في حين احتلت الأعمال الدائرة في البحر الأحمر عناوين الأخبار، كانت الصدامات الإسرائيلية–الحوثية ذات تداعيات لا تقل أهمية عن الديناميكات الداخلية في اليمن، فأجّلت الجهود المبذولة لإنهاء الحرب الأهلية بين الحوثيين والحكومة المعترف بها دولياً في عدن، والأزمة الإنسانية التي أوجدتها. والآن تواجه البلاد الخطر المزدوج المتمثل...
لقد كان لهجمات الحوثيين على سفن الشحن في البحر الأحمر تداعيات عالمية، في حين ما تزال الحرب الأهلية في اليمن دون تسوية. في هذا المقتطف من قائمة الأحداث التي ينبغي مراقبتها في عام 2025 – تحديث الخريف - تنظر مجموعة الأزمات إلى الكيفية التي يمكن من خلالها للاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء مضاعفة الجهود الدبلوماسية لوضع حد لهذا الخطر المزدوج.
من بين جميع مسارح الأحداث في المواجهات الدائرة بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 بين إسرائيل وحلفاء حماس، قد يكون المسرح الأقل تغطية إعلامية هو مسرح اليمن. في أعقاب هجمات حماس، والحملة الإسرائيلية الانتقامية في قطاع غزة، بدأ المتمردون الحوثيون اليمنيون (الذين يسيطرون على جزء كبير من شمال البلاد) بمهاجمة السفن التجارية في البحر الأحمر وإطلاق الصواريخ على إسرائيل نفسها. وتتمثل أهدافهم المعلنة في تعطيل التجارة البحرية كطريقة لفرض نهاية لحرب غزة ومساعدة “محور المقاومة“، الذي يتكون من شبكة شركاء إيران الإقليميين، التي تقلصت الآن. لقد ردت إسرائيل بضربات على المنشآت العسكرية للحوثيين، وشنت هجمات استهدفت قادتهم السياسيين. لقد عطل التصعيد المتبادل التجارة البحرية، ودفع إلى الانخراط أطرافاً أخرى، بينها الولايات المتحدة، التي أطلقت مجهوداً عسكرياً خاصاً بها ضد الحوثيين في نيسان/أبريل وأيار/مايو قبل التوصل إلى السلام مع الجماعة. لكن في حين احتلت الأعمال الدائرة في البحر الأحمر عناوين الأخبار، كانت الصدامات الإسرائيلية–الحوثية ذات تداعيات لا تقل أهمية عن الديناميكات الداخلية في اليمن، فأجّلت الجهود المبذولة لإنهاء الحرب الأهلية بين الحوثيين والحكومة المعترف بها دولياً في عدن، والأزمة الإنسانية التي أوجدتها. والآن تواجه البلاد الخطر المزدوج المتمثل في أزمة البحر الأحمر والحرب الأهلية التي لم تسوَّ بعد والتي اجتذبت إليها جهات فاعلة دولية.
للاتحاد الأوروبي رهانات مرتفعة في مسرح الأحداث هذا؛ فانقطاعات النفط وعمليات الشحن الأخرى التي تعبر ممر البحر الأحمر الإستراتيجي وسط الهجمات الحوثية ألحقت ضرراً كبيراً ببعض الدول الأعضاء. معظم السفن التي جرى استهدافها كانت ترتبط بدول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، حيث تعرضت اليونان لأكبر عدد من الحوادث على مدى العامين الماضيين. كما زادت الأزمة من حدة الأخطار التي تواجه انتشار السفن البحرية الأوروبية في المنطقة، ولا سيما بعثة أسبيدس التابعة للاتحاد الأوروبي، التي أُرسلت إلى البحر الأحمر في شباط/فبراير 2024 لحماية سفن الشحن من الحوثيين. كما قوضت الأعمال العدائية في البحر الأحمر الانخراط الدبلوماسي والإنساني للاتحاد الأوروبي في اليمن؛ إذ توقفت المحادثات التي دعمها لإنهاء الحرب الآن، وقُيدت جهوده في تقديم المساعدة، وجهوده التنموية في اليمن بسبب التصعيد، وبسبب العقوبات الأميركية على الحوثيين، وقمع الجماعة للمنظمات غير الحكومية الدولية.
ينبغي على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه النظر في اتخاذ الخطوات الآتية فيما يتعلق بسياستهم حيال اليمن:
- مع الإقرار بأن حملة إسرائيل في غزة لم تكن أساساً شرعياً لمهاجمة السفن في البحر الأحمر، الضغط على الحوثيين من خلال جميع القنوات المتاحة لوضع حد لعنفهم الآن وقد عُولجت الذريعة لهجماتهم من خلال وقف إطلاق النار الذي توسطت في التوصل إليه الولايات المتحدة، والعمل في الوقت نفسه على المساعدة في ضمان استدامة هدنة غزة.
- دعم الجهود الرامية إلى بناء هيكلية أمنية قابلة للحياة في البحر الأحمر، سواء كان ذلك من خلال إعادة إحياء مبادرات مثل مجلس البحر الأحمر، أو استكشاف بدائل ذات أهداف مماثلة. يمكن أن تستعمل العلاقات المتنامية للاتحاد الأوروبي مع مصر والسعودية لتشجيع دعمهما لمقاربة جماعية للأمن الإقليمي.
- التشجيع على استئناف محادثات السلام، بداية بخارطة الطريق التي تعطلت مع بداية الأعمال العدائية في البحر الأحمر، واستعمال هذا كأساس للتحرك نحو مفاوضات سياسية أوسع، تضم طيفاً واسعاً من الجهات الفاعلة اليمنية، وبرعاية الأمم المتحدة.
- دعم مبادرات المسار II ومشاريع أخرى تسعى إلى إعادة بناء العلاقات بين المجتمعات المحلية الواقعة تحت سيطرة الحوثيين وتلك الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً.
- زيادة الدعم الإنساني والتنموي، مع إدراك أنه سيكون هناك مجال أوسع بكثير للمناورة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة مما هو متاح في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون.
اضطرابات البحر الأحمر
تحدث أزمة البحر الأحمر على خلفية حرب أهلية يمنية شهدت إخراج المتمردين الحوثيين للحكومة المعترف بها دولياً من العاصمة، صنعاء، في عام 2015. أخفقت الجهود التي بذلها التحالف الذي تقوده السعودية والذي دعمته الولايات المتحدة حتى عام 2021 في إخراج المتمردين. والنتيجة هي وجود دولة مقسمة يحكم فيها الحوثيون من صنعاء الشمال ذا الكثافة السكانية المرتفعة بدعم من إيران، ويسيطر فيها مجلس القيادة الرئاسي – التجسيد الراهن للحكومة المعترف بها دولياً – من عدن الساحلية على الجنوب والشرق. في عام 2023، بعد هدنة بين الحوثيين والتحالف الذي تقوده السعودية، بدأت الجماعة بتعزيز وجودها العسكري في البحر الأحمر، بما في ذلك بنشر مقاتليها على عدة جزر، وتعزيز قدراتها البحرية، ونصب أجهزة رادار لمراقبة التحركات البحرية.
بدأت الأزمة الحالية في تشرين الأول/أكتوبر 2023، مباشرة بعد شن إسرائيل حملتها العسكرية في قطاع غزة، عندما بدأ الحوثيون بإطلاق النار على السفن البحرية التجارية في تعبير معلن عن التضامن مع حماس والفلسطينيين. درَّب الحوثيون أنظارهم أولاً على السفن المرتبطة بإسرائيل قبل تحويلها إلى السفن الأخرى. وكانت صليات صواريخهم أكثر كثافة خلال السنة الأولى من حرب غزة؛ وباختصار، حاولت الجماعة شن أكثر من ألف هجوم وألحقت الضرر بأكثر من مئة سفينة.
سرعان ما دفعت هجمات الحوثيين عدة دول للتدخل لحماية الملاحة في البحر الأحمر. في ظل إدارة بايدن، أطلقت الولايات المتحدة عملية ’حارس الرخاء’ مع المملكة المتحدة – وهو انتشار بحري يهدف إلى تأمين حرية الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن. ثم في آذار/مارس 2024، ومع استمرار الحوثيين في استهداف الملاحة في البحر الأحمر، انضم الاتحاد الأوروبي إلى العملية. أطلق عملية أسبيدس، المكونة من سفن من 21 دولة، لحماية السفن التجارية المارة في البحر الأحمر وباب المندب، وهو المضيق الذي يربط البحر بخليج عدن. منذ البداية، أكد الاتحاد الأوروبي على أن أسبيدس كانت مهمة دفاعية صرفة. في حين أنها رافقت أكثر من 440 سفينة في سنتها الأولى وأسقطت عدداً قليلاً من مسيرات الحوثيين، فإن القوة أصغر من أن تتمكن من تأمين الممرات المائية على نحو كامل (تتكون من ثلاث وحدات بحرية، ومدمرة إيطالية وفرقاطتين، واحدة ألمانية وواحدة يونانية). رغم ذلك، فقد لعبت أسبيدس دوراً مهماً في الرد السريع، ولا سيما في إنقاذ ناقلة النفط اليونانية سونيون بعد أن كادت ضربة حوثية تغرقها.
طوال أزمة البحر الأحمر، حاول الحوثيون ضرب إسرائيل نفسها، أولاً بالصواريخ البالستية ولاحقاً بأسلحة أكثر تعقيداً. وكان من بين أبرز الهجمات الضربة بالمسيَّرات في تموز/يوليو 2024 على وسط تل أبيب، حيث أسقطت الجماعة اليمنية أولى ضحاياها من الإسرائيليين. رغم أن إسرائيل أسقطت معظم القذائف الحوثية، فإن القدرات المتنامية للجماعة شكلت اختباراً لدفاعاتها الجوية.
علَّق الحوثيون حملتهم في البحر الأحمر خلال وقف إطلاق النار الذي دام 42 يوماً بين حماس وإسرائيل في الفترة الممتدة من منتصف كانون الثاني/يناير إلى منتصف آذار/مارس 2025، لكن شركات الملاحة ظلت قلقة وخائفة من أن الهدوء سيكون مؤقتاً فحسب. بالفعل، فبعد انتهاء الهدنة، استؤنفت الأعمال العدائية بشراسة متجددة – هذه المرة بدخول الولايات المتحدة الصراع. تعهدت إدارة ترامب، التي كانت قد وصلت إلى الحكم للتو، بوضع حد لهجمات الحوثيين، ومن 15 آذار/مارس إلى 6 أيار/مايو، شنت القوات الأميركية في المنطقة نحو 950 ضربة جوية على مواقع حوثية. لكن مع إطلاق الحوثيين النار على سفن بحرية أميركية، قررت واشنطن أن تكاليف حملة مفتوحة تتجاوز المزايا المتأتية منها. في ظل وقف لإطلاق النار توسطت عُمان في التوصل إليه، تعهد الحوثيون بعدم مهاجمة السفن التجارية أو العسكرية الأميركية، بينما أوقفت واشنطن ضرباتها. وما يزال وقف إطلاق النار ذاك نافذاً.
لكن السلام الأميركي مع صنعاء لم يشمل إسرائيل، واستمر الحوثيون وإسرائيل بتبادل الضربات. علاوة على ذلك، وسَّعت الجماعة اليمنية قائمة أهدافها لتشمل مواقع مثل مطار بن غوريون الدولي وقاعدة رامون الجوية، وهي منشأة عسكرية إسرائيلية في صحراء النقب. سقط صاروخ قرب مطار بن غوريون في أيار/مايو، فجرح ثمانية أشخاص وأطلق الرد الإسرائيلي الرئيسي الأول.
استهدفت الضربات الإسرائيلية المضادة تقويض القوة القتالية للحوثيين، وقطع شرايين حياتهم الاقتصادية وتقليص قدرتهم على الحكم. في أيار/مايو، قصفت إسرائيل عدة منشآت عسكرية حوثية ومطار صنعاء الدولي، الذي قالت إن الجماعة كانت تستعمله لأغراض عسكرية. كما هاجمت ميناء الحُديدة، وهو ميناء يسيطر عليه الحوثيون على البحر الأحمر، فدمرت محطة الطاقة الرئيسية في المدينة، ومنصة نفطية، وعدة أحواض لرسو السفن. في تموز/يوليو، أغرق الحوثيون سفينتين تجاريتين تشغّلهما اليونان في هجماتهم الأولى من هذا النوع منذ كانون الثاني/يناير.
في آب/أغسطس، اعترضت إسرائيل ما ادعت أنه صاروخ حوثي يحمل عنقوداً من الذخائر؛ ووصفه الحوثيون بأنه “متقدم“، دون تحديد حمولته. رداً على ذلك، شنت إسرائيل أكثر ضرباتها أهمية حتى ذلك الحين، فقصفت في 28 آب/أغسطس اجتماعاً لحكومة الحوثيين في صنعاء، فقتلت رئيس وزراء الجماعة واثني عشر وزيراً وجرحت عشرة آخرين. في وقت لاحق، هاجمت إسرائيل مؤسسات خاضعة لسيطرة الحوثيين، بما في ذلك مركزاً إعلامياً، ووزارتي الدفاع والمالية بحكم الأمر الواقع، فقتلت ما لا يقل عن 40 شخصاً وجرحت أكثر من 100 آخرين. أعلن الحوثيون، من جهتهم، أنهم سيستمرون في استهداف الملاحة في البحر الأحمر – ليس السفن الإسرائيلية فحسب، بل أيضاً السفن التي تنتمي إلى 65 شركة متهمة بالتعامل مع إسرائيل – كجزء من “خطوات تصعيدية” دعماً لغزة.
السؤال الآن هو كيف سيغير وقف إطلاق النار في غزة الذي توسط ترامب في التوصل إليه وأُعلن في مطلع تشرين الأول/أكتوبر حسابات الحوثيين. قبل ذلك، عبَّروا عن تصميمهم على متابعة حملتهم. وبدا أنهم قلقون من الضربات التي تعرض لها أعضاء المحور الآخرين (حماس، وحزب الله، ونظام الأسد المخلوع في سوريا وإيران نفسها) في السنتين الماضيتين، ورؤوا أن تلك الانتكاسات تعرِّض مكانتهم الإقليمية للخطر. يوفر موقعهم الجغرافي في شمال اليمن، المطل على خطوط شحن بحرية حيوية، ميزة إستراتيجية لم يترددوا في استغلالها. لكن عيونهم أيضاً على السياسات المحلية. كان ربط عملياتهم العسكرية بالقضية الفلسطينية طريقة لحشد التعاطف الشعبي وصرف الانتباه عن إخفاقاتهم في الحكم، والضغوط الاقتصادية والهدنة غير الرسمية المترنحة في الحرب الداخلية في اليمن. إذا صمدت هدنة غزة بينما استمرت العقوبات الاقتصادية الأميركية، سيواجهون مأزقاً في تحديد ما إذا كانوا سيستمرون على مسارهم الحالي أو سيسعون إلى التهدئة مع واشنطن.
خارطة طريق معطَّلة
لقد ألقت المواجهة في البحر الأحمر بظلال عميقة على المحادثات الرامية لإنهاء الصراع بين الحوثيين المدعومين من إيران من جهة، والحكومة المعترف بها دولياً والتحالف الذي تقوده السعودية الذي يدعمها من جهة أخرى. قبل بدء المواجهات، كانت المفاوضات التي تجري بوساطة عُمانية بين الجماعة والتحالف الذي تقوده السعودية تحقق تقدماً، حيث توصل الطرفان إلى جملة من التفاهمات بشأن خارطة طريق تتكون من ثلاث مراحل تهدف إلى جعل هدنة الأمر الواقع رسمية وتنفيذ المرحلة الإنسانية من الاتفاق، التي تشمل دفع الرواتب وتقاسم العائدات.
توقفت هذه المحادثات حالما بدأ الحوثيون هجماتهم على سفن الشحن العالمية، لكن الرياض وواشنطن (وشركاء آخرين) اعتقدوا أن استئناف المحادثات في ظل تلك الظروف سيمنح الشرعية للحوثيين ويكافئهم. في غياب التقدم في هذه المحادثات، يصمد السلام على الأرض بفضل هدنة أمر واقع فحسب، حكمت سلوك الطرفين بعد انتهاء مفعول وقف إطلاق نار رسمي في عام 2023. على هذه الخلفية، واجه المبعوث الخاص للأمم المتحدة صعوبة في العثور على مسار دبلوماسي عملي. لقد رفض الحوثيون مناقشة أزمة البحر الأحمر أو هجماتهم على إسرائيل، التي يصورونها على أنها مرتبطة بالحرب في غزة. بل إن مكتب المبعوث واجه صعوبة في فرض نفوذه حتى في مسائل إنسانية مثل تبادل الأسرى أو فتح الطرقات.
في هذه الأثناء، سعى خصوم الحوثيين من اليمنيين إلى تحصين مواقعهم العسكرية. على عدة جبهات، ولا سيما في محافظة مأرب في وسط البلاد وعلى الساحل الغربي، حصَّن المقاتلون الموالون لمجلس القيادة الرئاسي مواقعهم وتلقوا تعزيزات، وأرسل الحوثيون أيضاً قوات وإمدادات جديدة. يولي الحوثيون أهمية خاصة للساحل الغربي، خشية أن يهاجمهم خصومهم هناك، ولا سيما من المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات المقاومة الوطنية، وهو فصيل متحالف مع مجلس القيادة الرئاسي الذي يقوده طارق صالح. وبالتالي، عززوا دفاعاتهم في ذلك القطاع، وحدثت بعض الصدامات المتفرقة بين الطرفين.
أزمة اقتصادية وإنسانية
مع كل التحديات السياسية والعسكرية التي يواجهها اليمن، فإن التحدي الأكبر أمامه يتمثل في الحرب الاقتصادية بين الحوثيين وأعدائهم. يبقى النظام المالي منقسماً بين مصرفين مركزيين – واحد في صنعاء تحت سيطرة الحوثيين والآخر في عدن تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً. تعمق الانقسام في تموز/يوليو 2025 بعد أن طبع الحوثيون عملة جديدة دون التنسيق مع عدن، فقوضوا تفاهمات جرى التوصل إليها في عام 2024 لتخفيف حدة التوترات. تتراجع عائدات الحوثيين، جزئياً بسبب تعطيل التجارة من خلال ميناء الحُديدة.
على هذه الخلفية، يواجه اليمن أزمة إنسانية متصاعدة متعددة الأوجه. اليوم، يواجه أكثر من 17 مليون نسمة في اليمن الجوع، بمن فيهم 41,000 على حافة المجاعة. يعاني نحو 2.4 مليون طفل تحت سن الخامسة من سوء التغذية الحاد. وقد تراجعت كميات المساعدات بسبب نقص التمويل، حيث قلصت الولايات المتحدة مساهماتها، وشعر كثير من المنظمات الدولية بآثار ذلك. تقلص حجم البرامج الإغاثية التي كانت تدعم أعداداً كبيرة من السكان، ولا سيما في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، أو عُلقت. في الوقت نفسه، شددت الجماعة قيودها على وكالات المساعدات، فاعتقلت العشرات من موظفيها بتهم التجسس، الأمر الذي دفع المنظمات إلى تقليص أنشطتها وتعطيل تدفق المساعدات أكثر فأكثر. أوجدت إعادة تصنيف إدارة ترامب للحوثيين على أنهم منظمة إرهابية أجنبية في آذار/مارس، إضافة إلى عقوبات اقتصادية أخرى على الجماعة، مزيداً من العقبات، الأمر الذي دفع الوكالات للبحث عن مسارات وغايات أخرى لمساعداتها.
يبقى الاتحاد الأوروبي مانحاً رئيسياُ لليمن. منذ عام 2015، دفع أكثر من مليار يورو على شكل مساعدات إنسانية و500 مليون يورو على شكل مساعدات تنموية. تُعدُّ المفوضية الأوروبية ثاني أكبر مساهم في خطة الاستجابة الإنسانية في اليمن (بعد المملكة المتحدة)، حيث تقدم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي المساعدات كل بمفردها. في عام 2025، خصص الاتحاد الأوروبي 80 مليون يورو على شكل مساعدات إنسانية للمحافظات ذات جبهات الحرب النشطة، ومواقع النزوح الجماعي والمناطق التي يصعب الوصول إليها. كانت قد منحت أصلاً 126.6 مليون يورو في عام 2024. و145.12 مليون يورو في عام 2023. لكن مساعدات الاتحاد الأوروبي تراجعت وسط شعور المانحين بالإعياء ووجود أولويات منافسة، مثل الحرب في أوكرانيا.
ما الذي يمكن للاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء فعله
لقد كان لهجمات الحوثيين على الملاحة في البحر الأحمر تداعيات تتجاوز جوار اليمن، بما في ذلك أوروبا، التي تعتمد على نحو كبير على هذا الممر المائي لعبور إمداداتها بالنفط وأنواع أخرى من الشحن التجاري. وبينما ستستمر الضغوط القسرية والانتشارات العسكرية دون شك بتشكيل جزء من الصورة، مع سعي الجهات الفاعلة الخارجية إلى استعادة الملاحة الحرة في هذا الممر الإستراتيجي، فإن هذا يشكل وقتاً مناسباً بالنسبة لبروكسل والدول الأعضاء في الاتحاد لمضاعفة نشاطها الدبلوماسي.
أولاً، بينما لم يكن إظهار التضامن مع الفلسطينيين في غزة وسط الحملة العسكرية الإسرائيلية ذريعة شرعية لهجمات الحوثيين، فإن المتمردين جعلوها مبرراً لحملتهم في البحر الأحمر. يزيل وقف إطلاق النار الأخير تلك الذريعة. على هذه الخلفية، ينبغي على الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء دفع الحوثيين من خلال جميع القنوات المتاحة لإيقاف هجماتهم في البحر الأحمر، وبموازاة ذلك العمل مع قطر، ومصر والسعودية – ومن خلال الضغط على إسرائيل – للمساعدة في ضمان أن يحقق الاختراق الأخير الذي أمنته الولايات المتحدة نهاية دائمة للأعمال العدائية ويزيل تلك الذريعة نهائياً.
ثانياً، بالنظر أبعد من ذلك إلى الأفق، ينبغي على الاتحاد الأوروبي الاستثمار في بنية أمنية طويلة الأمد في البحر الأحمر يمكن أن تشكل رافعة للاستقرار الإقليمي. ستمكِّن إعادة إحياء مبادرات مثل مجلس البحر الأحمر – أو دعم شبكات جديدة ذات أهداف مماثلة – الدول المشاطئة من امتلاك الاستقرار الإقليمي. وهنا، يمكن لعُمان وقطر أن تلعبا دوراً محورياً، بالاعتماد على قنواتهما القوية مع الحوثيين وإيران وأيضاً مع القوى العربية. ينبغي على الاتحاد الأوروبي استعمال علاقاته الدبلوماسية التي ازدادت عمقاً مع مصر والسعودية لدفعهما نحو تحقيق تقدم في دعمهما لحل متعدد الأطراف من خلال التأكيد على أنه ما من بلد واحد مسؤول عن الأمن في هذه المياه.
ثالثاً، يتطلب الاستقرار الدائم تسوية للحرب الأهلية اليمنية في جميع أبعادها الإقليمية – وهو أمر أقر به الاتحاد الأوروبي في الخلاصات التي توصل إليها مجلسه في أيار/مايو 2025. قد تكون نقطة البداية لاندفاعة دبلوماسية خارطة الطريق الحوثية–السعودية التي وُضعت قبل أزمة البحر الأحمر، والتي تنص على وقف إطلاق نار شامل، ودفع رواتب موظفي القطاع العام واستئناف الصادرات النفطية، و (الأمر الحيوي) تحضير الأرضية لمحادثات يمنية–يمنية بقيادة الأمم المتحدة تشرك الفصائل التي استُبعدت عن الحوار الثنائي السعودي–الحوثي. بالنظر إلى أن الاتحاد الأوروبي يشجع مضي الدبلوماسية على هذا الأساس، ينبغي عليه وعلى دوله الأعضاء أيضاً الانخراط بهدوء مع واشنطن فيما يتعلق بكيفية استعمال رفع العقوبات المحتمل كحافز لتحقيق التقدم، وفي الوقت نفسه منعهم من تقويض احتمالات التوصل إلى تسوية سياسية.
