قسم التحرير

عقد مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية ملتقاه الفكري في مقر مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام تحت عنوان "دور المنظمات غير الحكومية في تعزيز مخرجات انتخابية سليمة"، بمشاركة عدد من مدراء مراكز دراسات بحثية، وأكاديميين، وإعلاميين، قدّم الورقة البحثية الاستاذ حيدر عبد الستار الاجودي/ باحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية، الذي سلط الضوء في ورقته البحثية على ادوار المنظمات غير الحكومية في الرقابة والتوعية والمشاركة والحد من عمليات التزوير في الانتخابات العراقية. وابتدأ حديثه قائلا:

"مع انتهاء حقبة الاستبداد في عام 2003، شرع العراق في مسار تحوّل نظام ديمقراطي معقد، شكلت الانتخابات العمود الفقري للانتقال السياسي، إلا أن محدودية الثقة بالهيئات الرسمية أثارت الحاجة إلى وسيط ثالث يضمن الشفافية والنزاهة، فتولت المنظمات غير الحكومية ذلك الدور المدني من خلال الرقابة أو التوعية أو تعزيز المشاركة والحد من التزوير بوصفها فاعلا موازيا للمؤسسات الرسمية.

تهدف هذه الورقة إلى تحليل دور هذه المنظمات عبر التجربة العراقية الممتدة لعقدين، مع الإضاءة على التحديات، الإنجازات، في ظل التفاعل بين السلطة والمجتمع المدني.

أولا: الرقابة الانتخابية: منذ أول انتخابات في 2005، ظهرت الحاجة لرقابة مدنية مستقلة تساند عمل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وتردم فجوة الثقة بين الناخب والمؤسسة الانتخابية، فكان أحد أبرز أدوار المنظمات غير الحكومية تمثل في الرقابة على سير العملية الانتخابية، حيث بدأت المنظمات بنشر فرق مراقبة ميدانية، وتصوير محاضر الفرز، ورفع تقارير فورية عبر خطوط ساخنة أو تطبيقات إلكترونية محلية جنبا إلى جنب مع بعثات المراقبة الدولية، تطور هذا الدور لاحقا ليشمل أدوات رقمية وتحليل إحصائي لرصد الخروقات، خاصة في انتخابات 2018 و2021 حيث مكنت الرقابة المستقلة من فضح حالات تزوير واضحة أدت في بعض الحالات إلى إعادة فرز أو إلغاء نتائج.

مما شكلت هذه الرقابة حائط صد بوجه محاولات احتكار نتائج الانتخابات، وساهمت في تقوية الرقابة الاجتماعية على السلطة، مما حد من سطوة المال السياسي والسلاح المنفلت، وتضمنت الرقابة الانتخابية على: التحقق من فتح مراكز الاقتراع في الوقت المحدد، مراقبة حيادية موظفي المفوضية، توثيق الانتهاكات وتقديم تقارير فورية، ورصد محاولات التأثير على الناخبين داخل مراكز الاقتراع، وقد أسهمت هذه الجهود في الضغط على المفوضية والسلطات لكشف التزوير وإعادة الفرز في بعض الدوائر، ما عزز من الشفافية والنزاهة.

ثانيا: التوعية الانتخابية: شكل ضعف الوعي الانتخابي تحديا كبيرا للعملية الديمقراطية، خصوصا في مناطق النزاع أو بين فئات مجتمعية مثل النساء، الشباب، والنازحين، وعملت المنظمات غير الحكومية على بناء الوعي الانتخابي لدى المواطن من خلال تنظيم ورش عمل وندوات مجتمعية، إطلاق حملات عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وتوفير مواد توعوية بلغة مبسطة تتناول حقوق الناخب وآليات التصويت.

في انتخابات 2021، ساعدت الحملات الرقمية على زيادة نسب التسجيل البايومتري في بعض المحافظات بنسبة تفوق 25%، فقد ساهمت التوعية في توسيع القاعدة الناخبة النشطة، وتفكيك التصورات حول الانتخابات، وتغذية خطاب المشاركة الإيجابية بديلاً عن الامتناع أو التخوين.

ثالثا: تعزيز المشاركة الانتخابية: مع تكرار الأزمات السياسية وضعف الثقة بالطبقة الحاكمة، ازدادت نسب المقاطعة، فقد سعت المنظمات إلى تعبئة الناخبين من خلال: التشبيك مع زعامات محلية وروحية لحث المواطنين على التصويت، وتهيئة بيئة مشجعة في المناطق المهمشة والمحررة، بالإضافة الى دعم مشاركة المرأة والنازحين من خلال توفير دعم لوجستي وإرشادي.

لعبت هذه الاستراتيجيات دورا في تحسين نسبي في نسب المشاركة، لا سيما في انتخابات 2005 و2010 في المحافظات التي كانت مترددة أو تحت تأثير الجماعات المسلحة، وفي انتخابات عام 2010 و2021، ارتفعت المشاركة في بعض الأقضية بنسبة 15-25% مقارنة بالانتخابات التي سبقتها، اما في انتخابات 2024، ساعدت برامج مخصصة في رفع نسبة مشاركة النساء في بعض الأقضية بنسبة وصلت إلى 40%.

رغم أن المشاركة ليست ضمانا بحد ذاتها لنزاهة النتائج، فإنها تمثل عاملا مؤثرا في تقليص فرص التلاعب بنتائج تمثيلية ضعيفة، وهي تحرج القوى السياسية التي تراهن على العزوف.

رابعا: الحد من التزوير والتضليل: اعتمدت المنظمات على وسائل مبتكرة للحد من التزوير: من خلال استخدام أدوات ذكية لتقليص التزوير والتضليل، لا سيما في البيئات التي يصعب اختراقها رسميا، وإدخال نظام تتبع نتائج عبر الهاتف، واستخدام الذكاء الاصطناعي لرصد التكرار أو التلاعب، وتحليل بيانات المحطات ذات النتائج غير المنطقية، كما أسست المنظمات شبكات اتصال مباشر مع الصحافة والمنظمات الدولية لنشر المخالفات سريعا.

حيث ساهمت هذه الآليات في الكشف عن محاولات تزوير ممنهج في انتخابات 2018، وهو ما دعا إلى المطالبة بإعادة العد والفرز اليدوي في بعض المناطق، وفي انتخابات 2021 و2024، ساهمت هذه الجهود في الضغط لإلغاء بعض النتائج أو إحالة مسؤولين للتحقيق الإداري.

إن تدخل المنظمات غير الحكومية ساعد في مأسسة المراقبة المجتمعية على العملية الانتخابية، وخلق توازن نسبي في بيئة انتخابية ما تزال متأثرة بالولاءات العشائرية والدينية والنفوذ السياسي، ورغم محدودية تأثيرها مقارنة بالقوى النافذة، فإنها أسهمت في ترسيخ فكرة الانتخابات كآلية محاسبة لا مجرد أداة لتجديد الشرعية الشكلية، ليمثل هذا الدور شكل (ردعا ناعما)، أجبر بعض الأطراف المتنفذة على التراجع أو التحوط خوفا من الفضيحة الدولية أو الطعن القانوني.

اثبتت التجربة ان المنظمات غير الحكومية في العراق، رغم التحديات الأمنية والسياسية والانقسامات المجتمعية، الا انها لعبت أدوارا مفصلية في بناء مسار ديمقراطي متدرج، لم تكن بديلا عن المفوضية أو المؤسسات، لكن تعظيم هذا الدور يتطلب بيئة تشريعية ومجتمعية حاضنة تضمن استقلالها وتعزز دورها الرقابي والتوعوي، وإذ يمضي العراق نحو استحقاقات انتخابية جديدة، فإن تراكم الخبرات المدنية يمثل أحد ركائز الإصلاح السياسي الحقيقي.

رغم التقدم، لا تزال البيئة القانونية للمنظمات هشة، وتواجه تحديات التمويل، والتسييس، والتشكيك الدائم. ولتحقيق نقلة نوعية العمل على:

1. تقنين العلاقة مع المفوضية: عبر بروتوكولات رسمية تتيح التعاون والتدريب وتبادل البيانات دون وصاية.

2. الانتقال نحو التأثير في التشريع: عبر تقديم توصيات قانونية ملزمة لمجلس النواب تخص قانون الانتخابات.

3. التحول الرقمي: من الضروري تطوير أدوات ذكاء اصطناعي محلية قادرة على كشف التزوير مبكرا وتحليل السلوك الانتخابي.

4. تعزيز الاستقلالية: عبر تمويل محلي أو دولي شفاف لا يربك الحياد المهني للمنظمات.

5. التوسع في التثقيف السياسي: ليصبح هدف المنظمات بناء مواطن واعي، لا مجرد ناخب مؤقت.

وفي ضوء هذه الورقة البحثية، تتجلى الأسئلة الجوهرية التي يمكن أن تشكل محورا للنقاش العلمي:

السؤال الاول/ ما أدوات الرقابة الأساسية التي تحتاجها المنظمات غير الحكومية لضمان نزاهة المخرجات الانتخابية؟

السؤال الثاني/ كيف يمكن ضمان حيادية واستقلالية هذه المنظمات بعيداً عن ضغوط الكتل السياسية؟

المداخلات

التعددية ضمان لاستقلال المنظمات غير الحكومية

- الشيخ مرتضى معاش:

يمكنني البدء بسؤال محوري: هل يشعر المسؤول السياسي والأحزاب والكتل السياسية، بل المجتمع والشعب العراقي بأسره، بالحاجة الحقيقية إلى المنظمات غير الحكومية؟ وكيف تدرك هذه المنظمات دورها في الحياة الاجتماعية والسياسية؟.

الواقع يشير الى محاولات مستمرة من قبل أصحاب النفوذ السلطوي لتهميش هذه المنظمات وتشويه سمعتها؛ إذ لا تتوانى الأحزاب التي وصلت إلى الحكم، والتي عانت في الماضي من بطش النظام الاستبدادي، عن تبني ذات آليات القمع والتشويه بهدف الحفاظ على مكاسبها الانتخابية ونفوذها السياسي والاقتصادي، حتى لو كان ذلك على حساب المسار الديمقراطي برمته.

إن تهميش المنظمات غير الحكومية وتضييق مجال حرية الصحافة والتعبير يدل على أن آلة الاستبداد لا تزال فاعلة، وأن اللعبة الانتخابية تسير خارج إطار قواعد النزاهة والشفافية، فبينما تتقدم المجتمعات العالمية خطوات إلى الأمام، نلاحظ تأخرنا عشرات الخطوات الى الخلف نتيجة السياسات السلطوية الحاكمة، مما يؤدي الى انكفاء مشروع الديمقراطية ويهدد استقراره واستدامته.

ولعل أكثر ما يضر بمجريات العملية الانتخابية هو رفض توزيع السلطات؛ إذ تسعى الكتل السياسية الحاكمة والمتحاصصة الى جعل البرلمان خاضعا لسلطة واحدة، وإدخال كل السلطات -التشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلامية بل والمنظمات غير الحكومية- في بوتقة واحدة يتقاسمها نخبة ضيقة من المتنفذين، يديرون اللعبة حسب مصالحهم الخاصة.

من هنا، لا يمكن ضمان نزاهة الانتخابات إذا جعلت هذه المنظمات أدوات بيد السلطويين، لا تستطيع أن تمارس دورها في المراقبة أو استطلاع آراء المواطنين أو تقييم الأداء الانتخابي، إن حيادها واستقلالها وحدهما يشكلان الضمان الحقيقي لمستقبل آمن وديمقراطية مستدامة، علينا أن ندرك، كمثقفين ومواطنين ومسؤولين، أن اللعبة يجب أن تدار ضمن إطار قانوني واضح، بعيدا عن الممارسات خارج السياق، وإلا سيظل المشروع الانتخابي معرضا للتقهقر.

ولنقبل روح التعددية بكل مساوئها ومخاطرها، فهي -رغم عيوبها- أفضل بكثير من الاستبداد والطغيان الذي يؤدي إلى الحروب والدمار، وفي هذا السياق، نجسد الفرق بين المزارع والنجار: فالمزارع يحتضن النبتة ويرعاها بالماء والهواء والضوء، بينما يستخدم النجار المطرقة والمنشار والمسمار لبناء مشروعه، نحن نريد مجتمعات (زراعية) لا مجرد مجتمعات (نجارية)، ولهذا يجدر بنا رعاية هذه المنظمات وحمايتها، ومنحها القوة اللازمة لتؤدي دورها في بناء مجتمع تنمو فيه قيم الديمقراطية بشكل طبيعي ومستدام.

تهديد حيادية منظمات المجتمع المدني

د. خالد الاسدي، باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:

من الضروري أن نضمن وجود مدخلات حقيقية في الانتخابات، لأن ما نشهده من عزوف شعبي عن المشاركة يعد مؤشرا خطيرا على تراجع الوعي الديمقراطي، فالميل العام لدى الناس بات أقرب إلى المقاطعة منه إلى الانتخاب، وهذا ينذر بتفريغ العملية الانتخابية من مضمونها، ولعل أولى الخطوات في معالجة هذا الخلل تكمن في بناء مجتمعات ناشطة تعمل على تثقيف الأفراد انتخابيا، فبدون هذا الدور التوعوي لن تكون هناك مشاركة فعالة، وبالتالي لن توجد مدخلات انتخابية تنتج مخرجات ذات مصداقية، فغياب المدخلات يفضي بالضرورة إلى غياب النتائج، ما يجعل العملية برمتها شكلية.

أما المنظمات غير الحكومية، فإن دورها في هذا السياق يظل محدودا، إذ تفتقر إلى السلطة التنفيذية، ولا تملك سوى أدوات الرصد كالكاميرا والصوت، ومع ذلك فإن الكثير من هذه المنظمات التي يفترض بها الحياد، أصبحت تميل إلى جهات سياسية بعينها، مما أضعف ثقة الجمهور بها.

الأخطر من ذلك، إننا نشهد اليوم انزلاقا نحو الدكتاتورية، حيث بات التعبير عن الرأي حتى في منصات التواصل الاجتماعي سببا للاعتقال، أي ديمقراطية يمكن أن تبنى في ظل هذا المناخ القمعي؟.

منظمات المجتمع المدني اليوم لم تعد في موقع القادر على الرقابة، بل أصبحت هي نفسها في حاجة ماسة إلى الحماية، وعلى الرغم من سعي العديد من هذه المنظمات إلى الحفاظ على الحياد والاستقلالية في طرحها، إلا أن أصواتها تضيع في فراغ لا يصله صدى، وكأنها تصرخ في شبكة من الهواء.

الرقابة النزيهة تبدأ من الإنسان الكفوء

- الاستاذ علاء الكاظمي، باحث اكاديمي:

إذا استطعنا أن نضمن حيادية واستقلالية المنظمات غير الحكومية، فإننا نكون قد وضعنا الأساس لانتخابات نزيهة بطبيعتها، هذه المعادلة واضحة، لأن المنظمات لا تقوم بذاتها، بل هي تمثل أشخاصا، وهؤلاء الأفراد يجب أن تتوفر فيهم صفات ومؤهلات محددة ليكونوا مؤهلين لمراقبة العملية الانتخابية بدقة ونزاهة.

المشكلة في العراق لا تكمن في غياب المنظمات، بل في كيفية اختيارها واختيار العاملين فيها، فغالبا ما يتم اختيار الأشخاص بطرق غير مدروسة، وقد تكون خاضعة للمحاباة أو التوجهات السياسية، هذه الإشكالية لا يمكن معالجتها إلا بوضع معايير واضحة لاختيار الكوادر، وهي معايير لا تقتصر على البعد الديني فقط، بل هي في الأصل عقلية وأخلاقية.

إن العملية السياسية شأن عام، لا يمكن اختزاله في قانون أو إطار محدود، مشاركة الجميع فيها ضرورية، ومن ضمن الأدوات التي يفترض تفعيلها هي المنظمات غير الحكومية التي يقع على عاتقها دور محوري في التوعية السياسية، إلى جانب الرقابة، ولتحقيق ذلك، لابد من إدخال المعرفة العلمية والتكنولوجية كعنصر مساند، بحيث توظف أدوات التكنولوجيا لدعم مخرجات انتخابية أكثر دقة وشفافية، كما أن فتح باب التعاون مع منظمات دولية وتوسيع المشاركة في الرقابة والتنسيق مع اللجان الانتخابية يعد من الضرورات الأساسية لضمان شفافية العملية الانتخابية من جميع جوانبها.

ضعف الدعم الديمقراطي واستبداد السلطة

- الاستاذ احمد جويد، مدير مركز ادم للدفاع عن الحقوق والحريات:

إن منظمات المجتمع المدني لا تستمد قوتها من المجتمع وحده، بل من وجود ممارسة ديمقراطية حقيقية تضمن لها الفاعلية والتأثير، فكلما كانت العملية الديمقراطية راسخة، أصبحت هذه المنظمات أكثر قدرة على أداء دورها بفعالية، لكن في الواقع العراقي أريد لهذه المنظمات أن تكون مجرد واجهة شكلية ضمن ديكور النظام الديمقراطي، دون أن تمنح صلاحيات حقيقية، وإذا اعتبرت أن الأحزاب السياسية نفسها كمنظمات غير حكومية، فإننا نواجه مفارقة خطيرة، لأن هذه الأحزاب في جوهرها تفتقر إلى أبسط مبادئ الديمقراطية داخل بنيتها التنظيمية، وهكذا فإن الاستبداد الموجود داخل هذه الأحزاب قد انتقل معها إلى مؤسسات الدولة، قد افشل عمل منظمات المجتمع المدني، وتحولت من أدوات رقابة إلى أدوات تجميلية للنظام.

أما ما يتعلق بتزوير الانتخابات، فقد أصبح أمرا يسيرا في ظل التكنولوجيا الحديثة، حيث تعلن النتائج بسرعة تفوق التحقق والتدقيق، هذه الأجهزة قلصت هامش الخطأ، لكنها فتحت الباب لتلاعب خفي يصعب تتبعه، لا سيما أن غالبية الأحزاب مقتنعة ضمنيا بالتزوير، طالما تحصل على استحقاقها الذي تبنيه لنفسها.

هنا يفترض أن يتجلى الدور الرقابي لمنظمات المجتمع المدني، لا سيما بعد انتهاء الانتخابات، وقد برز هذا الدور بالفعل في بعض المناسبات، مثل تقديم دعاوى قضائية ضد التأخير في تشكيل الحكومة، والمطالبة بالإسراع في احترام الاستحقاقات الدستورية، وهو ما يعد من الإيجابيات النادرة التي حققتها هذه المنظمات، لكن للأسف، ليس كل المنظمات تعمل بهذه الروحية، فبعضها يستغل المال السياسي أو ينخرط في العملية الانتخابية بشكل منحاز، بينما هناك من أجرى استطلاعات رأي علمية قريبة جدا من النتائج النهائية، رغم اعتراض بعض الجهات السياسية عليها في البداية، ومع ذلك، تقابل هذه الجهود بالتجاهل، ولا أحد يأخذ بهذه التحليلات أو المشورة.

الوضع أكثر تعقيدا حين نتحدث عن منظمات بعينها، مثل نقابة الصحفيين، وهي واحدة من أبرز مؤسسات المجتمع المدني، لكنها تكاد تكون محاصرة، فالكثير من الصحفيين عاجزون عن الوصول للمعلومة أو نقلها بحرية، لأن السلطة تخشى من تأثير المنظمات، فقيدتها بقوانين صارمة تهدف إلى الحد من نشاطها وجعلها جزءا شكليا من صورة النظام الديمقراطي، دون أي دور فعلي في صنع القرار أو محاسبة السلطة.

تحديات الديمقراطية ومتطلبات النزاهة

- الاستاذ محمد علي جواد تقي، كاتب في شبكة النبأ المعلوماتية:

نخوض بين الحين والآخر تجارب انتخابية ضمن إطار النظام الديمقراطي، الذي لا يزال في العراق هشا ومتذبذبا، نظرا لعدم اكتمال نضج الدولة ومؤسساتها بعد، فالعراق سواء من جانب الجماهير أو الطبقة السياسية، يعاني من تطرف في التعامل مع الديمقراطية، مما يجعلنا أمام واقع يتطلب إعادة تقييم جادة، الأحزاب السياسية لم تنجح في ترسيخ بيئة سياسية ناضجة، بل أصبحت في كثير من الأحيان جزءا من المشكلة بدل أن تكون جزءا من الحل.

رغم هذه الصورة القاتمة، يبقى التفاؤل ضرورة، وعلينا تسليط الضوء على دور منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية بالخصوص في دعم العملية الديمقراطية، خاصة أن العراق خاض تجارب انتخابية متعددة، سواء على مستوى البرلمان أو مجالس المحافظات، وهذه التجارب ورغم ما شابها من إخفاقات تمثل إرثا يجب الاستفادة منه لبناء مستقبل أفضل.

دور منظمات المجتمع المدني يجب أن يكون متجذرا في التوعية والرقابة والمساهمة في خلق توازن داخل العملية السياسية، فهي تمثل القبان أو الحالة الوسطية، التي من خلالها يمكن حفظ التوازن بين مختلف القوى، في ظل الحديث المستمر عن الحرية والديمقراطية، يواجه المواطن العراقي تحديات جدية في التعبير عن الرأي بحرية.

من هنا، لا بد أن نقر بأن منظمات المجتمع المدني رغم محدودية إمكانياتها، تحتاج إلى الحماية والدعم أكثر من حاجتها لأن تكون مجرد راصد، الإعلام تحديدا يمثل أداة الرقابة الأساسية، وهو العمود الفقري لأي عملية ديمقراطية سليمة، لكن يجب أن يقوم على المهنية الحقيقية المبنية على قواعد علمية وأخلاقية راسخة لا على التحيز أو التبعية، فالإعلامي لا يؤدي وظيفة فحسب بل يحمل رسالة تمثل ضمير المجتمع.

أما في ما يتعلق بضمان حياد واستقلالية هذه المنظمات، فإن الشجاعة تبقى هي الكلمة المفتاح، في اتخاذ الموقف في قول الحقيقة هي التي تحدد مدى قدرة هذه المؤسسات على التأثير، فلا يمكن لمنظمة تدعي الحياد وهي تميل لجهة ما أن تكتسب ثقة الناس، المطلوب من المؤسسات الإعلامية أن يكونوا على قدر هذه المسؤولية، لأنهم يمثلون ضمير المجتمع، ومن دون ضمير حي لا يمكن لأي ديمقراطية أن تنجح.

قانون الانتخابات ضمان لمخرجات ديمقراطية

- الاستاذ محمد علاء الصافي، باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:

إن تحقيق مخرجات انتخابية سليمة لا يمكن أن يتحقق دون وجود قانون انتخابي عادل ومنصف يشكل الأساس الذي تستند عليه العملية الانتخابية، فالديمقراطية لا تختزل في صناديق الاقتراع وحدها، بل تعتمد في جوهرها على منظومة متكاملة تبدأ من الإطار التشريعي الناظم لها.

في العراق يفتقر القانون الانتخابي الحالي إلى العدالة، إذ لا ينتج نخبا مجتمعية فاعلة قادرة على تمثيل الشعب بصورة حقيقية، سواء في الحكومات المحلية أو على مستوى البرلمان والحكومة المركزية، لذلك فإن المخرجات السياسية الحالية لا تعكس تطلعات الشارع العراقي، مما يضعف الثقة بالعملية الديمقراطية برمتها.

رغم وجود منظمات محلية ودولية تراقب الانتخابات، إلا أن تأثيرها غالبا ما يكون محدودا بسبب غياب البيئة السياسية والقانونية المواتية، الدور المفترض لهذه المنظمات يتجاوز المراقبة إذ ينبغي أن تسهم في توعية المواطنين بآليات الانتخاب من خلال البرامج التدريبية والنشاطات التوعوية، وغالبا ما تمول هذه الأنشطة من قبل منظمات دولية متخصصة في دعم الديمقراطية حول العالم، بالشراكة مع منظمات محلية، وبدعم من مفوضية الانتخابات الرسمية التي تدعو مختلف الجهات، بما فيها وسائل الإعلام، للمشاركة في هذه البرامج.

لقد شهد العراق تجربة تعديل القانون الانتخابي في عام 2020، إثر ضغط شعبي واسع نتج عن احتجاجات عام 2019، وأسفرت عن ظهور وجوه سياسية جديدة ضمن تجربة سياسية واعدة، غير أن هذه التجربة أجهضت سريعا بعد انسحاب التيار الصدري من البرلمان، مما أفسح المجال للخصوم السياسيين للعودة إلى تعديل القانون والرجوع إلى نظام سانت ليغو، رغم الرفض الشعبي والنداءات المتكررة، بما في ذلك من المرجعية الدينية، التي اعتبرت إصلاح القانون الانتخابي خطوة أولى وأساسية لتصحيح المسار السياسي.

إن القانون الحالي لا يعزز مبدأ تكافؤ الفرص، بل يدعم من يملك المال والسلطة والسلاح، ويمكنه من توظيف العملية الانتخابية لصالحه، على الرغم من أن مرحلة التصويت بحد ذاتها لا تشهد تلاعبا واضحا، حسب تقارير المراقبين المحليين والدوليين، حيث تتم العملية تحت رقابة مشددة وبتقنيات حديثة تشمل التعرف البايومتري والتصوير الفوري، إلا أن التلاعب الحقيقي يحصل قبل يوم الاقتراع، من خلال شراء الأصوات والتأثير على إرادة الناخبين.

وفي هذا السياق، يجب تفعيل أدوات الضغط الشعبي والسياسي للمطالبة بتعديل القانون بما يحقق مبدأ تكافؤ الفرص الذي نص عليه الدستور العراقي، إن غياب هذا التكافؤ يفرغ العملية الانتخابية من مضمونها، ويحولها إلى وسيلة لإعادة إنتاج ذات الطبقة السياسية المتنفذة، ما يدفع البلاد نحو مزيد من الاحتقان والانغلاق السياسي.

تعزيز الديمقراطية في العراق

- الاستاذ باسم الزيدي/ مدير مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:

يعد حضور منظمات المجتمع المدني أحد المؤشرات الجوهرية لقياس مستوى الديمقراطية في أي دولة، فكلما كانت الديمقراطية سليمة وقوية، برز دور هذه المنظمات بفعالية أكبر، والعكس صحيح؛ إذ غالبا ما يتراجع وجودها ويتلاشى تأثيرها في المجتمعات التي تعاني من الاستبداد، الفساد، أو غياب الاستقرار السياسي والاجتماعي.

تكمن أهمية منظمات المجتمع المدني في كونها من الجهات القليلة التي يمكن أن تمارس أدوارا متعددة، تشمل الرقابة، والخدمة، والتنفيذ، بل وحتى التأثير في التشريعات، من خلال ما تعرف بعمليات المناصرة والضغط من أجل إصدار قوانين تخدم الصالح العام، وتعد مراقبة الانتخابات وتقديم الخدمات المجتمعية والتنموية من أبرز مجالات عمل هذه المنظمات، مما يجعلها ركيزة أساسية في دعم العملية الديمقراطية.

في السياق العراقي، من المفترض أن تلعب هذه المنظمات دورا محوريا في بناء مجتمع مدني متماسك، على غرار دور العشائر أو القوى الدينية ذات التأثير الشعبي، غير أن الفساد أثر سلبا في بنية هذه المنظمات، وأضعف قدرتها على أن تكون قوة فاعلة في الساحة العامة، فرغم الأدوار الهامة المفترضة لها، مثل المساهمة في التنمية المستدامة، تعزيز الحوكمة، الدفاع عن الحقوق، وتوفير الخدمات، إلا أنها غابت عن المشهد خلال محطات مصيرية في العراق، على سبيل المثال، لم يكن لها حضور يذكر خلال أزمة الطائفية، أو في أحداث تشرين التي شهدت احتجاجات واسعة ومطالبات بتغيير القانون الانتخابي، وهذا الغياب المتكرر يعكس خللا جوهريا في بنيتها ووظيفتها.

من خلال هذا الواقع، يمكن القول إن المشكلة الأبرز التي تواجه هذه المنظمات ليست فقط في البيئة السياسية أو التشريعية، بل تكمن في أزمة ثقة بينها وبين الجمهور، فالكثير من الناس ينظرون إلى منظمات المجتمع المدني على أنها مجرد مؤسسات خيرية ذات أدوار بسيطة، دون إدراك أنها قد تمارس وظائف تشريعية ورقابية مؤثرة.

وبناء هذه الثقة مجددا قد يكون مفتاحا لاستعادة الدور الحقيقي للمنظمات، من المقترحات العملية في هذا السياق، أن تطلق منظمات مجتمع مدني من رحم مؤسسات تحظى بقبول شعبي واسع، بحيث تتبنى هذه المؤسسات المنظمات الناشئة وتكون نواة لعمل مدني مؤسسي أكثر تأثيرا، وقد أثبتت بعض المنظمات المرتبطة بمرجعيات دينية أن لها تأثيرا كبيرا في الشارع، بما تملكه من ثقة ومصداقية، إذا أعيد بناء منظومة المجتمع المدني على أساس الثقة، والمهنية، والاستقلالية، فسيكون لها أثر عميق في خلق مناخ ديمقراطي صحي ومستقر، يمكن من خلاله تحقيق التحول المنشود في الحياة السياسية والاجتماعية في العراق.

آليات تعزيز حيادية المنظمات المدنية

- الاستاذ حسين علي حسين/ باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية:

لضمان حيادية واستقلالية منظمات المجتمع المدني خلال العمليات الانتخابية، لابد من أن تُبنى هذه الكيانات على أسس واضحة، بعيدة تماما عن أي انتماءات أو ولاءات حزبية، فغياب التسييس هو الخطوة الأولى نحو ترسيخ استقلال هذه المنظمات، وجعلها فاعلة في دعم الديمقراطية.

كذلك يمكن التفكير بإدراج الإشراف الخارجي على العملية الانتخابية، بما في ذلك إشراف دولي من قبل جهات تمتلك تجارب راسخة في إدارة الانتخابات ودعم منظمات المجتمع المدني، مثل هذا الإشراف سيسهم في نقل الخبرات وتطبيق أفضل الممارسات الدولية، بما يرفع من مستوى النزاهة والمهنية في العراق.

أما فيما يتعلق بضمان مخرجات انتخابية نزيهة، فيمكن وضع مجموعة من الإجراءات العملية منها: تدريب فرق المراقبة الميدانية بشكل مهني ومتقن، إنشاء قاعدة بيانات إلكترونية متكاملة خاصة بعمليات العد والفرز، مراقبة الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل فعال، اعتماد آليات تحقق موثوقة للنتائج، تأمين شبكة اتصالات داخلية فعالة وآمنة لتبادل المعلومات بين الجهات المختصة.

من خلال تنفيذ هذه الإجراءات بشكل متكامل، يمكن بناء عملية انتخابية رصينة، تشارك فيها منظمات المجتمع المدني بدور مؤثر وفاعل، وتنتج عنها نتائج موثوقة تعبر عن الإرادة الحقيقية للناخبين.

الشكلية والاستقلال في ظل الاقتصاد الريعي

- الاستاذ حامد الجبوري/ باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية:

في ظل الواقع القائم، علينا أن نتساءل: هل منظمات المجتمع المدني في العراق تؤدي دورا حقيقيا أم انها مجرد كيانات شكلية؟ من الواضح أن الغالبية العظمى منها تتجه نحو الشكلية، خاصة فيما يتعلق بالرقابة الانتخابية ودعم التحول الديمقراطي، إذ لم نلمس لها تأثيرا ملموسا في المشهد السياسي أو المجتمعي.

لنمو منظمات المجتمع المدني وتفعيل دورها لابد من وجود بيئة اقتصادية ملائمة، وهنا يبرز الفارق الجوهري بين اقتصاد السوق والاقتصاد الريعي، ففي ظل اقتصاد السوق تمتلك المنظمات فرصة أكبر لتحقيق الاستقلالية والحيادية، لأن هذا النمط الاقتصادي يقلص هيمنة الدولة على الموارد ويمنح الفضاء المدني هامشا أوسع للحركة والمبادرة، أما في الاقتصاد الريعي حيث تحتكر الدولة الموارد وتنفقها بشكل مباشر على المجتمع، فإنها تخلق حالة من التبعية وتضعف بذلك إمكانية بروز منظمات مستقلة وفاعلة.

من هنا، فإن أحد الضمانات الحقيقية لاستقلالية منظمات المجتمع المدني يتمثل في التحول نحو اقتصاد إنتاجي حقيقي، يفصل بين الدولة والموارد الريعية، ويوسع من مساحة الفعل المدني المستقل، هذه الاستقلالية هي ما يؤهل المنظمات لتكون قوة حقيقية داخل المجتمع، خصوصا في ميدان دعم العملية الانتخابية.

وقد أشار السيد مرتضى الشيرازي في كتابه السلطات العشر إلى منظمات المجتمع المدني كإحدى السلطات الأساسية، شأنها شأن القضاء، والإعلام، والبرلمان، والسلطة التنفيذية، مؤكدا أن هذه المنظمات يجب أن تمارس دورها المؤسسي والتشريعي والرقابي ضمن منظومة قانونية لا يمكن الاعتراض عليها أو تجاوزها.

لذلك، هناك حاجتان ملحتان يجب العمل عليهما في الوقت الحاضر: أولا، تعزيز الوعي الديمقراطي، من خلال التثقيف العام بمبادئ الديمقراطية وأهمية العملية الانتخابية، بما يشمل شرح قانون الانتخابات للفئات الناشئة، لضمان فهمها للدور الذي يمكن أن تؤديه في التغيير، ثانيا، إصلاح قانون الانتخابات ليصبح أكثر عدالة، ويعكس طموحات الناخبين، ما يدفعهم للمشاركة الفاعلة واختيار الأصلح، بدلا من العزوف عن العملية السياسية.

خيبة أمل في بداية الحلم

- الاستاذ علي حسين عبيد، كاتب في شبكة النبأ المعلوماتية:

يثير الحديث عن منظمات المجتمع المدني في داخلي كثيرا من الشجون والأسى، فقد عايشت عن قرب تجربة شخصية لا تزال محفورة في ذاكرتي، تعود إلى عام 2003، حين فتحت الأبواب على مصراعيها أمام تأسيس منظمات مدنية في بغداد، في لحظة كان يفترض أن تكون بداية فعلية لبناء مجتمع مدني ناهض.

في تلك السنة، تواصل معي عدد من الأدباء والمثقفين، وعرضوا علي فكرة إنشاء منظمة مجتمع مدني، انسجاما مع التوجه العام الذي اجتاح الساحة آنذاك، حيث بات تأسيس المنظمات ظاهرة لافتة، كانت الفرصة عظيمة بالفعل، وكان بالإمكان أن تنطلق تلك الكيانات لتلعب دورا حقيقيا في التوعية المجتمعية والتغيير الإيجابي، لو استثمرت بشكل سليم.

لكن للأسف، ما حدث كان عكس التوقعات، كثير من تلك المنظمات لم تتأسس بدافع خدمة المجتمع، بل أصبحت وسيلة لجني الأموال من الجهات المانحة، والمشاركة الشكلية في المؤتمرات والمحافل الحكومية تحت مسمى منظمات المجتمع المدني، دون تقديم أي فائدة حقيقية للمواطن.

والأدهى من ذلك أن بعض المنظمات كانت تسهم في إفشال ذاتها، من خلال تعيين أشخاص غير مؤهلين في مواقع القيادة أو بين أعضائها، ما أفقدها المصداقية والفاعلية، أما حين تقع الموارد المالية في أيدي غير أمينة، فالنتيجة الحتمية هي الفساد، الذي سرعان ما يسلب هذه المنظمات دورها، ويحيلها إلى واجهات فارغة.

وفي ختام الملتقى الفكري أجمع المشاركون على اهمية تكاتف الجهود بين الاكاديميين ورجال الدين والمثقفين لتعزيز الحوار البناء وايجاد حلول شاملة تلبي تطلعات المجتمع في مختلف المجالات. كما تقدم مدير الجلسة الاستاذ حيدر الاجودي بالشكر الجزيل والامتنان إلى جميع من شارك برأيه حول الموضوع سواء بالحضور او من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وتوجه بالشكر الى الدعم الفني الخاص بالملتقى الفكري الاسبوعي.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net

اضف تعليق