q
فوزارة المالية العراقية، حتى بعد زيادة ميزانيتها الممتدة على ثلاث سنوات بثلاثة أضعاف، لم تخصص أي أموال لهيئة النزاهة من أجل تعزيز قدراتها في الملاحقة القضائية. وفي حين أن الآثار الضارة للفساد معروفة جيدًا، لم يبدِ المسؤولون العراقيون اهتمامًا يذكر بمكافحته. وكذلك، لا تُقدَم أي حوافز للسياسيين في...
بقلم: آرام محمود

نظرًا لعدم قدرة المؤسسات العراقية أو عدم رغبتها في مكافحة الفساد كما يجب، تصبح الحاجة إلى تدخل هيئة دولية واضحة. لذلك، يُعد دعم الحملة العالمية لإنشاء محكمة دولية لمكافحة الفساد ضروريًا من أجل محاسبة الحاكمين الفاسدين عندما تفشل المحاكم الوطنية في القيام بذلك.

منذ الغزو الأمريكي للعراق وتنصيب أول حكومة منتخبة ديمقراطيًا في وقت لاحق، كان الفساد مشكلة مستشرية بالنسبة إلى الحكومة العراقية. فقد اختفت، سنة بعد سنة، مليارات الدولارات من الأموال العامة أو تم تحويلها بطريقة غير مشروعة إلى خارج البلاد. وتم نهب ما يقدر بنحو 350 مليار دولار من الدولة العراقية بسبب الفساد، مع إعادة استثمار جزء كبير منها في الخارج، على ما يبدو لدعم الجناة ليس إلا. ولا بد من وقف هذه الحلقة المفرغة.

رغم من وفرة الموارد الطبيعية في العراق وتدفق المليارات من عائدات النفط خلال العقدين الماضيين، يُعد الوضع في العراق مأساويًا. فقطاع الخدمات لا يزال غير كافٍ، ونظام الرعاية الصحية العام غير مناسب. كما أن البطالة متفشية، ووفقًا لإحصائيات وزارة التخطيط العراقية، تعيش نسبة صاعقة وهي 25 في المئة من السكان تحت خط الفقر. بالإضافة إلى ذلك، عانى العراق من عدم استقرار سياسي خلال العقدين الماضيين، اتسم بصراع طائفي وأعمال إرهابية صادمة، تفاقمت من جراء الفساد. وتتنافس الأحزاب السياسية والجماعات الطائفية على حصة من الكعكة، ولا يحصل عامة السكان على أي فوائد.

يؤثر الفساد المتفشي داخل الحكومة العراقية على الطريقة التي يجب أن تتفاعل بها الجهات الخارجية مع الدولة. فبعض الشركات الدولية تلجأ إلى الرشوة للحصول على عقود كبيرة، فتؤدي هذه الأموال غير المشروعة إلى إثراء مجموعات المصالح المرتبطة بشكل غير مباشر بوزارات مختلفة. وغالبًا ما يرأس هذه الوزارات وزراء يتم تعيينهم سياسيًا من قبل الجماعات الطائفية، ما يؤدي إلى تأخير مشاريع البنية التحتية وفشلها. وتفيد العقود الكبيرة في المقام الأول الشركات المرتبطة بأحزاب سياسية أو سياسيين محددين، بحيث تعمل مع الإفلات من العقاب. وهذا يضع الشركات الدولية، بما في ذلك الشركات الأمريكية، في وضع غير مؤاتٍ في ما يتعلق بالامتثال لتدابير مكافحة الفساد، بينما تحاول التنافس على العقود وتمارس الأعمال التجارية في العراق.

منذ سنوات، يتمكن مخالفو القانون من الإفلات من الملاحقة القضائية بسبب الثغرات القائمة في النظام القانوني الحالي. ففي حين أنه لدى العراق قوانين صارمة ضد الأفراد الفاسدين والسياسيين الذين يتم فضحهم علنًا، إلا أنه يفتقر لآلية فعالة لإنفاذ هذه القوانين. فهيئة النزاهة ووزارة العدل العراقية تتمتعان بسلطة ادعاء دولية محدودة، وحتى إذا تم القبض على مرتكبي المخالفات، لا يمكن ملاحقتهم خارج نطاق ولايتهما القضائية أو التعاون مع ولايات قضائية أخرى لتجميد الأموال المسروقة وإعادتها إلى الوطن. كما أن التعقيدات الروتينية والإجراءات المحاسبية تجعل من الصعب على هيئة النزاهة إقناع وزارة المالية بتخصيص أموال لأنشطتها القانونية خارج العراق. وغالبًا ما تؤدي البيروقراطية المحيطة بالتخصيصات المالية إلى تأخيرات وعقبات تعيق قدرة هيئة النزاهة على تنفيذ المهام الأساسية في الولايات القضائية الأجنبية.

على الرغم من الدور الحاسم الذي تلعبه هيئة النزاهة في التحقيق في الفساد وتعزيز المساءلة، فإن الشبكة المعقدة من اللوائح والمعاملات الورقية تحرم اللجنة من الموارد اللازمة لتتبع الأدلة، أو التعامل مع هيئات القانون الدولي، أو مقاضاة الجناة. فوزارة المالية العراقية، حتى بعد زيادة ميزانيتها الممتدة على ثلاث سنوات بثلاثة أضعاف، لم تخصص أي أموال لهيئة النزاهة من أجل تعزيز قدراتها في الملاحقة القضائية. وفي حين أن الآثار الضارة للفساد معروفة جيدًا، لم يبدِ المسؤولون العراقيون اهتمامًا يذكر بمكافحته. وكذلك، لا تُقدَم أي حوافز للسياسيين في الحكم كي يمكّنوا عمل هيئة النزاهة، بحيث يخشون أن يتم استخدام نظام العدالة الأكثر جرأة كسلاح ضدهم من قبل خصومهم في المستقبل.

وفي حين حاول بعض السياسيين عكس هذا الاتجاه وتعزيز سلطة كل من هيئة النزاهة ووزارة العدل من خلال سن قوانين جديدة، إلا أن هذه الجهود كانت تتعثر باستمرار عند وصولها إلى البرلمان. في عهد الإدارة السابقة، قام الرئيس العراقي برهم صالح بتشكيل لجنة تتألف من الكثير من القضاة والأكاديميين، وكنتُ عضوًا فيها، سعت إلى صياغة تشريع يهدف إلى تمكين هيئة النزاهة وسد الثغرات القانونية التي تسمح لمخالفي القانون باستغلال النظام القضائي. وتضمنت هذه التدابير المقترحة دعم المدعي العام العراقي وتقديم حوافز للمبلغين عن المخالفات لكشف الفساد. فالقانون الحالي (المادة 14 من القانون رقم 9 لسنة 2012) لا يقدم سوى مكافآت قليلة للمبلغين بالمقارنة مع المخاطر المترتبة عن التبليغ. ويهدف هذا التشريع إلى تسهيل تجميد الأموال المسروقة وإعادتها، على أن تُستخدم جميع الأرباح الناتجة من هذه الأموال لخدمة الشعب العراقي. ولسوء الحظ، على غرار قوانين مكافحة الفساد الأخرى، لم يصل هذا التشريع إلى البرلمان لعرضه على المناقشة أو التصويت.

نظرًا لعدم قدرة المؤسسات العراقية أو عدم رغبتها في مكافحة الفساد كما يجب، تصبح الحاجة إلى تدخل هيئة دولية واضحة. لذلك، يُعد دعم الحملة العالمية لإنشاء محكمة دولية لمكافحة الفساد ضروريًا من أجل محاسبة الحاكمين الفاسدين عندما تفشل المحاكم الوطنية في القيام بذلك. وبدأت المنظمة الدولية لمبادرات النزاهة (III)، وهي منظمة غير حكومية بقيادة القاضي مارك وولف من الولايات المتحدة والقاضي ريتشارد غولدستون من جنوب أفريقيا وآخرين، مع الكثير من شركائها، تنجح في استقطاب الدعم العام لإنشاء المحكمة الدولية لمكافحة الفساد من جانب حكومات كندا وكولومبيا والإكوادور ومولدوفا وهولندا ونيجيريا، بالإضافة إلى البرلمان الأوروبي. وتقوم المنظمة الدولية لمبادرات النزاهة حاليًا بتنظيم فريق من الخبراء لإصدار معاهدة نموذجية من أجل إنشاء المحكمة الدولية لمكافحة الفساد.

من المؤسف أن الفساد في العراق لا يزال السبب الرئيسي للنزاعات والانقسامات الطائفية والخلل الحكومي. فالفساد المتأصل في الحكومة العراقية يشل قدرات الدولة ويزيد من الفقر وآثار تغير المناخ والهجرة الجماعية والعنف. وبدلًا من التوصل إلى حل محلي، من الضروري أن يُسمح لمحكمة دولية بمحاكمة هؤلاء الأفراد الفاسدين الذين يعرّضون مستقبل المدنيين العاديين للخطر من خلال أفعالهم.

* آرام محمود (آرام كوكوي)، هو طالب دكتوراه في الاقتصاد ومستشار سابق لرئيس الجمهورية برهم صالح.
https://www.washingtoninstitute.org/

اضف تعليق