من الثابت إن وجود المحاكم الدستورية يعد ضمانة من ضمانات كفالة حقوق الإنسان ورقيباً على السلطات لاسيما التشريعية منها لمنع مخالفة الدستور وخرق قواعده بوصفه القانون الأسمى والمعبر عن إرادة المالك الحقيقي للسلطة ألا وهو الشعب، وحين تحرص الوثائق الدستورية على النص صراحة على الحقوق والحريات الفردية إنما تؤكد حرص الأفراد عليها وتمسكهم بها، والغاية الأساسية من وجود المحكمة الاتحادية العليا في العراق هي أن تسهر على سمو ورفعة الدستور على جميع السلطات واحترامه من قبلها وعندما تتجرأ السلطة التشريعية أو التنفيذية على المساس بالحقوق التي كفلها الدستور يكون الجزاء الأوفى لعملها البطلان والإلغاء بإعدام كل ما ترتب عليه من آثار قانونية.

هكذا نجد دستور جمهورية العراق لعام 2005 نص في المادة (15)على انه "لكل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية ولا يجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقاً للقانون وبناءً على قرار صادر من جهة قضائية مختصة" والمادة (19/ثالثا/التقاضي حق مصون ومكفول للجميع) بيد أن المحكمة الاتحادية العليا أصدرت قبل أيام حكماً يثير الجدل حول دور المحكمة بوصفها الضامن لعلوية الدستور والركن الحصين الذي يركن إليه الأفراد عندما يلحقهم الظلم من تصرفات إحدى السلطات، فقد ورد في الدعوى رقم (96/اتحادية/2014، إن امتناع الوزير المختص أو من يخوله بالموافقة على تبليغ رجل الشرطة أو امتناعه عن تكليفه بالحضور أمام القضاء أو امتناعه عن الموافقة على إلقاء القبض عليه في حالة ارتكابه فعلا أثناء أداء واجبه يعتبر من القرارات الإدارية وان بالإمكان الطعن بها من المدعي العام ومن كل ذي مصلحة إذا وجد إن الوزير متعسف في الحالات المتقدم ذكرها وذلك لدى محكمة القضاء الإداري..)، وتتلخص وقائع القضية في إن محكمة تحقيق النجف الأشرف قررت تكليف النقيب (أ.ي.ع) والمنتسب(ع.ي.ع) المنسوبين إلى مديرية شرطة النجف بالحضور أمامها وفق المادة (413/1) وبدلالة مواد الاشتراك (47-49) من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969، بسبب اعتدائهما بالضرب على المواطن (م.ع.م) حيث رفضت مديرية شرطة النجف تنفيذ أمر التكليف بالحضور أو أمر إلقاء القبض عليهما مستندة إلى تعليمات أصدرتها وزارة الداخلية بموجب كتابها (33708 في 31/3/2014) مضمونه عدم إرسال الضباط إلى جهات التحقيق إلا من بعد مفاتحة الدائرة القانونية في الوزارة لرفع الأمر إلى القائد العام للقوات المسلحة والتصرف في ضوء ما ينسبه الأخير.

والمستغرب إن المحكمة الاتحادية العليا تناست المادة (4/ثانياً من قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم 30 لسنة 2005 التي قضت بان المحكمة تختص بالفصل بالمنازعات المتعلقة بشرعية القوانين والقرارات والأنظمة والتعليمات والأوامر الصادرة من أية جهة تملك حق إصدارها... ويكون ذلك بناءً على طلب من محكمة أو جهة رسمية أو من مدعٍ ذي مصلحة)، فقد استصرخت محكمة تحقيق النجف المحكمة الاتحادية لإلغاء تعليمات وزارة الداخلية فردت بعدم الاختصاص وبينت في تسبيبها-الذي نجده أوهن من بيت العنكبوت - أسباب واهية لا تليق بالمكانة المرموقة للمحكمة وقضاتها الذين يعدون من خيرة القضاة في العراق ولنا عدة حجج ندحض بها تنصل المحكمة الاتحادية العليا عن واجبها الدستوري والقانوني أهمها ما يأتي:-

