q
ان تحقيق أهداف التنمية المستدامة بعيدة لا يزال بعيد المنال، فإن الدرس الذي يجب على مندوبي الأمم المتحدة أن يتعلموه هو ضرورة أن يشرعوا في إعداد استراتيجياتهم السياسية الآن، إذ ليس من المرجح أن تغير الأدلة العلمية وحدها مواقف الدول...

مع انقضاء نصف المدة المحددة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030، لم يتخذ أي من الأهداف التي ترمي إلى القضاء على الفقر وحماية البيئة، وعددها 17 هدفًا، مساره الصحيح. ومن المرجح ألا يتحقق سوى 15% فقط من الغايات المنضوية تحت هذه الأهداف، وعددها 140 غاية، التي تتوفر بيانات بشأنها، بينما لا يمكن تقييم التقدم المحرز نحو تحقيق 29 غاية أخرى. ولهذا السبب، فنحن في أمسِّ الحاجة إلى إنقاذ الموقف.

سيكون حريًّا بممثلي الدول المتجهين إلى نيويورك أن يقرؤوا كتابين يقدمان أفكارًا ملهمة، ويبثان الأمل في نفوس أولئك الذين يسعون إلى إحداث تغيير. تقدم مذكرات ريتشارد جولي، التي نشرها بعنوان «خبير اقتصادي تنموي في أروقة الأمم المتحدة» عرضًا بانوراميًّا لستة عقود قضاها في مجال الأبحاث، وعمل في معظمها تحت لواء الأمم المتحدة، وكان خلالها شاهدًا على عملية تطوير السياسات المغيِّرة للعالم والقائمة على أساس علمي، بل ومشاركًا فيها أيضًا. أما كتاب «إعادة تعريف التنمية» فيوضح من منظور مؤلفتَيه، وهما رائدتان في هذا المجال، كيف تولدت فكرة أهداف التنمية المستدامة لدى باولا كاباليرو، المسؤولة في وزارة الخارجية الكولومبية، وكيف تمكنت هي وباتي لوندونيو، نائبة وزيرة الخارجية، من إقناع بقية دول العالم بتبني هذه الأهداف، وبالسماح للعلماء بتصميمها وبأقل قدر ممكن من التدخلات السياسية.

سيُتم جولي عامه التسعين العام المقبل، ولا يزال يجري الأبحاث في معهد دراسات التنمية في فالمر في المملكة المتحدة، وهو ينتمي إلى الجيل الثاني من باحثي الأمم المتحدة. لقد شهد جولي بأم عينيه الحرب العالمية الثانية، وما نتج عنها من تفاقم معدَّلات الفقر، وهو الأمر نفسه الذي دفع كثيرين إلى تكريس حياتهم للسعي إلى السلام والازدهار، ولكن هذا الباحث يملك أيضًا من حيوية الشباب ما يمكِّنه من نقل قصته إلى الأجيال الجديدة.

لقد عمل جولي مع العديد من الوكالات التابعة للأمم المتحدة، ولا سيما «اليونيسف»، وكالة الأمم المتحدة المعنية بالأطفال، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وشارك جولي في تحرير مشروع التاريخ الفكري للأمم المتحدة، وهو عبارة عن 17 مجلدًا يوثق كيف قاد البحث والتحليل عملية صنع السياسات في الأمم المتحدة، وكيف أفلح الباحثون بما جمعوه من أدلة في التغلب على عقبات لم تكن بالضرورة سياسية.

مقاييس النمو

لدينا مثالان رائعان للسياسة القائمة على معرفة. المثال الأول هو دور الأمم المتحدة في إنشاء نظام الحسابات القومية (SNA) الذي يُحتفل هذا العام بالذكرى السبعين لتأسيسه. أدركت الأمم المتحدة ضرورة توحيد الجهود المتفرقة لإنشاء مؤشرات اقتصادية، وذلك بإنشائها معيارًا إحصائيًا دوليًا مخصصًا لقياس الاقتصادات الكبيرة منها والصغيرة، والمقارنة بينها. أما المقياس الأكثر شهرة فهو الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، وهو من المقاييس التي تؤثر في السياسات الاقتصادية الوطنية وفي الأسواق المالية والمهن السياسية وغيرها.


وهناك أيضًا مؤشر التنمية البشرية (HDI) الذي يرتبط بالناتج المحلي الإجمالي، ولكنه يختلف عنه، وقد بدأ العمل به في عام 1990 (انظر: go.nature.com/3sc8arx). قبل ذلك، وفي عام 1968، ألقى كبير الخبراء الاقتصاديين الباكستانيين آنذاك، محبوب الحق، خطابًا في كراتشي، عرض فيه كيف أن معدلات النمو المرتفعة في البلاد، جاءت، في جانبٍ منها على الأقل، نتيجةً للإسكان الفاخر والواردات الباهظة الثمن، في حين كان ينبغي للحكومة أن تستثمر في الخدمات العامة. وهو ما عبر عنه لاحقًا في كتابه «ستار الفقر» The Poverty Curtain، المنشور سنة 1976، بقوله: "كان هناك انشغال لا نهاية له بتنمية حساباتنا القومية، دونما بذل ما يكفي من الجهد لحل مشكلات الفقر الجماعي الحقيقية".

ومن هنا، أقنع محبوب الحق الأمم المتحدة بأن المنظمة بحاجة إلى إنشاء مؤشر جديد، هو مؤشر التنمية البشرية، الذي ساهم هو نفسه في تطويره بعد ذلك، مع الخبير الاقتصادي الهندي أمارتيا سين، وخبراء آخرين. وروى سين لاحقًا في إحدى المقابلات كيف طلب محبوب الحق مساعدته قائلًا: "أريد منك أن تساعدني في إعداد مؤشر سيكون في مثل بساطة الناتج المحلي الإجمالي، لكنه سيعبِّر على نحو أفضل".

صنَّف مؤشر التنمية البشرية الأصلي الدول وفقًا لثلاثة متغيرات: الدخل، والتعليم، ومتوسط العمر المتوقع. ولتحقيق أداء جيد على مؤشر التنمية البشرية، يتعين على الدول أن تستثمر فيما هو أبعد من مجرد الدفع نحو النمو، كأن تستثمر في التعليم والرعاية الصحية. لقد أصبح العمل بمؤشر التنمية البشرية مستقرًّا اليوم، وانتقلت مسؤولية إدارة تقريره السنوي من محبوب الحق إلى جولي في عام 1996. ولكن هذا المؤشر لم "يعطِّل" العمل بمؤشر الناتج المحلي الإجمالي مثلما أراد منشئوه، وصرَّح جولي لدورية Nature بأن فريق نظام الحسابات القومية في ذلك الوقت لم يتقبل ذلك المؤشر المستجد.

يتناول جولي أيضًا في كتابه الخلافات التي دارت بين خبراء الاقتصاد في الأمم المتحدة وبين أولئك الذين يعملون في مؤسسات مالية أكثر نفوذًا، أبرزها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. كان البنك والصندوق في ذلك الوقت يشترطان على الدولة التي تواجه مشاكل مالية، أن تخفض الإنفاق العام على التعليم والرعاية الصحية والحماية الاجتماعية، في سبيل الحصول على قروض الإنقاذ. نسمي هذه الإجراءات اليوم بإجراءات التقشف، لكنها كانت تُعرف آنذاك باسم التعديلات الهيكلية.

ويروي جولي في كتابه كيف حاول هو وزملاؤه إقناع صندوق النقد الدولي في عام 1983 بأن هذه السياسات تضر بالأطفال. وبعد عامين، ولدعم هذا الرأي، عمدت منظمة اليونيسف بقيادة جولي، إلى تكليف باحثين بإجراء دراسة من جزأين تحت عنوان «التعديلات بوجهها الإنساني» Adjustment with a Human Face، نُشرت في عام 1987. وعلى الرغم من هذه المساعي ومن الأدلة اللاحقة التي أشارت إلى أن برامج التعديلات الهيكلية لا تؤثر في النمو تأثيرًا إيجابيًّا، بل إن من شأنها أن تعرقله (انظر: go.nature.com/3p7jazj)، فقد فشل خبراء الاقتصاد الأمميون في إثناء نظرائهم عن موقفهم.

كيف وُلدت أهداف التنمية المستدامة؟

يتسلَّم كتاب كاباليرو ولوندونيو «إعادة تعريف التنمية» الراية من مصممي المؤشرات السابقة التي تحدث عنها جولي. أما موضوع الكتاب فهو القصة الرائعة التي تدور حول كيفية قيام ممثلتين للحكومة الكولومبية بتهيئة الظروف لأن تصبح أهداف التنمية المستدامة بمثابة حزمة من المؤشرات العالمية التي تسري على جميع الدول؛ وكيف حققت المسؤولتين ذلك رغم المعوقات والضغوط السياسية الهائلة التي مورست عليهما من قبل الدول الأكثر قوة. ومن المثير للدهشة أن هذه القصة لا يعرفها خارج دائرة صغيرة من الخبراء إلا القليلون.

بدأت قصة أهداف التنمية المستدامة في يناير 2011، قبل انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة في نيويورك في عام 2012. كان المؤتمر يهدف إلى إحياء الذكرى العشرين لقمة الأرض عام 1992 في ريو دي جانيرو بالبرازيل، وترأست كاباليرو وفد بلادها إلى المؤتمر. بين عامي 2000 و2015، انصب تركيز العالم على مجموعة مختلفة من المؤشرات، سُميت الأهداف الإنمائية للألفية (MDGs)، وتضمنت خطة أممية للقضاء على الفقر في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل. في كتاب «إعادة تعريف التنمية»، تحكي كاباليرو عن شعورها بالإحباط لأن الأهداف الإنمائية للألفية صاغها عدد قليل من الدول وقد تجاهلوا الأزمة البيئية المتنامية. تقول المؤلفتان في كتابهما: "في الواقع لقد أدت الأهداف الإنمائية للألفية إلى تفاقم الفجوة بين الدول. لم يكن ثمة مجال للاعتراف بالقضايا المشتركة، مثل جيوب الفقر العميقة في الدول المتقدمة، ولا للتصدي للأخطار التي تهدد المشتركات العالمية."

وهكذا وبدعم من رئيس كولومبيا السابق خوان مانويل سانتوس ووزيرة الخارجية الكولومبية آنذاك ماريا أنجيلا هولجوين، خططت المؤلفتان لعملية أكثر تشاركية، ضمت باحثين ومنظمات غير حكومية ومسؤولين حكوميين من كولومبيا ومن أنحاء العالم. وقد دعا هؤلاء معًا إلى خلق مجموعة أكبر من الأهداف التي تستند إلى العلم وتنفذها جميع الدول. وأريد لهذه الأهداف أن تشتمل على أهداف تخفف من حدة الفقر، فضلًا عن أهداف بيئية واجتماعية واقتصادية، تذهب إلى ما هو أبعد من الناتج المحلي الإجمالي الذي كان يعد "نجم الشمال" آنذاك. وتروي المؤلفتان كيف وصف النقاد هذه الفكرة بأنها "تجديفية"، و"مستحيلة بالكلية"، و"حلم صعب المنال يحلم به مفاوض لا يفقه شيئًا في النظام ولا في التاريخ".

لكنهما ثابرتا وقصدتا مسؤولين آخرين أملتا أن يعملوا معهما، وأقامتا تحالفات لدعم أهدافهما. وقد طالب بعض الساسة بالإشراف السياسي على العمل العلمي اللازم لتحديد هذه الأهداف والغايات، ولكن الفريق الكولومبي ظل ثابتًا على موقفه، وأصر على أن تكون العملية تشاركية يقودها الخبراء لا غير.

كان سعي كاباليرو ولوندونيو لحمل نحو 200 دولة على الموافقة على شيء جديد تمامًا، يمثل صدًى للطريقة الناجحة التي ترأس بها الدبلوماسي الكندي موريس سترونج مؤتمر ستوكهولم للبيئة عام 1972، وهو المؤتمر الذي أفضى إلى إنشاء برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) ووزارات البيئة حول العالم. تلخص مؤرخة برنامج الأمم المتحدة للبيئة ماريا إيفانوفا النهج الدبلوماسي لسترونج، في كتابها الصادر عام 2021 بعنوان "القصة غير المروية للمؤسسة البيئية الرائدة في العالم"، قائلة: "إنه لا يستعدي أبدًا بل يستميل، ولا يتجاوز أبدًا بل يراوغ، ولا يستسلم قط".

وهكذا، نرى كيف أن كلا الكتابين يبرز دور الأفراد والفرق في إحداث التغيير. إنهما يظهران كيف أن التفاعل بين الأفكار، والتأثر بالأشخاص المُلهِمين، واستقاء الأدلة من الأبحاث، وبناء التحالفات؛ كلها عوامل ضرورية لإحداث ذلك التغيير.

وفي حين أن تحقيق أهداف التنمية المستدامة بعيدة لا يزال بعيد المنال، فإن الدرس الذي يجب على مندوبي الأمم المتحدة أن يتعلموه هو ضرورة أن يشرعوا في إعداد استراتيجياتهم السياسية الآن، إذ ليس من المرجح أن تغير الأدلة العلمية وحدها مواقف الدول.

يقرُّ المؤلف بعدم وجود تضارب في المصالح.

اضف تعليق