q
د.نادية فاضل عباس فضلي

 

ان العراق مر بمرحلة عصيبة ومظلمة تجسدت باحتلال التنظيم الارهابي ((داعش)) الى ما يقارب ثلث الاراضي العراقية في حزيران من العام 2014، حاملاً معه الجهل والقتل والتشريد وتدمير المدن، ومن دون الخوض في تفاصيل الاحتلال تتأتى مسألة حساسة شديدة الاهمية يجب ان ننطلق منها في وضع فرضيتنا البحثية الا وهي ان التأهيل المجتمعي للمواطن الذي تعرض للارهاب الفكري والجسدي هي اولوية اساسية لبناء الانسان بعد مرحلة مابعد داعش والاساسيات الاخرى تنتظم في جدول زمني.

لقدتعرضت المحافظات (الموصل، الانبار، صلاح الدين، كركوك) خلال احتلال داعش لها الى صدمة كبيرة اسهمت برفع حدة التوتر المجتمعي وزيادة اجواء عدم الثقة بين الاطراف السياسية والاجتماعية نتيجة النزاعات والصراعات التي مرت بها، وعليه من غير الممكن ترك حالة الاستياء الطائفي والانعزال المجتمعي بعد التحرير دون إتخاذ معالجات اجتماعية وفكرية وثقافية لان استمرار الاوضاع على ماهو عليه يعرض الاستقرار والتعايش الاهلي الى خطر شديد وربما يقود ذلك الى عواقب وخيمة يصعب التكهن بمدياتها.

فالتأهيل المجتمعي والنفسي يعد من اخطر التحديات التي يواجهها المجتمع العراقي اسوة بالتحديات الامنية والعسكرية والاقتصادية ،فإعادة الاعمار للمناطق المحررة لايتطلب الالتفات الى البنى التحتية والخدمات كالكهرباء والماء وبناء الدور والمستشفيات والمدارس والمؤسسات الخدمية الاخرى فحسب فقبل كل شئ لابد من إعادة تأهيل المواطن عن طريق بث روح الامل والقدرة على العودة الى الحياة الطبيعية ماقبل سيطرة داعش وتطمينهبقدرته على بناء مادمر من جديد، ولكن يبقى دور الدولة العراقية ومؤسساتها الفاعل الاول في وضع استراتيجية شاملة تتضمن جميع المجالات الحيوية وهذا العمل يتظافر مع تفعيل دور منظمات المجتمع المدنيفللاخير القدرة الكبيرة على التقرب من هموم الناس وتقديم العون والمساعدة المادية والمعنوية وخاصة في جانبها النفسي، فضلاً عن المنظمات الدولية ذات الطابع الانساني.

