q
سياسة - تقارير

التجربة المدرسية

تسبَّبَت جائحة «كوفيد-19» في إرباكٍ غير مسبوق للعملية التعليمية، لكن الأبحاث توصلتْ إلى طرقٍ فعَّالة لمساعدة الأطفال على تعويض ما فاتهم من دروس، فقد كانت المدارس على مستوى العالم قد أَغلقتْ أبوابها بسبب جائحة «كوفيد-19» لمدة بلغتْ أربعة أشهر ونصف في المتوسط، مما أثر على نحو 1.6 مليار طالب...

في شهر أكتوبر من عام 2021، شهدتْ ميج برايدون التأثيرات الفظيعة التي نالت الأطفالَ في مدرستها جراء جائحة «كوفيد-19». وكانت برايدون تعمل مُعلِّمةً في مدرسة آشوود الثانوية، التي تقع في ضواحي مدينة ملبورن الأسترالية — تلك المدينة التي طالت فيها فترة الإغلاق أكثر من أي مدينة أخرى على مستوى العالم بسبب الجائحة، إذ ظلتْ تتناوب إغلاق وفتح أبوابها على مدار قرابة سبعة أشهر.

قبل اندلاع الجائحة، كان أداء نحو 10% من الأطفال، الذين التحقوا بمدرسة آشوود في سن الثانية عشرة من عمرهم، دون الحد الأدنى المتُعارف عليه على مستوى البلد. لكن برايدون استطاعتْ أن ترصد حقيقةً صادمة، وهي أن 30% من مجموعة التلاميذ الأخيرة التي التحقت بالمدرسة كانوا متأخرين عن الرَّكْب. بل إن الضرر صار أعمق، إذ عانى العديد من الأطفال مشكلاتٍ سلوكية أو نفسية عقب عمليات الإغلاق المتكررة حتى إن البعض منهم صار عنيفًا، ولذا لجأت المدرسة إلى تعيين اختصاصية في علم النفس بدوام كامل لتقديم المساعدة لهم. تقول برايدون: "كان عدد التلاميذ الذين يُعرَضون عليها مهولًا".

وقد تكررتْ سيناريوهات مشابهة في الفصول المدرسية حول العالم. فبحلول شهر فبراير من عام 2022، كانت المدارس على مستوى العالم قد أَغلقتْ أبوابها بسبب جائحة «كوفيد-19» لمدة بلغتْ أربعة أشهر ونصف في المتوسط، مما أثر على نحو 1.6 مليار طالب – وفق التقديرات – وأسفر عما وصفته الأمم المتحدة بأنه أكبر عرقلة للعملية التعليمية في التاريخ. وحتى بعد مرور عامين على اندلاع الجائحة، لم تستأنف 48 بلدًا حول العالم فتح مدارسها بشكلٍ كامل بعد، وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).

يبدو أن عواقب عمليات الإغلاق تسلك مسارًا محزنًا وإن كان متوقَّعًا. ففي البلدان الغنية، كان الأطفال الأقل حظًا والأكثر ضعفًا هم الأكثر تأثرًا. ونال أولئك الذين يعيشون في البلدان الأفقر النصيبَ الأكبر من الضرر، ولن يعود الملايين منهم إلى مدارسهم مجددًا. ووفقًا لتقديرات منظمة اليونسكو بالقيم الحالية، فإن الجيل الحالي من الطلاب قد يخسر 17 تريليون دولار أمريكي من إيراداته طيلة حياته بسبب ما فاته من فرص التعلم واكتساب المهارات. تقول مارجريت ساكس-إزرائيل، التي تُشرف على قسم التعليم الشامل وعالي الجودة في منظمة اليونسكو في بانكوك: "في واقع الأمر، نحن نتحدث عن خسارة جيل".

والآن، تحتاج الحكومات والمدارس إلى معرفة النهج الأمثل الذي يمكنها من خلاله مساعدة الأطفال على تعويض ما فاتهم من دروس، وقد تُبَيِّن الأبحاثُ السبيلَ إلى ذلك. فعلى مدار السنوات العشرين أو الثلاثين الماضية، نجح الباحثون في تشكيل كمٍ وافرٍ من الأدلة في مجالات التعليم، والاقتصاد، والتنمية الدولية، بما يشمل بنوك التجارب المُعشاة المنضبطة التي تقدم استراتيجياتٍ فعَّالة في تعزيز الحضور الدراسي والتُّعلم. وتكشف هذه الأدلة، على سبيل المثال، أن التعليم الخاص يُعَد واحدًا من أكثر الطرق فاعلية من حيث التكلفة، فيما يتعلق بمساعدة الأطفال على تعويض ما فاتهم. وتعتمد بعض البلدان على هذه الأدلة في استجاباتها لجائحة «كوفيد-19»، إذ ينصب تركيزها على التعليم الخاص وغيره من البرامج التي أثبتت الدراسات التربوية فاعليتها.