رابعاً، يمكن لبروكسل أن تفعل المزيد لتشجيع إعادة بناء العلاقات بين المجتمعات المحلية المتحالفة مع الحوثيين وتلك المتحالفة مع الحكومة. على سبيل المثال، مع تقييم الاتحاد الأوروبي لدعمه الطويل لجهود الوساطة على المسار II في اليمن، ينبغي أن ينظر في استثمار المزيد في تعزيز التبادلات بين الوسطاء المحليين ولجان المصالحة. كما يمكن أن يعمل على تعزيز العلاقات بين المجتمعات المحلية من خلال دعم الخدمات المشتركة. أحد الأمثلة هو مشروع كهرباء مأرب، الواقع في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة لكنه يوفر الكهرباء لصنعاء. سيعود انخراط قادة المجتمعات المحلية من الطرفين لإعادة تفعيل هذه الخدمة بالفائدة على جميع الأطراف، ويمكن أن يساعد في بناء الثقة على جميع خطوط المعارك.
أخيراً، ينبغي أن يستمر الاتحاد الأوروبي - ومثالياً أن يزيد – جهوده الإنسانية والتنموية في جميع أنحاء اليمن. يجب أن يتجاوز هذا الدعم المناطق التي تسيطر عليها الحكومة ليصل إلى السكان الذين يعيشون تحت سيطرة الحوثيين، إلى الحد الذي تسمح به التراخيص الإنسانية بموجب أنظمة العقوبات المختلفة. بالنظر إلى الظروف المختلفة جذرياً في جزئي البلاد، ثمة حاجة إلى اتباع مقاربة مزدوجة. في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، تواجه المنظمات غير الحكومية الدولية –وهي الشريكة الإنسانية الرئيسية للاتحاد الأوروبي على الأرض– حالات قمع من قبل الجماعة وتكاليف إيصال مساعدات مرتفعة (بسبب تكاليف التأمين والنقل البري من المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة). ليس هناك طريقة سهلة لفعل هذا، لكن يمكن للاتحاد ودوله الأعضاء استكشاف قنوات بديلة، بما في ذلك عقد شراكات مع منظمات محلية والقطاع الخاص، وفي الوقت نفسه استعمال المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة كمركز لوجستي للوصول إلى المحافظات الشمالية.
في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة، تسمح الظروف بانخراط أكثر طموحاً. ينبغي للعلاقات الراسخة التي أقامها الاتحاد الأوروبي مع الحكومة اليمنية أن تترجم إلى دعم ملموس؛ أي تعزيز قوة مؤسسات الدولة، وتعزيز قدرة السلطات المحلية على تقديم الخدمات العامة، ومساعدة المجتمعات المحلية في بناء صمودها. يمكن أن يشمل ذلك زيادة الدعم لمؤسسات رئيسية مثل حرس السواحل، والمصرف المركزي في عدن، والمكاتب المحلية التي تقدم الخدمات العامة، لتعزيز قدراتها العملياتية. كما ينبغي أن يضاعف الاتحاد الأوروبي مساعداته للسلطات المحلية في دعم الأشخاص المهجرين داخلياً واليمنيين الآخرين الذين يعيشون أوضاعاً هشة من خلال المبادرات الإنسانية والتنموية على حد سواء. من شأن مثل هذه الجهود ليس أن تحسن الحوكمة في هذه المناطق فحسب، بل أن تخلق أيضاً نموذجاً ملهماً للأشخاص الذين يعيشون تحت سيطرة الحوثيين للمطالبة بخدمات أفضل ومزيد من المساءلة.
يوفر وقف إطلاق النار في غزة فرصة لتخفيف حدة أزمة البحر الأحمر، لكن البناء على هذه الفرصة سيتطلب دبلوماسية مباشرة من قبل الجميع، سواء لضمان دوام الهدنة أو السعي لإيجاد مخرج من الحرب الأهلية في اليمن.
اضف تعليق