كما ان هناك حالة من الخوف والذعر تنتاب المناطق المحررة من تكرار التجربة المؤلمة في هذه المناطق اذا مالم يتم وضع آلية منهجية لمواجهة المشكلات المتفاعلة والمتراكمة ،فمواجهة مشاريع التقسيم هي من اهم المشاكل في العراق ولاتتعلق بالجانب السياسي بل الاجتماعي والفكري والثقافي والنفسي، وهذا يتطلب ضرورة اشاعة روح المواطنة والتعامل مع جميع العراقيين بصورة متساوية امام القانون مع تفعيلالحوار بين الأطراف والأطياف السياسية العراقية، وعلى الصعيد المجتمعي ايضاً، وصولاً إلى مواقف موحدة إزاء المشاريع التقسيمية التي تهدد وحدة وسلامة العراق وامن وتطور شعبه، كما يجب توفرمعالجاتللهواجس والمخاوف و الشعور بالظلم والتهميش لمختلف المكونات القومية والدينية والمذهبية والثقافية وتحقيق العدالة الانتقالية للمناطق المحررةفوفقاً لطبيعة داعش الارهابي وفكره المنحرف ونظرا للانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها بحق المواطنيين المدنيين الذين وقعوا تحت هيمنته في المناطق التي احتلها، ينبغي ان يتوفر فهم واضحللعدالة الانتقالية، فهي ليست عدالة ثأرية كما انها ليست عدالة تسامحية وانما هي العدالة التيتسعى للانتقال بالمجتمع من خلال آليات منظمه ووفق استراتيجية شاملة، والانتقال من مرحلة حكم الاستبدادي إلى الحكم الديمقراطي ،كما يلاحظ ان الجانب الثقافي والعقائدي له اهمية كبرى في التأهيل المجتمعي، فخطاب داعش المتشدد وتفسيره الخاطئ للقران الكريم يجب ان يواجه من قبل علماء الدين في العراق وفقهاءهابإقامة حوارات فكرية وتبادل الرأي لشرح ما التبس وحرف من نصوص القران الكريم والسنة النبوية المطهرة،وخاصة فيما يتعلق بأحكام النساء فما جرى للنساء الايزيديات على سبيل المثال من تعرض للقتلوالسبي والبيع في سوق الرقيق هو بعيد كل البعد عن الشريعة الاسلامية السمحاء التي وضعت للمرأة مكانة مقدسة ورفيعة اكثر من كل الديانات السابقة والشرائع السماوية.

اما فيما يتعلقبعملية المصالحة فهي تعدمن آليات إعادة الدمج الاجتماعي وبناء جسور الثقة بين اهالي المناطق المحررة وابناء الانتماءات الاجتماعية الأخرى وتعزيز الثقة برغبة الحكومة الاتحادية في معالجة اوضاعهم والاسراع في اعادة بناء مدنهم المدمرة، والاهتمام بتشكيل فرق متطوعين للمشاركة في اعادة بناء وتأهيل المناطق المدمرة وتوفير الخدمات،فهناك ثلاثة جهات تتولى عملية اعادة النازحين واعادة الاعمار هي لجنة النازحين التابعة لوزارة الهجرة والمهجرين، وصندوق اعادة اعمار المحافظات المحررة من داعش ولجنة المصالحة الوطنية، ولنأخذ تجربة جنوب افريقيا للمصالحة الوطنية هي من الامثلة الواضحة على تطبيق المصالحة المجتمعية من اجل مسيرة بناء الدولة وتقدمها فقد قدم الرئيس "نيلسون مانديلا"مقترحات لايجاد مقاربات بين المجتمع المتصارع تمثلت بتقديم عفو عن مرتكبي بعض الجرائم وفق ضوابط وذلك لتحقيق السلم الاهليوالمصالحة المجتمعية وعليه لابد من وضع اليات ومقاربات تواكب تحديات التمركز القبلي والعرقي والمذهبي التي تشكل تحديات مؤثرة ضد المصالحة ولكن علينا ان نبحث ونستكشف الفاعليين المحليين الذين تبنوا وروجوا للمشروع الوطني العراقي والوحدة الوطنية لقيادة مبادرات المصالحة من خلال توسيع حضورهم السياسي والاجتماعي حكومياً.

ان إعادة التأهيل المجتمعي للمناطق المحررة يتطلب الالتفات الى الابعاد المجتمعية الثلاثة هي:

1.البعد الاجتماعي

ان الآثار النفسية والاقتصادية والامنية المترتبة على النزوح خطيرة، فان آثارها الاجتماعية هي الاشد حساسية والاكثر خطورة،فما حدث في العراق قد مزق النسيج الاجتماعي العراقي بشكل خطير جداً، فمعروف ان النازحين نزحوا هرباً من قتل الدواعش لهم وتشريدهم،ولا يخفى على الجميع ان النازحين ينتمون الى اطياف معينة ياتي الشيعة التركمان في مقدمتهم، والشبك والايزيديين والمسيحيين، وعدد كبير من الهاربين من المكون السنيوهم من الرافضين لتوجه الجماعات الارهابية والتكفيرية والطائفية والانتهازية، اذن المشكلة الاجتماعية الاكبر في تزايد الاعداد الكبيرة من العوائل في مكان واحد وهي عادةً عبارة عن صالات كبيرة، لايفصل بين عائلة واخرى سوى قطعة من القماش ،وهذا بحد ذاته يمثل ثغرة ربما تتوسع لتخلق ازمات ومشاكل عائلية صعبة الحل، ففي معظم اماكن سكن النازحين، لا وجود لخصوصية لرجل ولا لإمرأة،ولا لطفل او شيخ، وعليه لابد من ايجاد حلول سريعة لاعادة النازحين الى مناطقهم وتأهيلها.

2.البعد الثقافي

ان محل اقامة العوائل في بنايات غير صالحة للسكن وبأعداد كبيرة يؤدي بالضرورة الى انتشار بعض السلبيات وخصوصاً بين الفئات العمرية الصغيرة،هذا فضلاً عن ظهور مشاكل وخلافات بين العوائل النازحة نظراً لاختلاف الطباع والعادات والسلوكيات ومشاربهم الثقافية وهنا يتوجب على الحكومة بالتعاون مع مخيمات النزوح العمل على حماية اولادهم من اكتساب هذه العادات المضرة، من خلال اقامة برنامج مكثف لسكنة هذه المخيمات، لغرس ثقافة الاحترام والتعاون والمحبة والتعايش، وبهذا تتحول أزمة النزوح من كونها احد عوامل التدهور الثقافي الى عامل للبناء الثقافي؛ وذلك بتحويل المساكن الى مراكز ثقافية وحوارية تشارك فيها العوائل، وتتعاون فيما بينها لغرس الثقافة السليمة في نفوس الابناء، وهنا تقع على المسؤولين مهمة كبيرة، لاسيما في وزارة الشباب و وزارة التربية، في توفير الاجواء اللازمة لانجاح التربية والتعليم والتأهيل خلال مدة النزوح، ويجب ان لا يغيب دور منظمات المجتمع المدني المهتمة بشؤون الطفولة والمراهقين والثقافة في تحقيق هذا الهدف، وينبغي بالحوزة العلمية والمجمع الفقهي لعلماء المسلمين في العراق ان تتحمل مسؤوليتها الشرعية في هذا الاتجاه، بفتح دورات تعليم الاحكام ونشر الثقافة الدينية والقرآنية والاخلاقية.

3. البعد النفسي

ان مشاهدوالموت والدمار واصوات اطلاق النار والنزوح وفقدان الاهل،له آثار سلبية متجذره في نفوس النازحين،فضلاً عن ان ظروف حياة النزوح الجديدة هي بحد ذاتها تولد مشاكل نفسية مستعصية، وهذا يتطلب تشكيلاً فورياً لوحدات العلاج النفسي تقوم بمهمة المباشرة الفورية لمتابعة هذه الحالات قبل تطورها والتي ربما تحتاج لسنوات حتى يتجاوز عن الاثر النفسي الناتج عن هذا الفعل.

واخيراً ان الحكومة العراقية امامها الكثير لايجاد حلول ناجعة لتجاوز النتائج الكارثية لاحتلال داعش للمناطق السالفة الذكر،ولابد من وضع جدول زمني محدد لازالة مخلفات داعش الارهابي وخاصة على الصعيد المجتمعي والثقافي والنفسي،مع بذل جهود مضاعفة لتحسين الاوضاع المجتمعية للمناطق المنكوبة،ويتطلب ايضاً دعم الدول المانحة اقليمياً ودولياً لاعادة التأهيل والبناء.

........................................

* بحث مقدم لمؤتمر الاستقرار الأمني والمجتمعي في العراق لمرحلة ما بعد داعش، الذي عقد من قبل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية جامعة بغداد، وبالتعاون مع مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام بتاريخ 23/10/2017.

اضف تعليق