q

يحنّ الغرب كثيرا الى ماضيه الاستعماري.. تلك الجملة ليست في وارد ذم الغرب او التهجم عليه والانتقاص منه.. انها حقيقة، يسندها اكثر من دليل.. اذا لم يكف ما يحدث في الراهن العربي او الاسيوي او الافريقي، فهناك اكثر من مثال اخر لهذا الحنين، ولا يشترط ان يكون تدخلات سياسية او عسكرية، يمكن ان يكون ايضا تدخلات اقتصادية وثقافية، لما تمتلكه من تأثيرات اكبر على تلك البلدان موضوع الحنين.

الى ماذا يحنّ الشرق؟ واقصد به تحديدا الشرق المسلم والعربي بتنوعه الجغرافي اسيويا وافريقيا؟ ولأكون اكثر دقة، اقصد به تلك البلدان التي قامت بها انتفاضات وثورات اطلقت عليها تسمية الربيع العربي؟

حتى الان جميع تلك التجارب، وانتكاساتها تشير الى حنين مرضي الى زمن الاستبداد، توابعه وزوابعه، فهي اذ ثارت في لحظة من افتراق الطرق، نشدت ان تحصل على الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، لكن ما نشدته وانتفضت لأجله، تكرس استبدادا جديدا، اخذ صيغة متأسلمة من السياسة والثقافة والاقتصاد، اعمل معول هدمه في نسيج المجتمعات تلك، او عاد بصيغة عسكريتارية تذكر باللحظات الاولى لرومانسية الانقلابات العسكرية او الثورات التي قادها ضباط احرار في اكثر من بلد عربي.

والمفارقة في تلك الثورات، انها اذ اشاحت بوجهها عن تطلعاتها تحت ضجيج ما استجد من ظهور اعداء مفترضين او متوهمين، كانت تستعير نفس الاقنعة والشعارات في الوقوف بحزم ضد التغيير الذي انطلقت اليه.

لكنه تغيير في الشكل والوجوه، استبدال وجوه سياسية بأخرى، سرعان ما يظهر باطنها الاستبدادي والذي حاولت اخفاءه في لحظة الهيجان الثوري.

الثورات تأكل ابناءها. ولعلها اكلتهم منذ سبارتاكوس قائد ثورة الرقيق ضد الامبراطورية الرومانية..

كتب عنه الشاعر أمل دنقل قصيدة اسمها "كلمات سبارتكوس الأخيرة" يقول فيها:-

معلّق أنا على مشانق الصباح

وجبهتي–بالموت–محنيّة

لأنّني لم أحنها.. حيّه!

يا اخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين

منحدرين في نهاية المساء

في شارع الاسكندر الأكبر:

لا تخجلوا.. ولترفعوا عيونكم إليّ

لأنّكم معلقون جانبي.. على مشانق القيصر

فلترفعوا عيونكم إليّ

لربّما.. إذا التقت عيونكم بالموت في عينيّ

يبتسم الفناء داخلي.. لأنّكم رفعتم رأسكم.. مرّه!

وليس ثمّ من مفر

لا تحلموا بعالم سعيد

فخلف كلّ قيصر يموت: قيصر جديد!

وخلف كلّ ثائر يموت: أحزان بلا جدوى..

ودمعة سدى!

إنّي تركت زوجتي بلا وداع

وإن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها.. بلا ذراع

فعلّموه الانحناء..

علّموه الانحناء..

علّموه الانحناء..

ربما سبارتاكوس وثورته بعيد في الماضي السحيق، ولا يصلح مثالا.. ماذا عن الثورة الفرنسية؟ لقد اكلت ابناءها هي الاخرى، وكان طباخ تلك المأكلة روبسبير وجماعته برومانسيتهم الثورية المتقدة..

صحيح ان الثورة الفرنسية استدارت الى نفسها بعد ان تمرغت في الوحول الثورية مدة طويلة، ولا اتحدث عن ذلك، بل الحديث هو لحظة التفجر والاندلاع والقيام والنهوض.

ماذا عن مثل اخر لصيق بنا وله تأثيره الممتد عبر امتداد الاقواس الطائفية في الاذهان وفي الواقع المخاتل لأيديولوجيا التديّن السياسي؟

هل تصلح الثورة الايرانية نموذجا ومثلا؟ والتي اشترك فيها جميع الايرانيين من اقصى اليسار الفكري الى اقصى اليمين، لتستحيل في لحظة الى ثورة تصادر تضحيات الجميع وتحاول صبغ الواقع بصبغة اسلاموية توجتها بنموذج سلطوي مستبد هو ولاية الفقيه، حيث الولي الفقيه حل مكان الشاه واستعار صولجانه وتاجه..

ماذا عن انتفاضات وثورات تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن، هل تكفي مثالا ونموذجا لهذا الحنين الى ماض ليس من التاريخ، كي نقول عنه او نصفه بانه "مرض التاريخ" فهي لازالت حاضرا امامنا ومستقبلا اراه موجودا حتى في الافق البعيد.

كيف يمكن تفسير هذا النكوص ما قبل الحلم المغدور؟ هل هي يقظة فجّة وشديدة الوطأة على واقع لم يكن في الحسبان، افرزته تلك الثورات ولم تكن تحسب حسابا للحظة الاسترخاء الثوري؟ ام هي جيناتنا الثقافية التي لا تستطيع ان تتغلب على نقل صفات الاستعباد للزعيم او القائد المستبد، ومنح تلك الجينات طفرتها الوراثية نحو قيم الحرية والعدالة والمساواة؟

يبدو هذا الاستعصاء مستحيلا على التفسير.

هل يمكن الاستدلال على مصير الثورات بثورة 25 يناير المصرية؟، ما الذي حدث بعد خمس سنوات على اندلاعها وازالة مبارك ونظامه من سدة الحكم؟

التعذيب والفساد وغياب العدالة الاجتماعية، أخطر ثلاث أسباب أدت إلى اندلاع ثورة يناير، وبعد مرور خمس سنوات، تفاقمت أكثر، وزاد عليها جريمة الاختفاء القسري. ماذا يقول الناشط السياسي محمود عفيفي عن تلك الثورة؟

هناك حالة قتل عمد للسياسة منذ تولي نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم، يحرص النظام على الموت البطيء للحياة السياسة من خلال استخدامه للتنكيل بالشباب والقمع، وكذلك استمالة معظم الأحزاب من خلال الأجهزة الأمنية، لتتحول إلى أداة هشة تنفذ تعليماته فقط. كما كانت أيام مبارك. وبالتالي تم غلق المجال العام تماما من قبل النظام أمام كل الممارسات السياسية. كما أن الأحوال الاجتماعية صعبة جدًا، فمعاناة الشعب المصري تزداد في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار، وعدم قدرة الحكومة على السيطرة على أسعار السوق، فضلا على غياب العدالة الاجتماعية، التي تعتبر أحد أهم أهداف ثورة يناير.

هل تؤدي المقدمات نفسها إلى النتائج نفسها؟ المراقبون والسياسيون، بل وشباب الثورة أنفسهم، لا يتوقعون اندلاع ثورة جديدة ضد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على الرغم من أن الأجواء تماثل التي سبقت اندلاع ثورة 25 يناير قبل خمسة أعوام.

 الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة وأحد رموز ثورة 25 يناير، توقع أن يشهد 2016 توغل الفلول في الحياة السياسية وسيزدادون قوة، "فمصر أخرجت أسوأ ما فيها لتطرحه على السطح، وما هو موجود على السطح الآن يتناقض تماما مع مصر بعد 25 يناير، وهناك إحساس بأن في مصر شبابا يأخذ هذا البلد إلى الامام خطوات، لكن هذا الأمل تراجع".

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق