q
رسالة الحقوق تقدّم صورة كاملة وشاملة عن حقيقة الدين الإسلامي وتمثل دائرة معارف إسلامية كبرى من حيث تعدد جوانبها وتنوع مضامينها وهذا التنوّع والغنى الفكري أكسب هذه الرسالة موقعاً متميزاً في التراث الإسلامي. إنّ مبدأ القهر ومبدأ حرية الإنسان لا يلتقيان أبداً، ومن أجل ذلك تم تشريع قوانين...

عقد مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث الجلسة الحوارية الشهرية في ملتقى النبأ الاسبوعي تحت عنوان، (إدارة السلطة في رسالة الحقوق للامام زين العابدين عليه السلام)، بمشاركة عدد من الباحثين، وقدم ورقة النقاش الباحث في المركز محمد علاء الصافي، جاء فيها:

لا يمكن تنظيم الحياة البشرية بكل أشكالها إلا وفق أسلوب إداري يتناسب مع المحيط والهدف المطلوب إدارته، فالجميع يحتاج الإدارة بدءاً من الفرد إلى العائلة والجماعة والمصنع والشعب والدولة، فكل هذه المسميات والعناوين لا يمكن لها أن تعيش بطريقة عشوائية، وقد ابتكر الإنسان هذا منذ بدايات النشوء البشري كيفية إدارة أعماله البسيطة، وحين انتقل من عصر الترحال إلى بدايات التجمع السكاني ظهرت الحالة لإدارة شؤون هذه التجمعات عبر إدارة السلطة وتنظيم شؤون الجماعة، التي أصبحت في عصرنا (الدولة) بأركانها المعروفة.

وفي كل عمل فردي أو جماعي بغض النظر عن نوعه الإنتاجي المادي أو الفكري، فإنه يحتاج إدارة، وتطورت هذه الإدارة فظهرت الحاجة إلى قيادة وتنظيم العمل الإداري، فصار لابد من وجود رأس أعلى يدير أمور الجماعة، ويتحمل مسؤولية الإخفاق في حالة حصوله، ومع تعاقب العصور صار الإدارة طريقة لتوجيه السلطة والتحكم بها، بعد أن ظهرت الحاجة إلى وجود مدير أو رئيس أو قائد يقف في قمة الهرم كي يدير الأمور المختلفة التي تتعلق بالأفراد والمجتمعات.

يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم، الموسوم بـ (نحو إدارة ناجحة): إن الإدارة هي فن التحكم بالسلطة.

فلا يمكن أن تتسق مسارات الحياة وتنتظم في اتجاه صحيح إلا إذا كانت هناك إدارة تنظمها وتوزع الأدوار بحسب التخصصات والمؤهلات والمهارات وسواها، وبقدر الحاجة للإدارة والتنظيم، فثمة حاجة توازي هذه الأهمية وهي قيادة العمل الإداري للجماعة، هنا تظهر الحاجة للسلطة والصلاحيات، فلا يمكن أن تنجح الإدارة من دون قيادة وقائد، ولا يمكن لهذا المدير أن ينجح في عمله الإداري بلا صلاحيات معروفة تساعده على النجاح في مهمته، لهذا السبب ظهرت الحاجة لإدارة السلطة التي تُسنَد إلى أحدهم بحسب الصفات والمؤهلات التي يحملها، من هنا أصبحت الإدارة مرتبطة بالسلطة بطريقة أو أخرى، لتظهر قضية أخرى تتعلق بنوع السلطة، فأما أن تكون مشروعة أو مستباحة، وربما يجعل منها البعض ذات صلاحيات مطلقة.

حيث يقول الإمام الشيرازي: إن (الإدارة هي فن ممارسة سلطة الإنسان على أفراد جنسه أو على الطبيعة، ولكن هذه السلطة تختلف من شخص إلى آخر، فبعض يستحقها وبعض تقمّصها، وعند البعض تكون الإدارة هي السلطة المطلقة).

عرّف البعض "السلطة السياسية" بـ: (تلك الهيئة المنظمة التي تتولى حكم الشعب والاشراف على مصالحه ورعايتها وإدارة الإقليم وحمايته وتعميره وتنظيم استغلال ثرواته).

وعرّفها بعض آخر بـ: (الجهة المخولة دستورياً بإصدار قرارات تتكفل بتنظيم المجتمع وإدارته، وبيده القوة اللازمة لفرض القانون).

وهناك من عرَفها بسلطة المرجع الأعلى المسلّم له بالنفوذ، أو الهيئة الاجتماعية القادرة على فرض ارادتها على الارادات الأخرى بحيث تعترف الهيئات الأخرى لها بالقيادة والفصل وبقدرتها وبحقها في المحاكمة وانزال العقوبات وبكل ما يضفي عليها الشرعية ويوجب الاحترام لاعتباراتها والالتزام بقراراتها.

وتمثّل الدولة السلطة التي لا تعلوها سلطة في الكيان السياسي ويتجسّد ذلك من خلال امتلاك الدولة لسمة السيادة، لأنها مصدر القانون ومحتكرة حق امتلاك وسائل الإكراه واستخدام القوة لتطبيق القانون في المجتمع. وبالإمكان تعريف السياسة على انها علم السلطة.

تنبع السلطة من حاجة الحياة الاجتماعية الى النظام والسلم والامن والى أهمية توافر الاستقرار والاستمرار الاجتماعي وتحديد الحقوق والواجبات، وإيقاف التنافس بين الافراد والجماعات عند حدود عدم الاخلال بذلك كله..

وقد يتعدد استخدام كلمة "سلطة" في اطار الهيئات والتنظيمات الاجتماعية المختصة، فيقال سلطة دينية وسلطة عسكرية وسلطة عشائرية..الخ، ولكن السلطة العليا تبقى في يد الدولة صاحبة الحق في اصدار القوانين وفرضها.

في الدولة الحديثة يجري التمييز بين سلطات ثلاث: (سلطة تنفيذية وتشريعية وقضائية)، وهي السلطات السياسية ومنها سلطات أخرى يفرزها المجتمع وفاعليته مثل سلطة رجال الدين وسلطة العشيرة وسلطة الصحافة والاعلام وسلطة منظمات المجتمع المدني وغيرها الكثير..

الامام السجاد ورسالة الحقوق

عني الإمام زين العابدين(ع)، من خلال سيرته العطرة، ببناء المجتمع الإسلامي بناء عقائديا وأخلاقيا عناية بالغة، سيما في الفترة التي أعقبت فاجعة الطف، بسبب ما وصل إليه حال المجتمع آنذاك من انهيار في الجانب العقائدي والأخلاقي، وابتعاد الناس عن دينهم من جراء سياسات الحكم الأموي التضليلية، التي حملت معول الهدم على القيم الأخلاقية والعقائد الحقة، فانبرى إلى إصلاح المجتمع وتثبيت العقائد الحقة وتهذيب الأخلاق بالقول والفعل.

وبسبب الوضع السياسي في عصر الإمام السجاد واعتزاله الناس خوفاً على مواليه ومحبيه، أبرز تواصله الاجتماعي والسياسي من خلال أدعيته التي جاءت بها الصحيفة السجادية ورسالة الحقوق ومثلما أكد القرآن على رسالة الدعاء بألوان منها طلب العفو والمغفرة والتوسل بالحق سبحانه وألوان أخرى أكدت أدعيته (ع) على مطالب شخصية واجتماعية ومنها سياسية في بيان أحقية أهل البيت (ع) بهذا المنصب من جهة وانحراف الأمة عنهم وأخذ ذلك المنصب منهم غلبة وقهراً.

رسالة الحقوق تعتبر أوّل رسالة قانونية جامعة دوّنت في التاريخ الاسلامي، وهي من المؤلفات النفيسة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإنسان وحقوقه كلّها وتشتمل على شبكة علاقات الإنسان الثلاثة، مع ربِّه ونفسِه ومجتمعه. وترسم حدود العلائق والواجبات بين الإنسان وجميع ما يحيط به، فقد وضعت المناهج الحيّة لسلوك الإنسان، وتطوير حياته، وبناء حضارته، على أسس تتوافر فيها جميع عوامل الاستقرار النّفسي.

ففي الواقع أنّ رسالة الحقوق تقدّم صورة كاملة وشاملة عن حقيقة الدين الإسلامي وتمثل دائرة معارف إسلامية كبرى من حيث تعدد جوانبها وتنوع مضامينها وهذا التنوّع والغنى الفكري أكسب هذه الرسالة موقعاً متميزاً في التراث الإسلامي.