على الجانب الآخر، يُشير الخبراء إلى عددٍ من الشواغل. فلم يتضح بعد النطاق الحقيقي للخسائر التي لحقت بالتعلُّم جراء الجائحة؛ فقلما تُقدم الأبحاث التربوية إجاباتٍ بسيطة حول الإجراءات التي يجب اتخاذها؛ وقد لا تغتنم بعض البلدان هذه الفرصة لإجراء تغيير منهجي تدعو الحاجة إليه بشدة. يقول جون هاتي، الباحث التربوي في جامعة ملبورن: "في كل مرة ألمَّت بعالمنا محنة، سارعنا بالعودة إلى الوضع الطبيعي القديم. إذا لم نتعلم درسًا من جائحة «كوفيد-19»، فستكون هذه هي المهزلة الكبرى".

ويُضاف إلى ذلك حقيقة أن حجم المهمة التي أمامنا جسيمٌ. فالباحثون والخبراء التربويون يساورهم القلق بشأن عدم كفاية المبالغ التي يجري استثمارها على نحوٍ يثير السخرية، بالنظر إلى عدد الطلاب الذين هم بحاجةٍ إلى المساعدة. يقول كينيث راسل، أحد الاختصاصيين التربويين في منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) في نيويورك: "هذا اختبار حقيقي للمجتمع العالمي. ولا أعتقد أن حجم الاستجابة يتناسب مع ضخامة الحاجة".

ورغم ذلك، فإن الجائحة قد تدفع في نهاية المطاف باتجاه إجراء بعض التغيُّرات الجذرية في التعليم؛ تغيُّراتٍ من شأنها تحسين الممارسات والوصول إلى مزيد من الطلاب، حسبما أشار الباحثون. يقول لي إليوت ميجور، الذي يدرس الحراك الاجتماعي في جامعة إكستر بالمملكة المتحدة: "أعتقد أنها [أي الجائحة] عصفت بالكثير من افتراضاتنا المتعلقة بالتعليم".

صعوبة الإقناع

لطالما كان الإقناع بفكرة الاستعانة بالأبحاث في مجال التعليم مسألة شاقة، وتستغرق وقتًا طويلًا. يقول أندرياس شلايكر، الذي يرأس قطاع التعليم والمهارات لدى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في باريس: "تكمن المشكلة الأساسية في أن كثيرين من الممارسين لا يعتقدون أن ذلك سيكون علمًا بأي حالٍ من الأحوال". فلا يُتوقَّع من المعلمين أن يتصفحوا المجلات الأكاديمية، كما أن السياسات التعليمية تُقرَّر استنادًا إلى أيديولوجية البيروقراطيين، لا إلى الأبحاث التي تُبيِّن ما هو فعَّال بحقٍ. ويضيف شلايكر قائلًا: "بل ويطوع الكثير منهم الأدلة لدعم ما يريدون فعله".

وقد حاول بعض الباحثين والتربويين تغيير وجهة النظر تلك على مدار عقود من الزمن. فهم يريدون أن تصبح العملية التعليمية أشبه بما يحدث في مجال الطب، حيث يتطلب الأمر عادةً إثبات فاعلية العقار في التجارب المعشاة المنضبطة قبل استخدامه. ويُجادِل أنصار التعليم المدعوم بالأدلة قائلين إنه يجب أيضًا إثبات فاعلية طرق التدريس والتعلم من خلال الأبحاث، ويجب عدم الاستعانة بها لمجرد كونها تقليدًا متبعًا أو استنادًا إلى الآراء أو أحدثِ الصيحات أو التوجهات. لكنهم يُقرّون بأن اختبار ما إذا كانت الاستعانة بإحدى طرق التدريس والتعلم تؤدي إلى تحسين المخرجات التعليمية أم لا - غالبًا ما يكون أشد تعقيدًا من اختبار ما إذا كان عقارٌ ما يعمل على تحسين الحالة الصحية أم لا.

وفي أواخر عام 2010، حظي التعليم المستند إلى الأدلة بأكبر دعم، عندما استثمرتْ حكومة المملكة المتحدة 125 مليون جنيه إسترليني (ما يعادل 156 مليون دولار أمريكي) بهدف الارتقاء بالمعايير في المدارس. أدى ذلك إلى ظهور مؤسسة «إديوكيشن إنداومنت فاونديشن» Education Endowment Foundation (EEF)، وهي منظمة غير هادفة للربح، مقرها مدينة لندن، وقد صارت منذ نشأتها رائدةً في مجال الأبحاث التربوية. موَّلَت المؤسسة ما لا يقل عن 160 تجربة معشاة منضبطة في مجال التعليم، وهي بذلك تفوق على الأرجح أي مؤسسة أخرى في العالم. وقد شارك في هذه التجارب قرابة نصف المدارس الإنجليزية. تقول أنيت بواز، التي تدرس الأدلة والسياسات في «مدرسة لندن لحفظ الصحة وطب المناطق الحارة»: إن الاستثمار في مؤسسة «إديوكيشن إنداومنت فاونديشن» "كان له صداه الواسع حول العالم".

كذلك ازدهرت قواعد البيانات الأخرى الخاصة بالأبحاث التربوية. فقد تولى هاتي مشروعًا رائدًا مبكرًا لتوليف الأدلة المُجمعة من جميع أنحاء العالم حول العوامل التي تؤثر على التعلم1. ويملك معهد العلوم التربوية التابع لوزارة التعليم الأمريكية في واشنطن العاصمة المكتبةَ الرقمية «وات ووركس كليرينجهاوس» What Works Clearinghouse، وهي مصدر للمعلومات المتعلقة بالبرامج التعليمية التي ثبتت جدواها استنادًا إلى أبحاثٍ دقيقة وصارمة. ويرى هاتي أنه في ظل وجود قواعد بيانات كهذه، لا يحتاج المجال إلى مزيدٍ من الأدلة، وإنما يكمن التحدي في الحصول على المعلومات التي تستند إليها الحكومات والمدارس. ويستطرد قائلًا: "ونحن لا نتمتع بالكفاءة في مسألة الحصول على المعلومات".

ربما تساعد الجائحة – على المستوى النظري - في سد هذه الفجوة. فالبلدان في شتى أنحاء العالم تريد معرفة الطريقة المثلى للاستثمار في إنعاش العملية التعليمية، ومليارات الدولارات تُضخ بالفعل إلى المدارس. تقول نانسي مادن، اختصاصية علم النفس والباحثة في كلية التربية بجامعة جونز هوبكنز في مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند: "في واقع الأمر، نحن نشهد لحظة فريدة من الزمن فيما يخص تغيير لغة الحوار بشأن الأدلة في مجال التعليم. فالناس يريدون شيئًا مجديًا، فهم لا يؤدون الأعمال بالطريقة المعتادة فحسب".

وضع نهاية للمفاهيم الجامدة

إن أهم ما يُميز مؤسسة «إديوكيشن إنداومنت فاونديشن» مجموعةُ أدوات التدريس والتعلم التي توفرها، والتي تستند إلى مراجعات منهجية وتحليلات إحصائية للدراسات، مثل التجارب المعشاة المنضبطة، التي اختبرتْ 30 نهجًا تعليميًا. تتولى مجموعة الأدوات هذه ترجمة النتائج إلى مقياس يسهل فهمه: عدد أشهر التقدم الإضافي الذي تحقق على مدار عام، في المتوسط، من جانب الأطفال الذين يتلقون تدخلًا، مقارنةً بأقرانهم الذين لم يحظوا بهذا التدخل. كما تعرض مجموعة الأدوات قوة الأدلة التي تستند عليها وتكلفة التدخل (انظر: "أي الأساليب التعليمية يحصل على أعلى الدرجات؟" وgo.nature.com/3nbhdzm).

تقضي مجموعة الأدوات هذه على العديد من المعتقدات الشائعة من خلال إظهار أن عمليات التقليص المحدودة في حجم الفصول (من 30 إلى 20 طالبًا، مثلًا)، وارتداء الأزياء المدرسية، وتقسيم الأطفال إلى مجموعاتٍ وفقًا لمستوى التحصيل، ليس لها تأثير كبير – هذا إن وُجِد من الأساس - بناءً على الأدلة التي جُمعت إلى الآن. وتشمل الاستراتيجيات الأكثر فاعلية تلك التي تُعين الأطفال على فهم ما يقرؤون وتمنحهم تقييماتٍ ذات مغزى، إضافةً إلى النُهُج التي تحسن ما وراء المعرفة (إدراك الإدراك)؛ ويُقصد به قدرة الطلاب على التفكير بشأن تعلمهم والتخطيط له وتقييمه. تمنح كل استراتيجية من هذه الاستراتيجيات الأطفال تقدمًا مدته ستة أشهر أو سبعة في المتوسط.

وحاليًا، يستعين أكثر من 70% من قادة المدارس الثانوية في إنجلترا بمجموعة الأدوات تلك عند اتخاذ القرارات المتعلقة بكيفية إنفاق التمويل. ودخلتْ مؤسسة «إديوكيشن إنداومنت فاونديشن» في شراكة مع مجموعاتٍ لتعديل مجموعة الأدوات بما يناسب استخدامها في أستراليا، وأجزاءٍ من أمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط، وإفريقيا.

كان واضحًا، قبل اندلاع الجائحة بوقت طويل، أن أحد أكثر الأساليب فاعلية من حيث التكلفة يتمثل في التعليم الخاص، إما في مجموعات صغيرة، أو فرد لفرد. ووفقًا لمجموعة الأدوات المذكورة، فإن هذا يُمكِن أن يحقق أربعة إلى خمسة أشهر من التقدم الإضافي بتكلفةٍ منخفضة نسبيًا. وعلى العكس من بعض الأساليب الفعَّالة الأخرى، يُمكِن زيادة برامج التعليم الخاص وتنفيذها بسرعة. لذلك، استعرضتْ مؤسسة «إديوكيشن إنداومنت فاونديشن» في عام 2020، الأدلة المتعلقة بالآثار المحتملة لإغلاق المدارس في جميع أنحاء المملكة المتحدة2 استعراضًا سريعًا، وأوضحتْ أن التعليم الخاص كان سبيلًا فعَّالًا للغاية على الأرجح في مساعدة الأطفال على تعويض ما فاتهم. وفي ذلك الوقت، "كان التعليم الخاص استجابةً وجيهة فيما يبدو"، حسبما تشير بيكي فرانسيس، الباحثة في مجال التعليم والمديرة التنفيذية لمؤسسة «إديوكيشن إنداومنت فاونديشن». تضيف فرانسيس قائلةً إن التوصية "طُرحتْ بلا إطارٍ واضحٍ آنذاك وتلقفها واضعو السياسات بحماس".

وفي يونيو 2020، أعلنتْ حكومة المملكة المتحدة عن برنامج تعليم خاص وطني بقيمة 350 مليون جنيه إسترليني كجزءٍ من تمويلها التداركي الأوسع نطاقًا، الذي تبلغ قيمته مليار جنيه إسترليني، ويهدف إلى تعويض الأطفال عما فاتهم في الجانب التعليمي. (كانت مؤسسة «إديوكيشن إنداومنت فاونديشن» واحدةً من شركاء عديدين أداروا البرنامج في عامه الأول؛ وتولتْ شركة «راندستاد» Randstad الهولندية زمام الأمور في العام الثاني). ولكن برنامج التعليم الخاص واجه انتقاداتٍ واسعة نظرًا لفشله الذريع في الوصول إلى عدد كافٍ من الأطفال، لا سيما أولئك الذين من المُنتَظَر أن يحققوا استفادةً منه أكثر من غيرهم. يقول إليوت ميجور: "أعتقد أنه لم يستهدف التلاميذ الأكثر تأثرًا وتضررًا على النحو المطلوب. ولم يُظهِر تفوقًا على المعلمين التقليديين. ويرجع هذا في جانبٍ منه إلى وجود بعض الشكوك حول التفاوت في جودة المُعَلِّمين الخصوصيين".

وفي شهر مارس 2022، فسخت الحكومة عقد شركة «راندستاد» وأعلنتْ أن تمويل التعليم الخاص سيُخصَّص للمدارس مباشرةً في العام الدراسي 2022–2023. وتُجري المؤسسة الوطنية للأبحاث التعليمية في سلاو بالمملكة المتحدة تقييماتٍ مستقلة لمعرفة مدى تأثير برنامج التعليم الخاص على تحصيل الطلاب.

وتعبّر كل من مؤسسة «إديوكيشن إنداومنت فاونديشن» وشركة «راندستاد» عن فخرهما بما حققتاه بفضل برنامج التعليم الخاص. ففي تصريحات لدورية Nature، قالت مؤسسة «إديوكيشن إنداومنت فاونديشن»: إن 60% من المدارس الثانوية حصلتْ على التعليم الخاص بحلول يوليو 2021، وقالت شركة «راندستاد» إنها ضاعفت عدد الطلاب في برنامج التعليم الخاص ثلاث مرات.

دراسات الحالات

طُبِّق برنامجٌ آخر مدعوم بالأدلة، على نحوٍ واسع النطاق وأقل إثارةً للجدل، في إنجلترا، وهو برنامج «نوفيلد للتدخل اللغوي المبكر» (NELI). فقد أثبت البرنامج في تجارب معشاة منضبطة أنه يُسهم في تعزيز المهارات اللغوية لدى الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين أربعة وخمسة أعوام من خلال سلسلة من جلسات التدريس في مجموعاتٍ صغيرة (انظر: go.nature.com/39xtgsk). ويُستعان الآن بهذا البرنامج في ثلثي المدارس الابتدائية الإنجليزية؛ للمساعدة في تعويض التلاميذ عما فاتهم على المستوى التعليمي أثناء الجائحة، وتُقيَّم نتائجه تقييمًا مستقلًا. تقول فرانسيس: "على الرغم من الانتشار الهائل له، فإنه غرد بعيدًا عن الأنظار بشكل شبه كامل".

ويشير بعض الباحثين إلى أن هولندا اتبعتْ نهجًا مثاليًا يُحتذى به لإنعاش التعليم، بناءً على الأدلة. فلقد سلَّمت الحكومة الهولندية المدارس تمويلًا قدره 4.2 مليار يورو (4.4 مليار دولار أمريكي) بهدف دعم الطلاب، وطالبتْ بإنفاقه عن طريق الاختيار من "قائمة" من النُهُج المعتمِدة على الأدلة، والتي تستند، إلى حد بعيد، إلى مجموعة الأدوات التي وضعتها مؤسسة «إديوكيشن إنداومنت فاونديشن». تقول فيمكِه بينك، مستشارة بارزة في قسم التعليم الثانوي بوزارة التعليم والثقافة والعلوم في مدينة لاهاي: "نريد أن نتأكد قدر المستطاع من أن المدارس ستبني قراراتها على المعرفة المتوفرة عن النُهُج الفعَّالة".

وفي بنما، أُغلِقَت المدارس إغلاقًا تامًا لفترة تتجاوز العام، فأطلقتْ وزارة التعليم في شهر أبريل 2022 موارد وتدريبات للمعلمين تُبَيِّن كيفية تنفيذ الممارسات القائمة على الأدلة، بما يشمل تقديم تقييماتٍ للطلاب. يقول خافيير جونزاليز، مدير مختبر «سوما» SUMMA في مدينة سانتياجو، عاصمة تشيلي: "يعاني المعلمون إرهاقًا وإجهادًا، ولذا نحاول أن نقول لهم إننا نريد توجيه جهودكم صوب ما هو مُجدٍ بحقٍ". تجدر الإشارة إلى أن مختبر «سوما» يسعى إلى تحسين الأنظمة التعليمية في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي بالاستعانة بالأبحاث، وقد أسهم في تطوير عمليات التدريب.

وشددت الولايات المتحدة أيضًا على أهمية الأخذ بالنُهُج القائمة على الأدلة في خططها الرامية إلى التعافي. ففي عام 2021، خُصِّص 122 مليار دولار أمريكي للمدارس بموجب قانون تحفيزي عملاق. ويشترط القانون تخصيص ما لا يقل عن 20% من الأموال التي تتلقاها المقاطعات من أجل تنفيذ التدابير القائمة على الأدلة، بهدف تلبية الاحتياجات الدراسية والاجتماعية والعاطفية لدى الطلاب. لكن مايك بيتريلي، رئيس معهد توماس بي فوردام، وهو مؤسسة تعليمية في واشنطن العاصمة، يُشير إلى أنه يصعب عمليًا معرفة الكيفية التي تُستخدم بها هذه الأموال، ويعبر عن ذلك بقوله: "استنادًا إلى التجارب السابقة، علينا أن نتوقع عدم إنفاق الكثير من هذه الأموال بالطريقة المثلى".

يكمن أحد التعقيدات الأخرى في أن التعليم الخاص له أساليب عديدة: سواء بطريقة فردٍ لفرد، أو في صورة مجموعاتٍ صغيرة؛ عبر الإنترنت أو بحضور الشخص بنفسه؛ يقدمه معلمون حقيقيون أو معلمون افتراضيون. لا يوجد ما يضمن فاعلية برنامج معين، أو نجاحه في مدرسة معينة، أو جدواه مع طفل معين. تقول مادن: "لا يقتصر الأمر على تعيين بعض الأشخاص، الذين يسمون أنفسهم معلمين خصوصيين، ووضعهم في الغرفة مع بعض الأطفال؛ فكثير من المال يمكن أن يُهدَر بتلك الطريقة".

وفي ملبورن، شهدتْ برايدون التحديات التي يواجهها القائمون على تنفيذ برنامج تعليمي خاص. فصحيحٌ أن مَدرستها تمكنتْ من تعيين معلم إضافي في بعض الفصول المدرسية لمساعدة الأطفال الذين فاتتهم الدروس، وذلك باستخدام الأموال التي تلقتها كجزءٍ من برنامج تعليمي تداركي تقدمه الحكومة، لكن المدرسة تكافح من أجل العثور على معلمين لشغل الوظائف؛ لأن الزملاء المنهكين يتركون وظائفهم، حسبما تُفيد برايدون التي تضيف قائلةً: "نحن بحاجة إلى ما يزيد عن 10 معلمين بدلاء كل يوم، فقط من أجل ضمان استمرار المدرسة في العمل".

مشكلات عالمية

في أماكن أخرى من العالم، تبدو الصورة أكثر كآبة. فوفقًا لتقديرات منظمة اليونسكو، فإنه بحلول أبريل 2020، كان قد تأثر بإغلاق المدارس ما يزيد على 1.2 مليار طفل في منطقة آسيا والمحيط الهادئ المكتظةِ بالسكان. وفي حين لم تغلق المدارس أبوابها في اليابان وسنغافورة إلا لمدة شهر واحد أو نحو ذلك، شهدتْ مدارس بنجلاديش والفلبين أحد أسوأ جوانب عرقلة العملية التعليمية في العالم، وذلك بإغلاق المدارس إغلاقًا تامًا لفترة تزيد على 13 شهرًا.

وحتى قبل اندلاع جائحة «كوفيد-19»، كانت المنطقة تعاني أصلًا من أزمة تعلم، وفق ما تقوله ساكس-إزرائيل، نظرًا لأن الكثير من الأطفال لم يحققوا مستويات الكفاءة المتوقعة في المدرسة. وهناك ما يُقَدَّر بنحو 10 ملايين طفل في منطقة آسيا والمحيط الهادئ لن يعودوا إلى مدارسهم، كما أنه من المتوقع أن ترتفع حالات الزواج المبكر أو القسري، وعمالة الأطفال.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن التعليم الخاص الإضافي وحده ليس قادرًا على التصدي للمشكلة بالنظر إلى حجمها. فمع استمرار إغلاق العديد من المدارس، تكمن الأولوية القصوى البديهية، حسبما يقول المتخصصون في التعليم، في إعادة فتح الفصول الدراسية كي يتسنى للأطفال العودة — حتى وإن بدأت أعداد الحالات المصابة بمرض «كوفيد-19» في الصعود مرة أخرى. تقول ساكس-إزرائيل: إن المدارس يجب أن تكون مُرَحِّبة ومحفِّزة وآمنة، ويتعيَّن عليها التغلب على أي مخاوف قد تكون لدى الآباء والمعلمين والأطفال بشأن احتمالية التعرُّض لخطر الإصابة بالعدوى.

ووفقًا لتقرير صدر عام 2020عن مجموعة دولية تُسمى الهيئة الاستشارية العالمية لأدلة التعليم (GEEAP)، فإن أحد النُهُج التعليمية الفعَّالة من حيث التكلفة يتمثل في توجيه التدريس بما يتناسب مع مستوى تعلم الطفل وليس مرحلته العمرية. ويقول الباحثون التربويون إنه يتعين على المدارس أن تُجري تقييمًا لكل طالب عائد إلى المدرسة.

