تبدو الولايات المتحدة مقبلة على كارثة، وقد أصبحت الصورة واضحة للجميع، ما عدا ترامب، السلطات الصحية الأميركية توجّه من جانبها رسالة واضحة: الأسوأ قادم، وفي ظلّ عدم وجود علاج طبي، فإنّ الخيار الوحيد لهزم الفيروس هو الإبقاء على قيود مشدّدة قدر الإمكان على حركة التنقل...

بات أندرو كومو حاكم ولاية نيويورك، شخصية محورية في مكافحة وباء «كورونا» في الولايات المتحدة، متجاوزاً بذلك حدود ولايته، وكأنه صوت العقل الوحيد في تلك البلاد، إلى جانب مدير «المعهد الوطني للحساسية والأمراض المُعدية» أنتوني فاوتشي. على عكسهما، يبدو الرئيس دونالد ترامب متأرجحاً بين الدعوات إلى الوحدة الوطنية، وتغريدات انتقامية وحسابات انتخابية، فيما يوجّه رسائل ملتبسة أو حتى مبهمة، في بلاد تواجه انتشاراً سريعاً لوباء «كورونا»، ويُتوقع أن تصبح أكبر بؤرة لتفشي الفيروس في الأيام المقبلة.

يظهر الرجل كمن فقد صوابه، فهو من جهة يَصف عقاراً غير مثبت لعلاج وباء «كورونا»، بـ«هبة من الله»، ليكون سبباً في وفاة رجل في أريزونا بعد تناوله هذا العقار؛ ومن جهة أخرى، بات يتعامل مع الفيروس، وكأنه من الماضي!

ليل الإثنين، قال ترامب إن «أميركا ستكون جاهزة لعودة الأعمال قريباً جداً... في وقت أقرب بكثير من ثلاثة أو أربعة أشهر اقترحها شخص ما»، مضيفاً أنه «لا يمكننا أن ندع العلاج يكون أسوأ من المشكلة نفسها». ولكن، رفع التوصيات عن قانون «المسافة الاجتماعية»، بحلول الأسبوع المقبل، قد يواجه اعتراضاً من قبل مسؤولي الصحة العامة، الذين لم يبدوا أي إشارة إلى أن انتشار الفيروس بات تحت السيطرة. يأتي ذلك فيما يزداد الشرخ بين ترامب وفاوتشي، الذي لم يتواجد في المؤتمر الصحافي، يوم الاثنين، بعد معارضته «اللّبقة» لما طرحه الرئيس عن عقار «كلوروكوين».

تميّز فاوتشي، البالغ من العمر 79 عاماً، بعمله في مكافحة الكثير من الفيروسات، من الـ«إيدز» إلى الـ«إيبولا»، مع حرصه على تقديم معلومات موثوقة للعامة. وفي مواجهة مرض «كوفيد-19»، يتّبع المسار نفسه، حتى أنّه يناقض ما يقوله ترامب، الذي يميل إلى التقليل من خطورة الأزمة، أو إلى التعهّد بإيجاد حلّ سريع أمام مواطنيه المعزولين في منازلهم. وربطاً بهذا الموضوع، بدا لافتاً تصريح فاوتشي، حينما قال: «أتصرّف بحذر... أقول أموراً للرئيس لا يرغب في سماعها، وقد صرّحت علناً بأمور مختلفة عمّا أكّد هو». وفي حديث إلى صحيفة «نيويورك تايمز»، أضاف: «لا أريد أن أُحرجه... أريد فقط أن أقدّم الوقائع».

