q
مع اختفاء بقايا النظام الثنائي القطبية الذي ساد خلال القرن العشرين أخيرا، يبرز في الصدارة نظام خُـماسي. في هذا النظام ستكون الولايات المتحدة والصين ــ القوتان العظميان عسكريا وتكنولوجيا واقتصاديا في هذا القرن ــ اللاعبين المهيمنين، لكن أوروبا واليابان والهند ستمارس كل منها نفوذا حقيقيا على مساحات شاسعة...
بقلم: يوشكا فيشر

برلين ــ نحن نشهد حشدا غير مسبوق من الأزمات الكبرى والثانوية. من جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، وارتفاع أسعار الطاقة، وعودة التضخم في الاقتصادات المتقدمة والنامية، إلى سلاسل التوريد المتصدعة، والحرب الإجرامية التي تشنها روسيا على أوكرانيا، وتغير المناخ، تشكل العديد من هذه الأزمات علامات ليس فقط على الاضمحلال بل أيضا على مولد نظام عالمي جديد.

مع اختفاء بقايا النظام الثنائي القطبية الذي ساد خلال القرن العشرين أخيرا، يبرز في الصدارة نظام خُـماسي. في هذا النظام ستكون الولايات المتحدة والصين ــ القوتان العظميان عسكريا وتكنولوجيا واقتصاديا في هذا القرن ــ اللاعبين المهيمنين، لكن أوروبا واليابان والهند ستمارس كل منها نفوذا حقيقيا على مساحات شاسعة من كوكب الأرض.

وتظل علامة استفهام كبيرة معلقة فوق روسيا، لأن مكانتها وقدراتها وموقفها الاستراتيجي في المستقبل سيتوقف على نتيجة حربها العدوانية المتهورة. في عهد الرئيس فلاديمير بوتن، تشبثت روسيا بالماضي باستماتة، ساعية إلى إعادة خلق القرن العشرين أو حتى أواخر القرن التاسع عشر. ولكن بجهودها المضللة الكارثية لتدمير أوكرانيا، فإنها في النهاية تدمر ذاتها.

إن هزيمة روسيا عسكريا في أوكرانيا حقيقة مؤكدة بالفعل ــ هي مسألة وقت فقط. لكن لا يزال من السابق للأوان التنبؤ بالعواقب المحتملة. هل ينجو نظام بوتن، أو هل تنذر هزيمة روسيا بمرحلة أخرى من الانحلال الداخلي والتفكك؟ إلى أن يُـحـسَـم هذا السؤال، لن يكون بوسعنا أن نعرف ما إذا كانت روسيا لتحاول الحفاظ على مطالبتها القديمة بالهيمنة في أوروبا الشرقية وقسم كبير من أوراسيا.

إذا أُجـبِـر الكرملين على التخلي عن هذا الادعاء، فمن المحتمل أن ينتهي دوره كقوة عالمية. من المؤكد أن حتى روسيا المتهالكة المنكسرة، بدلا من الدخول في حالة سبات جيوسياسي، ستظل في الأرجح مصدرا رئيسيا لعدم الاستقرار في النظام العالمي الجديد، وخاصة في القارة الأوروبية. لكن من الواضح الآن أن ترسانة روسيا النووية الضخمة لم تعد كافية لتأمين وضعها الجيوسياسي في القرن الحادي والعشرين. فقد تمكن الضعف من اقتصادها على نحو قاطع مع تحرك بقية العالم نحو التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري ــ العمود الفقري للاقتصاد الروسي.

في حين تفرض روسيا مخاطر جديدة بسبب هشاشتها وانحلالها، فإن الخطر الذي تشكله الصين يرجع إلى تزايد ثروتها وقوتها. فبسبب موجة العولمة الهائلة التي بدأت في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، تمكنت الصين من انتشال نفسها من براثن الفقر وتهيئة نفسها لاكتساب وضع الدولة ذات الدخل المرتفع. ومع أزمة 2008 المالية التي انتقصت من مكانة الغرب جزئيا، كانت الصين قادرة على توسيع دورها القيادي العالمي وتقديم نفسها كقوة عالمية عظمى إلى جانب الولايات المتحدة.

ولكن على النقيض من الاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة، لم ترتكب الصين خطأ التركيز فقط على قوتها العسكرية. على العكس من ذلك، يعكس صعودها العالمي احتضانها للاندماج في الأسواق العالمية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة والغرب من خلال العمل كطاولة عمل العالَـم الممتدة، بينما استثمرت بكثافة في التنافس مع الغرب على الحدود التكنولوجية والعلمية. من المؤكد أن الصينيين لم يُـحجِـموا عن الاستثمار العسكري، لكنهم لم يسمحوا للإنفاق على الدفاع والأمن بمزاحمة كل شيء آخر. الاختلاف الـممـيز بين الصين وروسيا اليوم هو أن القيادة الصينية، على عكس بوتن، كانت تعيش في القرن الحادي والعشرين لفترة طويلة.

كشفت قمة مجموعة العشرين التي انعقدت مؤخرا في بالي بوضوح عن هذا الاختلاف الأساسي في الرؤية والغرض. ففي حين وجدت روسيا نفسها معزولة دبلوماسيا، كانت الصين مركزية في كل المناقشات وصياغة البيان الختامي. ورغم أن دولا كبيرة مثل الصين والهند لم تتبن الخط الغربي بشأن أزمة أوكرانيا، فإنها استغلت المناسبة للحفاظ على المسافة بينها وبين الكرملين بشكل ملحوظ، وشجبت سياسته الحربية وتهديداته النووية. إذا ساعدت المحادثات الشخصية بين الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الصيني شي جين بينج في تهدئة التوترات الصينية الأميركية، فإن قمة بالي ستكون بهذا فتحت الباب لإعادة تشكيل العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين.

تقدم نتيجة انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة سببا آخر للأمل، حيث فشلت "الموجة الحمراء" الجمهورية التي كانت منتظرة على نطاق واسع في التحقق. وفشل الحزب الجمهوري في الاستيلاء على مجلس الشيوخ وحصل بالكاد على الأغلبية في مجلس النواب. وكما حدث في عام 2018 ثم في عام 2020، تسبب الرئيس السابق دونالد ترمب مرة أخرى في إيقاف تقدم حزبه. ولا يريد معظم الأميركيين العودة إلى سياساته الانعزالية المتمثلة في شعار "أميركا أولا".

تقدم انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة وقمة بالي معا سببا للتفاؤل في لحظة مشحونة بالتوترات. لكننا في احتياج إلى إحراز قدر أكبر كثيرا من التقدم نحو التعاون العالمي. ففي نهاية المطاف، لن نتمكن من التغلب على أكبر أزمتين في مواجهتنا ــ حرب روسيا الرجعية في أوكرانيا وتغير المناخ ــ إلا إذا وجدت القوى الرئيسية في العالم السبيل إلى العمل معا.

* يوشكا فيشر، وزير خارجية ألمانيا ونائب المستشار من 1998 إلى 2005، كان زعيمًا لحزب الخضر الألماني لما يقرب من 20 عامًا.
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق