تعهد ترامب في كل من السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة أنه لن يلجأ إلى سياسات الإملاء والتدخل في أسلوب حياة هذه الدول، قائلا إن المنطقة حققت “معجزة عصرية على الطريقة العربية. وفي تحول استثنائي عن سياسات أسلافه، انتقد ترامب بشدة ما أسماه “المحافظين الجدد” الذين كانوا وراء التدخلات...
تخلى الرئيس دونالد ترامب خلال جولته في الشرق الأوسط عن نهج التدخل الذي دأبت عليه واشطن لعقود، متعهدا انتهاج سياسة خارجية أميركية جديدة ترتكز على شغفه كرجل أعمال بإبرام الصفقات.
وتعهد ترامب في كل من السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة أنه لن يلجأ إلى سياسات الإملاء والتدخل في أسلوب حياة هذه الدول، قائلا إن المنطقة حققت “معجزة عصرية على الطريقة العربية”.
وفي تحول استثنائي عن سياسات أسلافه، انتقد ترامب بشدة ما أسماه “المحافظين الجدد” الذين كانوا وراء التدخلات العسكرية الأميركية الدامية في المنطقة وخارجها.
وقال خلال منتدى استثماري في الرياض، المحطة الأولى في جولته الخليجية، “في نهاية المطاف، فإن من يُسمون ببناة الدول دمروا دولا أكثر بكثير مما بنوا”.
ومن دون ذكر أسماء، أضاف ترامب “سيطر الوهم على عدد كبير من الرؤساء الأميركيين بأن على عاتقهم تقع مهمة التغلغل في نفوس قادة الدول الأجنبية وتسخير السياسة الأميركية لتطبيق العدالة على ما يرون أنهم ارتكبوا من خطايا”.
حاول سلفه الديموقراطي جو بايدن ربط الدعم الأميركي بتعزيز حقوق الإنسان والحفاظ على النظام الدولي. وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، غزا الجمهوري جورج دبليو بوش أفغانستان والعراق.
يقول سينا توسي، من مركز السياسات الدولية “شكّل خطاب ترامب في الرياض تحولا واضحا ذا دلالة جوهرية في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط”.
ويتابع أن “بتخليه عن إرث التدخل العسكري وبناء الدول، بعث ترامب بإشارة واضحة إلى أنه ينتهج السياسة الواقعية والتروّي، وهو تحوُّل يلقى صدى عميقا في منطقة أنهكتها الحروب وتدخلات القوى الخارجية”.
لكن هذا يعني أيضا من منظور ترامب تجاهل قضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان، ومهادنة قادة الدول النفطية الثرية التي يغلب على أنظمتها طابع الحكم الاستبدادي.
على سبيل المثال، خلصت الاستخبارات الأميركية إلى أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، أمر بقتل الكاتب المعارض جمال خاشقجي بوحشية عام 2018. لكن لم يتم التطرق إلى الأمر في الرياض.
عوضا عن ذلك، روّج ترامب لسياسته البرّاقة القائمة على عقد الصفقات، تماما كما يفعل في بلاده.
من جانبها، عرضت السعودية وقطر والإمارات مبالغ سخية وأبرمت مع الولايات المتحدة خلال زيارته حزمة ضخمة من العقود ومشاريع الاستثمار. وفي المقابل، حظيت تلك الدول بوهج أول زيارة خارجية مهمة لترامب، وبإشادته بقادتها وبها كأمثلة يُحتذى بها لما يمكن أن تكون عليه المنطقة في المستقبل.
في المقابل، زعزعت زيارة ترامب إحدى أقدم ركائز السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، والقائمة على دعمها التقليدي لإسرائيل.
لم يكتفِ الرئيس الأميركي باستبعاد إسرائيل من جدول رحلته، بل بدا وكأنه همّش رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو في قضايا رئيسية مثل البرنامج النووي الإيراني وحرب إسرائيل في غزة، والمتمردين الحوثيين في اليمن.
وهو ما دل على تصاعد التوتر خلف الكواليس، وخصوصا بشأن إيران التي تدفع إسرائيل باتجاه الخيار العسكري حيالها.
لكن يتوقع أن يوضع نهج ترامب في عقد الصفقات في السياسة الخارجية، قريبا قيد الاختبار.
فهو وإن أبدى استعداده للتوصل لاتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي، قائلا إنه لم يؤمن “قط بوجود أعداء دائمين”، فقد هددها في الوقت نفسه بضربة عسكرية إذا لم تتوصل إلى اتفاق معه.
وبدا جليا أن عقيدة ترامب القائمة على “السلام من خلال القوة” تحمل في طيّاتها الكثير من التناقضات. فخلال زيارته للقاعدة الجوية الأميركية في قطر، قال “أولويتي هي إنهاء النزاعات، وليس إشعالها”. لكنه سرعان ما استدرك مضيفا “لن أتردد لحظة في استخدام القوة الأميركية إذا اقتضى الأمر للدفاع عن الولايات المتحدة أو عن حلفائنا”.
وهكذا، غادر الشرق الأوسط من دون إحراز أي تقدم لإنهاء الحرب في غزة، رغم تعهداته السابقة، وإن قال إن سكان القطاع “يتضورون جوعا” في ظل الحصار الخانق والدمار الهائل.
وفي سياق آخر، حاول ترامب إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإجراء محادثات في إسطنبول خلال زيارته للمنطقة لمناقشة سبل إنهاء الحرب في أوكرانيا، لكن جهوده باءت بالفشل.
حقيقة تريليونات الدولارات في صفقات الخليج
واختتم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جولته في الخليج يوم الجمعة بعد أن ضمن، حسبما يقول البيت الأبيض، أكثر من تريليوني دولار للاقتصاد الأمريكي في إجمالي الصفقات.
ولم تتضح طريقة حساب هذا الرقم. واستنادا إلى إحصاء أجرته وكالة رويترز لجميع الصفقات المحددة التي تم الإعلان عنها، فالقيمة الإجمالية تزيد عن 700 مليار دولار. لكن المبالغة في حجم الصفقات ليست بالأمر الغريب في أي زيارة هامة وخاصة إذا كانت زيارة رئيس أمريكي لطالما تباهى بأنه خبير في إبرام الصفقات.
وتضمنت الرحلة طلبيات كبيرة لطائرات بوينج، وصفقات لشراء معدات دفاعية أمريكية، واتفاقيات تتعلق بالبيانات والتكنولوجيا وعقود أخرى.
لكن خبراء ماليين ودبلوماسيين يقولون إن الأرقام الرئيسية شابتها المبالغة من الطرفين رغبة في إظهار مدى التعاون بينهما.
ويظهر تحليل أجرته وكالة رويترز أن اتفاقيات الشركات التي تصل قيمتها إلى 549 مليار دولار في أثناء جولة ترامب في الخليج كان كثير منها مجرد مذكرات تفاهم غير ملزمة.
وتشير حسابات رويترز إلى أن المبيعات الدفاعية في الصفقات مع السعودية وقطر رفعت الحصيلة الإجمالية إلى 730 مليار دولار.
ولم تتمكن رويترز من التحقق بشكل مستقل من التوقيع على صفقات أخرى لم يعلن عنها.
وقال جاستن ألكسندر، مدير مركز خليج إيكونوميكس الاستشاري “المبالغ تعرضت للتضخيم، والإنفاق المحتمل يحتسب على أنه فعلي، ومعظم الصفقات المحورية… كانت ستحدث بغض النظر عمن في البيت الأبيض”.
وتشير بيانات لمعهد دول الخليج العربي أن ترامب قال فترة ولايته الأولى إن السعودية وافقت على صفقات بقيمة 450 مليار دولار مع الولايات المتحدة، لكن التدفقات التجارية والاستثمارية الفعلية بلغت أقل من 300 مليار دولار بين عامي 2017 و2020.
الأبهة والفخامة وعبارات المديح
في كل مرحلة من مراحل جولته التي استمرت أربعة أيام في الخليج واختتمت يوم الجمعة، استُقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمراسم مهيبة تخللتها عروض حراسة بمواكب الإبل والخيول العربية، وتقديم طائرة فاخرة كهدية، واستعراضات رقص شارك فيها مئات الرجال على دقات الطبول، والسيوف أمام قصور رخامية فخمة.
وبدت يوميات رحلته ومحطات جولته في السعودية وقطر والإمارات كما لو أنها أعدت خصيصا لمطور العقارات الذي تحول إلى رئيس والذي قد يستميله الإطراء، وينجذب للصفقات في تناوله لشؤون السياسة الخارجية، وتشده مظاهر الثراء الفاحش.
وإذا كانت هذه المظاهر صممت لكسب ود ترامب، فربما تكون قد حققت أهدافها المرجوة إلى حد كبير. فقد أعلنت دول الخليج عن استثمارات محتملة بتريليونات الدولارات في الولايات المتحدة في أثناء زيارته، لكنها حصلت أيضا في المقابل على الكثير.
ووافقت الولايات المتحدة يوم الخميس على شراكة مع الإمارات لبناء مجمع ضخم للذكاء الاصطناعي في الدولة الخليجية. وفي خطوة مفاجئة يوم الثلاثاء، وافق ترامب على إلغاء العقوبات المفروضة على سوريا بناء على طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، حتى في الوقت الذي أوصى فيه بعض مستشاري ترامب بعدم التقارب مع سوريا التي كان رئيسها الجديد ينتمي من قبل لتنظيم القاعدة.
وقال الرئيس الأمريكي أمام حشد في مؤتمر للاستثمار في الرياض حيث أعلن القرار “أوه، ماذا عساي أن أفعل لولي العهد!”.
وقال محللون إن جولة ترامب في المنطقة قد تصبح نموذجا يُحتذى به في دول أخرى تبحث عن طريق إلى قلب الرئيس. وبدت المعاملة التي تلقاها ترامب طوال الأسبوع كأنها امتداد عالمي لما أصبح يحدث بانتظام في واشنطن، حيث يسارع أعضاء الحكومة إلى الإشادة بفطنة ترامب وبصيرته، وغالبا ما يمتدحون إنجازات الإدارة بصيغة أفعل التفضيل.
وقالت لورا بلومنفيلد، المحللة في شؤون الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية بجامعة جون هوبكنز في واشنطن عن قادة دول الخليج “لقد أحسنوا صنعا… كان تصميم التفاصيل مبهرا لجولة ترامب الملكية”.
رغم ذلك، غادر ترامب الشرق الأوسط دون التوصل إلى وقف لإطلاق النار أو تجديد المساعدات الإنسانية لغزة. وأثار ديمقراطيون وجماعات لمراقبة الحكم الرشيد مخاوف من تأثر عملية صنع القرار لدى ترامب بالأبهة الملكية، ومن احتمال استغلال جهوده الدبلوماسية في تعزيز العمليات التجارية الواسعة لعائلته في شبه الجزيرة العربية.
وقال بريت بروين، وهو مستشار سابق في السياسة الخارجية للرئيس الديمقراطي باراك أوباما ورئيس شركة جلوبال سيتوسيشن روم الاستشارية “يبدو الأمر كأن بعض هؤلاء القادة تلاعبوا بترامب من خلال أبهة المراسم وفخامة (الاستقبال)”.
وأضاف “يثير كثير من هذا تساؤلات حول احتمالات حصول ترامب على مكاسب شخصية أو (مدى) عمله حقا على تعزيز المصالح الأمريكية في المنطقة”.
ودأبت إدارة ترامب على تأكيد التزامها بالشفافية وجميع قوانين الأخلاقيات لتجنب تضارب المصالح.
وقال تايلور روجرز، وهو متحدث باسم البيت الأبيض، “الدول في الشرق الأوسط تفعل كل شيء على الوجه الأمثل، ذلك لأن أمريكا عادت قوية مرة أخرى… فالزعماء الأجانب يعلمون أن الرئيس ترامب هو كبير صانعي الصفقات الذي أعاد لأمريكا هيبتها من خلال سياساته التي تحقق السلام من خلال القوة”.
اضف تعليق