يتشارك هذا الاختصاصي في علم المناعة، ذو النبرة الهادئة، بشكل يومي تقريباً، مؤتمراً صحافياً مع ترامب، للتحدث عن عملية الاستجابة للأزمة. لكنّه لم يحضر مؤتمر الاثنين، على اعتبار أنه لم يكن مخصصاً للكلام عن مواجهة الوباء، بل عن إغلاق البلاد، الأمر الذي يبدو أنّ ترامب قد ملّ منه، إلى حدّ أنه بات يظهر توجّساً وخوفاً من تأثيره على اقتصاد الولايات المتحدة. وفي هذا الإطار، قال: «لو كان الأمر بيد الأطباء، لأغلقوا الكوكب بأكمله»، ليضيف: «هذه البلاد لم تُبن ليتمّ إغلاقها». يريد ترامب عودة الحياة الاقتصادية إلى ما كانت عليه، قبل انتشار الوباء. وهو بهذا، يعود إلى المربع الأول، فبعدما قلّل على مدى أسابيع من أهمية الخطر الصحّي الذي يشكله فيروس «كورونا»، ثمّ طرح نفسه كرئيس جامعٍ لبلد «في حالة حرب»، بات الآن يكثّف الرسائل غير الواضحة بشأن القيود المفروضة للحدّ من انتشار الوباء. وها هو اليوم، يعود إلى مقارنة عدد وفيات فيروس «كورونا» بالإنفلونزا، بل حتى بعدد قتلى حوادث السير، قائلاً: «هل نوقف السيارات بسبب حوادث السير؟». لا أحد يعلم كيف سيعيد ترامب بلاده إلى ما كانت عليه، بينما يبدو أنه يميل إلى إرساء خطّة «مناعة جماعية»، «مقنّعة». بمعنى آخر، يتصوّر الرئيس الأميركي أنّه إذا قال إن هناك دواءً وقد «يغير قواعد اللعبة»، وأجهزة التنفس الاصطناعي يجري تصنيعها بالآلاف (رغم أنّ حاكم نيويورك بُح صوته من ترداد حاجة ولايته للآلاف منها)، فإنّ كل ذلك مجتمعاً سيساعد على أن يبيع مواطنيه وهماً مفاده أنّ «الوضع بات مستقراً»، بهدف انتظام الاقتصاد وعودة بورصة وول ستريت إلى سابق عهدها.

تلهّف ترامب يواجه مشكلة أخرى، تتمثّل في شخص حاكم نيويورك الذي أبدى تشكيكاً بمقاربة الرئيس الأخيرة. وإذ قال أمس: «أنا مدرك تماماً أنه لا يمكن إدارة هذه الولاية، أو هذه البلاد باقتصاد منغلق لفترة طويلة»، تساءل: «هل هناك استراتيجية صحة عامة تعطي نتائج أفضل، وتكون أقل تدميراً للاقتصاد؟».

حتى الآن، يواصل ترامب أسلوبه في التصرف الأحادي، متحدثاً بشكل شبه يومي عن فرضية اكتشاف علاج في وقت قريب، «يغير المعطيات» بدون دقة علمية. وفي مواجهة هذه الأزمة الصحية غير المسبوقة في التاريخ السياسي الحديث، يُطرح تساؤل عمّا إذا كان الرئيس قد فكّر في طلب رأي أسلافه، كما فعلوا هم أنفسهم حين شهدت البلاد كوارث طبيعية رهيبة؟ يقول ديفيد اكسلرود، المستشار السابق للرئيس باراك أوباما، إنّ المماطلة التي تشهدها أميركا، يوماً بعد يوماً، تحمل تساؤلات كبيرة عن أكبر قوة في العالم، والتحدّي الذي تواجهه في ظل هذا السلوك الرئاسي.

بالنتيجة، تبدو الولايات المتحدة مقبلة على كارثة، وقد أصبحت الصورة واضحة للجميع، ما عدا ترامب. السلطات الصحية الأميركية توجّه من جانبها رسالة واضحة: الأسوأ قادم، وفي ظلّ عدم وجود علاج طبي، فإنّ الخيار الوحيد لهزم الفيروس هو الإبقاء على قيود مشدّدة قدر الإمكان على حركة التنقل. وقد وصل الأمر بمسؤول قطاع الصحة العام، جيروم آدامز، إلى أن يحذر، في حديث إلى شبكة «ان بي سي»، بالقول: «أريد أن تفهم أميركا: في هذا الأسبوع الوضع سيتفاقم».

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق