZ

[12] صفاء الكبيسي، "ائتلاف العبادي يشكك بنزاهة الانتخابات البرلمانية المقبلة ويسحب مرشحيه"، العربي الجديد، 28/6/2025، شوهد في 9/11/2025، في: https://acr.ps/1L9BPPQ

[13] بحسب ما يرد في التعريف الرسمي لحزب "السيادة" على موقعه الإلكتروني، فإن: "حزب السيادة هو أكبر حزب سياسي عراقي سُني عربي، يمثل المحافظات السنّية العراقية بالدرجة الأولى، تشكّل إثر الانتخابات التشريعية العراقية عام 2021 وتأسس يوم 25 كانون الثاني عام 2022، يمثّل المكون الرئيسي بنَفَس عروبي وطني على لسان رئيسه الشيخ خميس الخنجر. يسعى الحزب إلى الأمن والاستقرار، ورفع المظالم عن جميع المحافظات العراقية وعن كل العراقيين، ما يجعله يمثّل باتفاق الجميع المكون العربي السنّي في المحافظات، وبالتالي يدافع عن أمن العراق واستقراره الدائم". ينظر: "من نحن"، الموقع الرسمي لحزب السيادة، شوهد في 9/11/2025، في: https://acr.ps/1L9BOUX

[14] "’سني الهوى والهوية’: الحلبوسي يتحدث بكلام طائفي خلال تجمع انتخابي"، آي نيوز الفضائية، نبض، 18/10/2025، شوهد في 9/11/2025، في: https://acr.ps/1L9BPHi

[15] تعبّر حركة "الجيل الجديد" على موقعها الرسمي عن رغبتها في انتزاع المكانة التي يحظى بها الحزبان الكرديان: "نعمل على منع الاتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني من تمثيل مواطني إقليم كردستان في بغداد والتلاعب برواتب وقوت وحياة ومستقبل مواطني هذا الإقليم". ينظر: "حراك الجيل الجديد ستشارك في الحكومة العراقية المقبلة"، حركة الجيل الجديد، 27/9/2025، شوهد في 9/11/2025، في: https://acr.ps/1L9BOVd

اضف تعليق