تلك هي الاستراتيجية التي يستند عليها برنامج يعتمد على الأدلة، أُطلق عليه «التدريس القائم على المستوى الصحيح». هذا البرنامج تديره منظمة «براثام» Pratham المهتمة بالتعلم في مدينة نيودلهي. تقول روكميني بانيرجي، الرئيسة التنفيذية لمنظمة «براثام»، إن المنظمة تعمل جنبًا إلى جنب مع العديد من حكومات الولايات في الهند وبلدان أخرى، وقد استرعى انتباهها أن الأطفال يحرزون تقدمًا في أساسيات القراءة والكتابة والحساب في غضون بضعة أسابيع فقط. تضيف بانيرجي قائلة: "نحن نشعر بأن هذا هو المطلوب حقًا في جميع أنحاء العالم".

التشكيك في الأدلة

"لا يقتصر الأمر على تعيين بعض الأشخاص، الذين يُسمون أنفسهم معلمين خصوصيين، ووضعهم في الغرفة مع بعض الأطفال؛ فكثير من المال يمكن أن يُهدَر بتلك الطريقة".

رغم ما يحظى به استخدام النهج التعليمي القائم على الأدلة من دعم كبير، ثمة عددٌ من الشواغل القائمة منذ وقت بعيد حول مدى موثوقية بعض هذه الأدلة. ففي عام 2019، فحص اثنان من الباحثين 141 تجربة ضخمة من نوعية التجارب المعشاة المنضبطة بتكليف من مؤسسة «إديوكيشن إنداومنت فاونديشن» والمركز الوطني الأمريكي للتقييم التربوي والمساعدة الإقليمية، وقد خلصَا إلى أن 40% من التجارب كانت غير مفيدة لأن آثارها كانت ضئيلة أو غير دقيقة4. يقول هوجو لورتي-فورجيه، الذي يدرس تعليم الرياضيات في جامعة لوفبورو بالمملكة المتحدة: "في بداية الأمر، لا تعرف ما إذا كان التدخل مجديًّا أم لا. وعند الانتهاء، نظل غير متأكدين مما إذا كان مجديًّا أم لا". قد يكون السبب وراء ذلك أن الأبحاث المبكرة الواعدة بشأن نَهْج من النُّهُج تَبَيَّن أنها مُضَلِلة، أو أنه كان من الصعب توسيع نطاق الطريقة وتطويرها، أو أن التجربة صُممتْ على نحوٍ سيئ، حسبما يقول.

لم تكن هذه مفاجأةً كبيرة للباحثين الذين يُجرون هذه النوعية من الدراسات. فكما أن معظم العقاقير الجديدة تُثبت عدم فاعليتها في التجارب الإكلينيكية الكبيرة، فإن معظم الأفكار النيّرة لتحسين التعلم لا تكون ذات تأثير كبير عندما تخضع للاختبار. وفي حين نجد في مجال الطب أن الأطباء يبدؤون بشخصٍ مريض، ويحاولون تحسين حالته الصحية بشكلٍ ملموس، نجد في مجال التعليم أن العديد من البلدان تبدأ بنظامٍ تعليمي سليم نوعًا ما، لذلك لن تحقق أيُّ طريقة جديدة سوى مكاسب هامشية على الأرجح. يقول ستيف هيجينز من جامعة دورهام بالمملكة المتحدة، الذي أشرف على جهود مؤسسة «إديوكيشن إنداومنت فاونديشن» فيما يتعلق بابتكار مجموعة الأدوات: "ربما يكون نوعًا من السذاجة أن يفترض المرء أن المعلمين لم يكتشفوا، بمرور الوقت، بعضَ النُهُج التي من المرجح أن تُثبت نجاحًا".

ومع توالي تدفق البيانات، ثمة بعض الاقتراحات التي تشير إلى أن تأثير إغلاق المدارس على تحصيل بعض الأطفال ربما يكون أضعف مما توحي به العديد من العناوين الرئيسية التي تحمل نذير شؤم — أو أن الطلاب قد يتعافون بسرعة. فعندما درس هاتي التأثيرات المترتبة على إغلاق المدارس في ولاية فيكتوريا الأسترالية، حيث أُغلِقَت المدارس (من بينها مدرسة برايدون) لفترات ممتدة، خلص إلى أنه من المثير للدهشة أن مسارات التعلم قد شهدتْ تراجعًا هامشيًا فحسب (انظر: go.nature.com/3mtxucq). وأحد الأسباب المحتملة وراء ذلك هو أن بعض الطلاب، الذين عملوا بمفردهم، استطاعوا أن يصيروا أكثر كفاءةً، مقارنةً بمستوى كفاءتهم في المدرسة. ويضيف شلايكر أن التكنولوجيا أصبحتْ أيضًا تحظى بقبولٍ أكبر، كما أن المعلمين سارعوا إلى دعم الأطفال اجتماعيًا وعاطفيًا، وزادتْ مشاركة الآباء في تعليم أطفالهم. وبالنظر إلى الآثار الإجمالية للجائحة على التعليم، يقول شلايكر: "استعراض الوضع يدل على وجود إيجابياتٍ وسلبيات".

وعلى المدى الأطول، فإنه من بين الطرق الرئيسية التي يتسنى من خلالها الاستعانة بالأبحاث في مجال التعليم على نحوٍ أكثر انتظامًا، أن تُدمَج هذه الأبحاث في تدريب المعلمين والتطوير المهني المستمر. ويأتي أحد النماذج من اليابان، حيث أجرى المعلمون على مدى عقود "دراسة الدرس". يُعد هذا النموذج شكلًا من أشكال البحث، حيث يضع المعلمون هدفًا - تحسين فهم الكسور مثلًا - ثم يكتبون خطة مُفَصَّلة للدرس، ويراقبون الدرس وهو يُشرَح للطلاب، ويناقشون ما تعلموه. وتعتمد المدارس على الأبحاث الخارجية، وفي كثير من الأحيان تستشير شخصًا أكاديميًا أثناء العملية. يصف توشياكيرا فوجي، اختصاصي تعليم الرياضيات بجامعة طوكيو جاكوجي، هذا النوع من التطوير المهني المستمر بأنه غير معتاد، ويقول إن المعلمين يحققون فهمًا عميقًا للمواد التعليمية "ولكن الأهم من ذلك أنهم يتعلمون كيف يتعلمون كمعلمين".

هذا، وتبدأ بلدان أخرى في دمج النهج القائم على الأدلة في تدريب المعلمين أيضًا، إذ تسعى مؤسسة «إديوكيشن إنداومنت فاونديشن» ومُختَبَر «سوما» بالتعاون مع جامعة ويست إنديز في منطقة كيف هيل بدولة باربادوس، لتدريب المعلمين على الممارسات المبنية على الأدلة، مثل تقديم تقييمات فعَّالة للطلاب. وبدءًا من العام الحالي، سيتعين على كل الطلاب، البالغ عددهم 650 طالبًا، الملتحقين ببرنامج الحصول على درجة الماجستير في مجال التعليم في كلية الدراسات العليا بجامعة هارفارد في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس، أن يتلقوا دورة تدريبية على النهج القائم على الأدلة، حسبما تقول كاري كوناواي، وهي محاضرة بارزة هناك. تضيف كوناواي قائلةً: "الفكرة من وراء ذلك هي أن يصبح لدينا جيلٌ من القادة يفهمون قيمة هذا النهج كجزء من عملية اتخاذ القرار".

من جانبها تقول برايدون إنها لم تتعلم شيئًا تقريبًا عن استخدام الأدلة البحثية أثناء تدريبها — "تستمع إلى عدد من المُنَظّرين الرئيسيين. هذا كل ما هنالك في الواقع". لكن برايدون تشارك حاليًا في «مشروع كيو»Q Project، أحد الجهود المبذولة في أستراليا لتحسين استخدام الأدلة في المدارس. وهي تعتقد أن ضيق الوقت يُمثل العائق الأكبر، إذ تقول: "نحن مشغولون للغاية، وعندما يتعين عليّ الاختيار ما بين تصحيح مقالات الصف الثاني عشر أو قراءة بعض الأدلة البحثية، أعرف أيهما سأختار في كل يوم من أيام الأسبوع".

لا تزال برايدون وزملاؤها يكافحون في الوقت الحالي من أجل مساعدة الأطفال على تعويض ما فاتهم من دروس ومهارات تعليمية، وذلك وسط مخاوف محتدمة من أن يتسبب المُتَحَوِّر التَّالي لفيروس كورونا في إغلاق المدارس من جديد. عندما اعتاد الناس أن يسألوا برايدون عن عملها، كانت تخبرهم بأن التدريس هو أعظم وظيفة في العالم. لكن الآن، وللمرة الأولى، أصبح لديها رد مختلف، إذ تقول لهم: "هناك بعض الجوانب التي أعشقها بحق في المهنة، لكن ثمة جوانب أخرى تجعل من الصعب الاضطلاع بمهامها".

اضف تعليق