إنّ مبدأ القهر ومبدأ حرية الإنسان لا يلتقيان أبداً، ومن أجل ذلك تم تشريع قوانين حقوق الإنسان التي كانت أمراً لابدّ منه، لأن تلك القوانين -وبالخصوص القانون الدولي- تسعى لكبح جماح القوة وغطرستها ومنع استفحال سيطرتها وهيمنتها بدون حق، فكانت تلك التشريعات درعاً واقياً وحصناً يحمي حقوق الأفراد التي طالما نراها تنتهك في كثير من أرجاء العالم، تحت تأثير التفسيرات المختلفة لهذه الحقوق، بحسب نظرة الدول لها وحسب مصالحها وأطماعها الخاصة، والتي تجعلها في حالة استعداد دائم لوأد الحرية الإنسانية وحقوقها في سبيل تحقيق تلك الأطماع، ومع ذلك لابد من الإشارة إلى أن الحرية بمفهومها الصحيح لا تعني الاعتداء على حريات الآخرين، كما أنها ليست سبيلاً من سبل الفوضى والعبث، وإنما هي الطريق القويم لتحقيق ذات الإنسان وشعوره بماهيته دون التجاوز على الآخرين.

إن حرية الكلمة التي تعتبر أعمق وأوضح صور الحرية تشكل سلاحاً رادعاً لجميع أنواع التسلط بحيث أن الكلمة على صغرها قد تكون سبباً في ازدهار الأمة وتحقيقاً لحريتها المنشودة.

وتأسيساً على ذلك فإن المجتمع المتميز يقتضي تبادل الثقة يبن أفراده، عن طريق توفير حرية الرأي؛ لأن آراء الناس جزئية وليست شاملة مطلقة؛ لذلك وجب أن يتمتع كل شخص بحرية التعبير عن وجهة نظره لتتكامل هذه الآراء، كما يقول غاندي: (ينبغي أن يكون الناس أحراراً في البحث عن الحقيقة، وعندئذٍ تجعل الحقيقة الناس أحراراً).

وتبقى المشكلة الأكبر التي أفرزتها الإدارة باعتبارها نوع أساس من أنواع السلطة، إذ لا يمكن أن يوجد عمل إداري بغض النظر عن حجمه، قادر على الديمومة والاستمرار من دون قيادة عليا، فالدولة لا يمكن إدارتها دون حكومة، وهنا يحصل ارتباط وثيق بين الإدارة والسلطة، ولكن قد تصبح السلطة مطلقة كما أكد لنا التاريخ وحتى الواقع هذا النوع من إدارة السلطة.

فجميع الأنظمة الدكتاتورية تكون سلطة الحاكم فيها مطلقة، وحتما ستكون نتائجها خطيرة وعواقبها وخيمة على الشعب، بسبب إطلاق السلطة وربطها بشخص الحاكم، وطالما أنه إنسان عادي لا يختلف عن غيره من البشر، فإن السلطة التي جعل منها الدكتاتور مطلقة ستصبح وبالا على الشعب وحتى على الدكتاتور نفسه بوصفه مسؤول أعلى يدير الأمور بوساطة السلطة التي ينبغي أن تكون شرعية حاصلة على موافقة الشعب، لكن الحاكم المستبد لا يعنيه هذا الأمر، وعلى الرغم من أنه إنسان عادي ولا يجوز أن تكون سلطته مطلقة، لكن جميع الحكام المستبدين أهملوا هذه القضية، وأصبحوا يديرون شؤون شعوبهم بإدارة مطلقة، علما أن هذا النوع من السلطة ليس من اختصاص الإنسان العادي وإنما هي من خصائص الله تعالى.

لذلك ما أن يصل الإنسان العادي إلى السلطة، حتى يبدأ باستثمارها لتشديد قبضته على رقاب الناس، حتى وإن وصل إلى قمة هرم السلطة بطرق شرعية، فبمجرد وجوده في هذا الموقع الأعلى، سوف يتمتع بصلاحيات واسعة تتيح له تحول إدارة السلطة من عمل إداري جماعي استشاري ديمقراطي، إلى عمل إداري فردي تتحكم فيه نزعة الحاكم الفرد الذي يقصي جميع الآراء باستثناء من يتملقه ويحابيه ويوافقه حتى على أخطائه السلطوية المدمِّرة.

في نص جميل من رسالة الحقوق: (وأما حق رعيتك بالسلطان فأن تعلم أنهم صاروا رعيتك لضعفهم وقوتك فيجب أن تعدل فيهم وتكون لهم كالوالد الرحيم، وتغفر لهم جهلهم، ولا تعاجلهم بالعقوبة، وتشكر الله عز وجل على ما آتاك من القوة عليهم).. هذا النص فيه مجموعة من المباني أولها ان العدل واجب وافضل طريقة لتحقيق العدل هو أداء الرقابة والمحاسبة والتعاون مع الناس وتوزيع السلطة بين المؤسسات لا حصرها بيد شخص واحد، وأن الرحمة واجبة وأن يكون الحاكم كالوالد الرحيم وهي واجبة تجاه المحكومين.

لذلك فإن إدارة السلطة لا يمكن أن تكون في قبضة الفرد الحاكم وحده، بل لابد من المشاركة التعددية في صياغة وصنع القرار وتنفيذه على الوجه الأدق، لكن الحاكم المستبد، يهمل شروط النجاح في إدارة السلطة، ولا تعنيه المداراة، وهو غير معني بفن الإدارة الذي عرّفه الإمام الشيرازي بأنه فن إدارة السلطة، فمنهم من ينجح وهؤلاء هم الحكام الاستشاريون، ومنهم من يفشل فشلا ذريعا وهؤلاء هم الحكام المستبدون.

وللتعمق اكثر في موضوع الورقة نفتح باب النقاش من خلال طرح السؤالين التاليين:

السؤال الأول: ما هي امراض السلطة من خلال ما ورد من معاني في رسالة الحقوق؟

السؤال الثاني: كيف يمكن الاستفادة من رسالة الحقوق في بناء الحكم الصالح؟

المداخلات:

الشيخ علي الشمري، أستاذ جامعي:

الامر اصبح مقلوباً، علينا ان نسأل ما هي الحالات الصحية في السلطة. البعد الديني والأخلاقي للمصطلحات الواردة فيها، لا يوجد مصطلح الإدارة في الشريعة بل هناك مصطلح التدبير، وهو اكثر اتساع من مفهوم الإدارة.

الهدف من الدولة والسلطة والإدارة هو صناعة السعادة للإنسان والاسرة والمجتمع بشكل عام، لكن لتحقيق ذلك يحتاج الامر الى تقنين السلطات في المجتمع حتى لا تتغول الحكومة وتتجه نحو الديكتاتورية.

في عديد من الدول الغربية وامريكا على وجه الخصوص نجد ان السلطة موزعة على عدة مؤسسات وجهات ولا يختصر القرار بجهة واحدة مما يحقق توازن وتقنين قدر الإمكان يتجه للنجاح.

الحكومة في بلداننا أصبحت حالة مرضية، لذا من الحلول المقترحة هو توزيع السلطة عبر مجالس مختصة منتخبة يتم فيها إدارة الدولة دون ان تكون عائقا امام المواطنين للعيش بسعادة وتقنين المؤسسات تربويا وليس فقط بالجانب القانوني الجامد.

الشيخ مرتضى معاش، باحث وكاتب في الفكر الإسلامي المعاصر:

رسالة الحقوق تملأ المجتمع بكل المعاني التي نحتاجها اليوم حتى في حق الجسد، لو التزم بها الناس لما عانوا من أي مشاكل مرضية وما شابه.

الامام زين العابدين سلام الله عليه قدم حق السلطان في رسالة الحقوق ومن ثم حق الرعية، لأن السلطان هو نتيجة للشعب وصنيعته، وهناك ارتباط عضوي بين الحاكم والمحكوم ورسالة الحقوق تؤكد على ضرورة وجود قواعد سلوك سياسي تضمن النظام وحماية الحقوق والواجبات وإلا النتيجة نحو الفوضى. (فَأَمَّا حَقُّ سَائِسِكَ بِالسُّلْطَانِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّكَ جُعِلْتَ لَهُ فِتْنَةً وَأَنَّهُ مُبْتَلًى فِيكَ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ عَلَيْكَ مِنَ السُّلْطَانِ...).

هذه القواعد تحدد العلاقة وتوضح الحقوق والواجبات للجميع، ان ما يجعل الحكومات تفشل وتفسد وتستبد هو تصرفات الرعية أنفسهم، فهم يقبلون المشاركة في الفساد والفشل وهذا له نهايات تدميرية مؤسفة للبلاد والعباد. (وَأَنْ تُخْلِصَ لَهُ فِي النَّصِيحَةِ وَأَنْ لَا تُمَاحِكَهُ وَقَدْ بُسِطَتْ يَدُهُ عَلَيْكَ فَتَكُونَ سَبَبَ هَلَاكِ نَفْسِكَ وَهَلَاكِه).

ومن اهم قواعد السلوك التي وضعها الامام عليه السلام هي المعارضة، وهل هي معارضة سلمية أم عنفية؟

المعارضة العنفية تتجه بالبلد عادة الى الفوضى وتعزز من استبداد وفساد الحاكم وقمعه للحريات. (وَلَا تُعَازِّهِ وَلَا تُعَانِدْهُ فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ عَقَقْتَهُ وَعَقَقْتَ نَفْسَكَ فَعَرَّضْتَهَا لِمَكْرُوهِهِ وَعَرَّضْتَهُ لِلْهَلَكَةِ فِيكَ وَكُنْتَ خَلِيقاً أَنْ تَكُونَ مُعِيناً لَهُ عَلَى نَفْسِكَ وَشَرِيكاً لَهُ فِيمَا أَتَى إِلَيْكَ).

لا بد للحاكم ان يحترم قوته، وقوته تأتي من خلال الناس، فالحاكم الذي يسلب وينتهك الحقوق هو حاكم ضعيف وليس قوي، يستمد قوته وشرعيته من خلال الشعب.

(وَأَمّا حَقّ أَهْلِ مِلّتِكَ عَامّةً فَإِضْمَارُ السّلَامَةِ وَنَشْرُ جَنَاحِ الرّحْمَةِ وَالرّفْقُ بِمُسِيئِهِمْ وَتَأَلّفُهُمْ وَاسْتِصْلَاحُهُمْ... فَمَنْ أَتَاكَ تَعَاهَدْتَهُ بِلُطْفٍ وَرَحْمَةٍ...)

احترام حقوق الرعية والنزاهة في الحكم وضمان السلم الأهلي والرحمة من اهم قواعد السلوك السياسي في رسالة الحقوق.

الدكتور علاء الحسيني، باحث في مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات:

الامراض في السلطة ليست حكرا على الحاكم، فقد تكون لرب الاسرة او شيخ القبيلة، وابرز هذه الامراض (الاستبداد)، ويأتي من عدة عوامل، أهمها عدم مشروعية قدوم الحاكم للسلطة، لذا نجده يستبد ولا يثق بالمحيطين به ويجردهم من أي سلطة ويتجه للانفراد بها وهذا هو التعسف باستخدام السلطة والانحراف وسيكون الفساد نتيجة حتمية لكل ذلك، كما ان للسلطة نشوة قد تنحرف أحيانا بصاحبها عن جادة الصواب.

وهذا ما حدث في التاريخ الإسلامي من حكم بني امية وما حصل ابان حكم عثمان بن عفان من انحرافات وفساد مالي واداري جعل الامة تثور على الحاكم بسبب هذه السياسات.

عدم الاستعانة بالناصح الأمين من مستشارين ووزراء وما شاكل وهذا ما أشار اليه الامام علي امير المؤمنين (ع) في عهده الى مالك الاشتر، ورسالة الحقوق للامام زين العابدين هي تكملة لما سبق من نهج امير المؤمنين.

للاستفادة الحقيقية من رسالة الحقوق، نحتاج اليوم ان يتم تضمينها في المناهج الدراسية سواء في المدارس او الجامعات كما اضافت مثلا وزارة التعليم العالي مادة حقوق الانسان كمنهج جامعي للطلبة، نحتاج ان نؤسس مدرسة نسميها المدرسة الوطنية يكون همها تخريج شخصيات قادرة على الحكم والإدارة وكل من يتسنم منصب حكومي، تدرس فيها رسالة الحقوق ويتخرج منها اشخاص متشبعة بالأفكار الإنسانية والحقوقية وفق منهج اهل البيت عليهم السلام حتى نستطيع ان نطمئن على ان السلطة ستكون بأيادي امينة. المعهد القضائي في العراق مثلا اجد من الضروري ان يتم تدريس فيه رسالة الحقوق والاستفادة من مبادئها الإنسانية ونصوصها البليغة في الحقوق والواجبات وهي اختصار للكثير من النصوص الشرعية والقانونية.

المحامي صلاح الجشعمي، باحث حقوقي في مؤسسة مصباح الحسين للإغاثة:

في الأنظمة الليبرالية نجد ان أحد اهم أركانها جانب حقوق الانسان، بل ثقفت وشرعت القوانين انطلاقا من هذا الجانب في كثير من الأحيان، بينما في بيئتنا نجد اننا نمتلك منظومة كاملة مثل رسالة الحقوق للامام السجاد تحتاج الى تفعيل وعمل في الواقع لكي نلمس ثمارها.

اهم ما جذبني في رسالة الحقوق للامام السجاد هو محاولة التوازن بين السلطات والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وما يهمنا في عالم اليوم ان نجد تطبيق فعلي لهذه المبادئ في جميع المؤسسات سواء الرسمية او الاجتماعية لكي تتجذر وتتحول الى ثقافة ومن ثم سنجد أنفسنا دولة مؤسسات فيها من القوانين والتشريعات ما يصل بالإنسان نحو السعادة والاستقرار دون ان نواجه قرارات تعسفية وارتجالية دون دراسة اثارها اللاحقة.

الباحث عدنان الصالحي، مدير مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

امراض السلطة قد تكون ذاتية في الشخص نفسه أو تكون مكتسبة بفعل البيئة المحيطة بالحاكم، آلية ولادة السلطة هل هي نتيجة انتخابات ديمقراطية حقيقية ام نتيجة تلاعب او انقلابات عسكرية؟ هنا تكمن المشكلة.. اذا كانت انتخابات مزورة فهذه مفسدة منذ البداية واذا كانت نزيهة يجب ان نبحث هل المجتمع الذي افرز هذه النخبة الحاكمة يتمتع بالفكر والثقافة والحكمة لكي ينتخب ممثليه ام انه لا يعلم اين تكمن مصلحته ومصلحة البلاد؟

الحاشية المحيطة بالحاكم وبطانته كذلك هي ما يتأثر بها وقد تتغير شخصيته بسببهم وهذا هو افراز المجتمع نفسه.

اما جانب الانقلابات وما شابه فهو أساسا ينتهج مبدأ اقصاء الاخرين والاستبداد بالسلطة.

تبدأ الاستفادة من رسالة الحقوق تبدأ من لحظة التعليم للأجيال ويجب ان يكون معلمهم هو قدوة ومعيار لتعليم هذا الشيء وتوفير بيئة حقيقية لتأصيل تلك الأفكار.

الدكتور قحطان حسين طاهر، باحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

رسالة الحقوق هي نتاج فكري عظيم وقيم جدا وجاء خلاصة تجربة عاشتها الدولة الإسلامية وهي رسالة حقوق وواجبات على الحاكم والمحكوم.

اريد ان اركز على جزئيتين، الأولى حق الامام على الانسان، فذكر ان للامام حق السلطان وحق العلم وحق الملك كما ان للرعية حق السلطان وحق العلم وحق الملك، ويبين الامام من ذلك تكامل الدور بين الحاكم والرعية، فلا يمكن ان يقدم الحاكم والسلطة دوره وواجباته والمهام التي على عاتقه دون تكامل الأدوار مع الرعية واخذ رأيهم ومشاورتهم وطلب تعاونهم.

من الامراض التي اشارت اليها رسالة الحقوق، الاستبداد من قبل الحاكم، فعلى مر العصور نادراً ما نجد سلطان عادل، فحتى من وصل للحكم بطريقة شرعية ونجده يحاول ان يلتزم بالشرائع السماوية والإنسانية لكنه قد ينحرف تجاه ذلك بمرور الوقت الا ما لدينا من امثلة نادرة في الحكم مثل الرسول محمد (ص) والامام علي (ع)، لكن في المجمل الاستبداد كان حاضرا في كل أنواع الحكومات والدول على مر التاريخ.

المرض الاخر هو الاستئثار بالسلطة، ركزت الرسالة على كثير من المضامين في مجال مراقبة السلطة والحاكم لتصحيح الانحرافات وعدم التمسك بالسلطة والإصرار على الخطأ والظلم والانحرافات بالحكم والسماح للمعارضين بأبداء الرأي دون قمع او عقوبات كما تنتهج ذلك معظم الحكومات الاستبدادية والتي عاصرها الامام عليه السلام في حياته.

المرض الثالث من امراض السلطة هو ان الحاكم لا يحكم وفق القانون والشرع بل يسير وفق مصلحته الشخصية والفئوية ويتجه نحو توريث السلطة وصناعة الحواشي والاتباع.

من الضروري ان تصل رسالة الحقوق ليس فقط للمؤسسات التعليمية والقضائية بل حتى للوسط العشائري والعوائل والاستفادة من نهجها الإنساني لضمان حقوق الجميع واعتمادها كثقافة مجتمع.

حيدر الاجودي، باحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

رسالة الحقوق هي دعوة حقيقية للإصلاح النفسي أولا والإصلاح المجتمعي ثانيا، للتخلص من كل مظاهر الظلم والعنف والاستبداد والفساد.

من اهم المرتكزات في رسالة الحقوق هي اصلاح النظام السياسي وإصلاح القضاء، وقد يكون القاضي هنا رب الاسرة او شيخ العشيرة وليس بالضرورة مؤسسة القضاء الرسمية نفسها، وهو اهم ركن لتحقيق العدالة.

كما ركزت الرسالة على امن الدولة وامن المجتمع والامن الفكري وكثير من العبارات وردت فيها حول حق الرعية وحق السلطان وواجبات كل منهما، واذا ما تمكننا من تطبيق هذا النهج في حياتنا ومجتمعنا فإننا بكل تأكيد سنتجه نحو الحكم الصالح.

الحقوقي أحمد جويد، مدير مركز ادم للدفاع عن الحقوق والحريات:

رسالة الحقوق هي امتداد لرسالة النبي محمد (ص) وعهد الامام علي لمالك الاشتر وتجربتهم في حكم وإدارة الدولة، وتضمنت كل الحقوق للرعية والحاكم وحتى الحيوان والنبات وتجاوزت الخمسين حقا في الحياة.

من اعظم امراض السلطة هي الاستبداد والفساد كما حددها الامام امير المؤمنين (ع) من قبل رسالة الحقوق في مواجهته حكام بني أمية الذين كان همهم السلطة والاستئثار بها لكن ما كان يهم الامام هو الحكم بالعدل والمساواة وإعادة الحقوق لأصحابها وهما منهجان مختلفان تطرق لهما الامام في رسالته بشكل تفصيلي لاحقا.

نحن اليوم بحاجة ماسة لترسيخ هذه المبادئ على صعيد الاسرة والعمل والسلطة الحاكمة وكل ما تتأثر بها حياتنا على جميع المستويات.

الباحث باسم الزيدي، مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:

نحن هنا امام حالة مثالية ذكرها الامام زين العابدين في رسالته حول إدارة السلطة وحسن تدبيرها، لكن ما نعيشه اليوم في الواقع يختلف تماما عن تلك الحالة المثالية، وهذا يقودنا نحو سؤال مهم.. من قادر على تطبيق بنود رسالة الحقوق في الواقع الذي نعيشه اليوم في معظم المجتمعات؟ هل تحتاج الى شخص استثنائي ومثالي لتطبيقها؟

ما يتم اخذه من بعض مضامين رسالة الحقوق من قبل السلطة ما هو الا تجميل لها ومحاولة إخفاء عيوبها، والا ان السلطة في طبيعة الحال هي مجموعة امراض لا يمكن تجميلها واصلاحها لو دخلنا في حقيقتها.

هذه الرسالة وجهت للإنسان واذا ما اردنا ان نجد حلول لتطبيق هذه الرسالة عمليا، يجب ان نجد أولا حلول لرفع مستوى الانسان فكريا وثقافيا حتى يتقبل مثل هذه النصوص ويهضمها ويتجه للعمل بها في حياته اليومية والوصول نحو الحكم الصالح.

الباحث محمد علي جواد تقي، كاتب في شبكة النبأ المعلوماتية:

هل نحن امام نظرية غير قابلة للتطبيق ام هي توصيات لنا جميعا؟

هي دعوة حضارية للإنسان، في أي زمان ومكان وهي امتداد لما سبقها من تطبيق عملي في دولة الرسول والامام علي (صلوات الله عليهما).

احتكار الحق وحصره في جهة او شخص واحد هو من امراض السلطة المستعصية، ويجب ان يتحقق توازن بين الحقوق والواجبات لكل من الحاكم والمحكوم، لان احتكار الحق هو ما يصل بنا نحو الاستبداد حتماً.

هذه التوصيات في الرسالة او في عهد الامام لمالك الاشتر نجد فيها نصوص قانونية، لا مجرد روايات منقولة او نصوص متوارثة، في محاكمنا الحالية والقانون الوضعي يحتاج الى إضافة جانب ديني شرعي لتفسير القوانين وإيجاد بيئة متقبلة لذلك لأننا نجد بين حين وآخر رفض لهذا التوجه بسبب تأثيرات تجربة بعض المحسوبين على الإسلاميين في الحكم.

الدكتور اسعد كاظم شبيب، اكاديمي:

اظهرت رسالة الحقوق للإمام زين العابدين مجموعة من حقوق الإنسان حيث وضعها الإمام بوقت كان الاستبداد في أوجه واراد الإمام بذلك أن يشخص أمراض السلطة ومنها الاستبداد والتغول والفساد واستغلال الدين لتحقيق مأرب سياسية كما أراد أن يرسم لنا الإمام من خلال رسالته الحقوقية أن حقوق الإنسان واجبة ومقدمة على كل شئ من أجل بناء مجتمع متكامل غير خاضع للفساد وآفات السلطة الأخرى.

تظل عملية تحقيق مبادئ الحقوق التي وضعها الإنسان بحاجة إلى ركنين اساسين أحدهما وجود حكم رشيد، والآخر بناء مجتمع قائم على أساس الفضيلة والمثل العليا وقيم الحضارة.

إلى جانب مأسسة تلك المبادئ التي ضمنها رسالة الحقوق اي تكييفها مع الحداثة الحقوقية والإنسانية والسياسية في ظل رابطة المواطنة وعقد اجتماعي القائم على اسس حقوق الإنسان وحرياته وكرامته، وسيادة القانون وحكما رشيدا.

الباحث حسن كاظم السباعي:

باختصار شديد؛ إن أهم ما ورد في رسالة الحقوق في أمر السلطة هو:

امتلاك القوة أو فقدانها عند السلطان وما يترتب على الحالتين من آثار ونتائج.

فامتلاك القوة دون رادع أو وازع يؤدي إلى الجور والحيف والظلم، وضعف السلطة أيضا يؤدي إلى آفات وأضرار معروفة مثل: الاستخفاف من قبل المجتمع أو ظهور جماعات تستغل ضعف السلطة فتمارس ضغوطا أو انتهاكاتٍ في الساحة؛ وجراء عدم إلتزامها بالقانون ينتج الهرج والمرج.

يقول سيد الساجدين الإمام علي بن الحسين عليهما السلام:

"وحق السلطان أن تعلم أنك جعلت له فتنة، وأنه مبتلى فيك بما جعله عز وجل له من السلطان، وأن تخلص له في النصيحة، وأن لا تماحكه، وقد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه.."

في هذا النص يشير الإمام عليه السلام إلى أمر واقعي مفاده أن مواجهة السلطة القوية تؤدي إلى المخاطر والأضرار، فالأولى تركها وشأنها ما سلم الدين وأمور المسلمين، وبيان لما قد يفعله السلطان لكبت كل صوت ضده أو ضد سياسته في العلن ولو كان مجادلة بسيطة لا طائل منها.

لكنه في الوقت ذاته يمكن إرشاده بالعقل واللطف لتسلم دنيا وآخرة الجميع ولا يجترئ على قتل المماحك والهلاك بدمه ان أظهر له ولو مجرد "مماحكة": وهي لغة بمعنى ما قل وصغر من مجادلة في أمور تافهة أو منازعة كلامية لا طائل منها.

هذه المماحكة قد تسقط هيبة السلطان رغم قوته وقد توغر قلبه فيبطش وهذا واضح أنه عام لأي سلطان.

وكلام الإمام مشروط "ولا يضر بدينك"؛ وتذلل وتلطف لإعطائه من الرضا ما يكفه عنك ولا يضر بدينك وتستعين عليه في ذلك بالله، ولا تعازه ولا تعانده، فإنك إن فعلت ذلك عققته وعققت نفسك، فعرضتها لمكروه وعرضته للهلكة فيك، وكنت خليقا أن تكون معينا له على نفسك وشريكا له فيما أتى إليك من سوء".

ومن خلال قوله: "وأنه مبتلى فيك بما جعله عز وجل له من السلطان" دلالة على أن ميزان القوة وضعفها وشدتها لدى السلطة لها أثر كبير في هذا الابتلاء الذي إما أن يؤدي إلى تماسك المجتمع أو انفلاته وظهور عصابات توازي السلطة، وبناء على ما سبق؛ فينبغي التصرف العقلاني أمام واقع هذا الابتلاء وأنواعه وتشخيصه بدقة وحنكة.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2023
http://shrsc.com

اضف تعليق