1- ما ورد في حكم المحكمة الاتحادية العليا ذاتها في الدعوى الدستورية المرقمة (61/اتحادية/2014) (تجد المحكمة الاتحادية العليا إن النص الملغي ورد في المادة (136) من قانون أصول المحاكمات والذي الغي بالقانون رقم (8) لسنة 2011 وهذا الإلغاء جاء بقانون وهو يشكل خياراً تشريعياً مارسته السلطة التشريعية وهو لا يتعارض مع أحكام الدستور بل بالعكس كان نص الفقرة (ب) من المادة (136) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 يحد من صلاحية القضاء في محاكمة المتهم في حالة ارتكابه جريمة أثناء تأديته لوظيفته وان القول بان إلغاء يحد من صلاحية الوزير في إحالة الموظف على المحكمة إن هذا القول مردود ((لان القضاء يوفر الضمانات للمتهم في محاكمة عادلة))، فقد كانت الفقرة (ب) من المادة (136) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 تنص على إن الموظف لا يحال على المحاكم المختصة إلا من بعد موافقة الوزير المختص وأقدم مجلس النواب على إلغائها لكي لا يحتمي الموظفين المفسدين خلف هذا الستار ليحتمي من المسألة القضائية وقد أيدت هذا المنهج المحكمة الاتحادية بمقولة "إن القضاء هو من يوفر الضمانات الموضوعية للمتهم"، فلماذا في هذا الحكم نحابي القائد العام للقوات المسلحة والقضاء لاشك انه يوفر الضمانات الموضوعية وأهمها كفالة حق الدفاع أصالة أو وكالة؟.

2- ما ورد في قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المعدل بالمادة (329) التي تنص على ((1- يعاقب بالحبس وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين كل موظف أو مكلف بخدمة عامة استغل سلطة وظيفته في وقف أو تعطيل تنفيذ الأوامر الصادرة من... إحدى المحاكم أو من أية سلطة مختصة...2- يعاقب بالعقوبة ذاتها كل موظف أو مكلف بخدمة عامة امتنع عن تنفيذ حكم أو أمر صادر من إحدى المحاكم أو من أية سلطة عامة مختصة بعد مضي ثمانية أيام من إنذاره رسمياً بالتنفيذ متى كان تنفيذ الحكم أو الأمر داخلاً في اختصاصه))، وهذه المادة وردت في قانون العقوبات وما احتجت به مديرية شرطة النجف هو مجرد تعليمات وهي لا ترقى إلى مرتبة القانون ولا يمكن للتعليمات أن تعدل أو تلغي أو توقف أحكام القانون والأولى بدل وقف تنفيذ الأمر القضائي محاسبة مدير الشرطة والمسؤولين في وزارة الداخلية ممن اصدر أو نفذ هذه التعليمات غير القانونية.

3- فيما يتعلق بالجريمة المنسوبة للمتهمين محل الدعوى نجد أنهم ارتكبوا جريمة الاعتداء بالضرب الواردة في المادة (413) من اعتدى عمدا على أخر بالجرح أو الضرب أو العنف.. فيعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة وبغرامة لا تزيد على مائة دينار أو بإحداهما وتكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات والغرامة التي لا تزيد على ثلاثمائة دينار أو بإحداهما إذا نشأ عن الاعتداء كسر عظم أو أذى أو مرض...) وبالرجوع إلى أحكام المادة (135) التي تنص على الظروف المشددة العامة نجد إن استغلال الجاني في ارتكاب الجريمة صفته كموظف أو إساءته استعمال سلطته أو نفوذه المستمدين من وظيفته وبالتالي يجب على المحكمة أن تحكم وفق المادة (136) بالشكل الأتي؛ إذا كانت العقوبة السجن المؤقت أو الحبس جاز الحكم بأكثر من الحد الأقصى للعقوبة المقررة للجريمة وبالتالي عند تجاوزها (5) سنوات ستكون الجريمة من نوع الجناية لا الجنحة وبالتالي يجب أن نركن إلى المادة (15/أولاً) من قانون أصول المحاكمات الجزائية لقوى الأمن الداخلي رقم (17) لسنة2008 ((يجب توقيف المتهم في إحدى الحالات الآتية إذا كانت:

أ‌- التحقيقات تتعلق بجريمة عقوبتها السجن))، والمادة القانونية توجب على المرجع الإداري لهؤلاء المنتسبين توقيفهم وإحالتهم مخفورين لمحكمة التحقيق لكون الجريمة المتهمين بارتكابها عقوبتها السجن وليس الحبس لتوافر الظرف المشدد.

4- ما ورد في قانون أصول المحاكمات الجزائية لقوى الأمن الداخلي رقم (17) لسنة 2008 المادة (25/ثالثاً/تختص محاكم الجزاء المدنية بالنظر في جرائم الحالتين الآتيتين:

أ‌- إذا كانت الجريمة مرتكبة من رجل شرطة ضد مدني.

ب‌- إذا ارتكبت الجريمة من مدني ضد رجل الشرطة))، والمادة صريحة في إن الجريمة محل التحقيق مرتكبة من شرطي على مدني فهي ليست من اختصاص محاكم قوى الأمن الداخلي بل من اختصاص محكمة تحقيق النجف فلماذا تتغافل المحكمة الاتحادية العليا عن هذا النص الصريح.

5- ما عللته المحكمة الاتحادية العليا بان هذه التعليمات هي قرار إداري وتختص محكمة القضاء الإداري بنظر هذه المنازعة هو تعليل واهي، فقانون المحكمة بالمادة (4) ينص على إنها تختص بـ(الفصل في المنازعات المتعلقة بشرعية القوانين والقرارات والأنظمة والتعليمات والأوامر الصادرة من أية جهة تملك حق إصدارها)، فالمحكمة الاتحادية تختص بنظر دستورية القرارات، وكتاب وزارة الداخلية هو قرار إداري، فلماذا الامتناع عن ممارسة اختصاصها؟.

أولا يعد ذلك إنكاراً لإحقاق الحق وكنا نلتمس العذر للمحكمة لو أنها رفضت النظر بحجة إنها تطبق أحكام الدستور العراقي لعام 2005 في المادة (93/أولاً/الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة) أي إنها غير مختصة بنظر القرارات من نوع التعليمات والضوابط والقرارات الفردية وينحصر اختصاصها بفحص دستورية القوانين والأنظمة بيد أن الثابت إن قانون المحكمة الاتحادية لم يشرع إلى الآن، لذا النافذ حالياً هو الأمر رقم (30) لسنة 2005 قانون المحكمة الاتحادية العليا فهي مختصة بنظر دستورية التعليمات في الوقت الراهن.

6- رفض المحكمة الاتحادية العليا إلغاء هذه التعليمات لعدم دستوريتها بالرغم إنها تخالف الدستور في أكثر من مادة سيقلل من ضمانات الأفراد لكونهم سيلزمون برفع دعوى أمام محكمة القضاء الإداري بيد إنهم سيواجهون إمكانية تحصن القرار الإداري بسبب مضي مدة الطعن وهي مدة قصيرة نسبياً (60) يوماً من تأريخ تحقق العلم بالقرار وبعدها يتحصن القرار ضد الطعن بالإلغاء في حين الطعن بالدستورية ضد النصوص المخالفة للدستور غير محدد بمدة معينة لهذا ندعو المحكمة الاتحادية العليا إلى أن تنهض بالدور المحوري المرجو منها وان تكون السند الحقيقي لحماية الحقوق والحريات الفردية.

..........................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

هـ/7712421188+964
http://adamrights.org
[email protected]
https://twitter.com/ademrights

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق