مكمن الخلل في مشاريعنا يكمن في الجمود على أفكار ونظريات تصبح بمرور الوقت “مقدسات” لا يجوز الاقتراب منها أو تعديلها، رغم أنها – في جوهرها – ليست سوى مبادئ عامة قابلة للتكييف والتطوير. أجواؤنا الفكرية والسياسية تعاني من تكلس شديد، يستثمره المغامرون والمتسلقون والطامحون، دون أن يأبهوا للأثمان الباهظة التي تدفعها الجماهير...
أطلقت التسجيلات المسرّبة لأحاديث الزعيم المصري جمال عبد الناصر موجة من الأسئلة والأفكار في الشارع العربي، لم يكن توقيت التسريب عبثيًا، بل حمل دلالات مثيرة، والأسئلة التي أثيرت لم تكن لتظهر لولا أن الأمة لا تزال تعيش أزماتها المتراكمة، ومعاركها الخاسرة، وتضحياتها الجسيمة.
كان عبد الناصر يتحدث إلى “زعماء” عرب فرّقتهم الأيديولوجيات وجمعتهم السلطة. سلوكهم كان صدى لأفكار أحزابهم ورؤاهم، بين يسار ثوري تقدمي ويمين محافظ. هذا التباين جعلهم يختلفون في تقديراتهم للمخاطر وكيفية إدارة الصراع مع العدو الإسرائيلي.
قاد عبد الناصر المشروع القومي العربي، وكانت جماهير العرب من المحيط إلى الخليج تصفق له، متأملة فيه حلم الوحدة، واسترجاع فلسطين، ومواجهة الاستعمار والإمبريالية، وتحقيق النهوض الاقتصادي، عبر الإعلام والتثقيف اليومي والخطاب السياسي الحار.
خاض عبد الناصر معارك عديدة، وانتهج سياسات داخلية وخارجية فشل في معظمها، مأخوذًا بحجم التأييد الشعبي والدعم الجماهيري. كان الجمهور العروبي القومي الحماسي سلاحه الأخطر في مواجهة خصومه ومنافسيه. لكنه اكتشف – متأخرًا – وبعد سلسلة من النكسات والانكسارات، أنه أصبح أسيرًا لشعاراته، وضحية لثقافة قام هو نفسه بترويجها. لقد صار يخشى الشارع، ويهاب مواجهته بالحقائق، خشية أن يُتهم بالتراجع أو الخداع.
فرضت الوقائع نفسها على الأرض، وكان لاختلال ميزان القوى، والشعور بالفارق التقني، وضعف التحالفات، أثر كبير في دفع كثير من القادة إلى تغيير مواقفهم في اللحظات الحرجة والمصيرية.
المشكلة لا تكمن في تراجع القادة عن شعاراتهم أو نظرياتهم، فهذا أمر طبيعي في منتصف الطريق أو نهايته. الصعوبة تظهر حين تتحول تلك الشعارات إلى “أقانيم” لا يجوز المساس بها، بعد أن ترسّخت في الوعي والثقافة اليومية. وحين تعجز الأحزاب والزعامات والقواعد عن الاستجابة للواقع، فإنها تظل تدور في حلبة الحلم، دون قدرة على تجسيده فعليًا.
عبد الناصر، حين اصطدم بالواقع المأساوي، غيّر قناعاته، لكنه لم يكن قادرًا على تجرّع “السمّ” علنًا ومخاطبة الجماهير بصراحة. ولو لم تتسرّب التسجيلات، لما عرف الناس وجهه الآخر. فعبد الناصر قبل الهزيمة ليس هو نفسه بعدها. الواقعية السياسية فرضت نفسها عليه، لا العمر والتجربة كما يُقال تبريرًا، فكثير من الزعماء يتمسكون بأفكارهم حتى بعد أن يطول بهم العمر. لكن حين يكون المشروع أو الحلم أو “الجماعة المتخيلة” عصيًا على التحقق، ويستلزم تضحيات جسيمة، يكون بعض القادة مستعدين للتراجع أو تقديم بدائل، حفاظًا على مصالح كبرى وتفاديًا لخسائر أفدح.
ما يعيق هذه التحولات هو الخوف من الجماهير، أو من ذلك الجزء منها الذي اعتاد التفكير بسقوف مثالية عالية، حتى صار من يتحدث عن “النزول من أعالي الأشجار” وتغليب العقل المقاصدي، متهمًا بالاستسلام أو الخيانة أو الجبن. وهذه هي جوهر المشكلة في المجتمعات المأزومة، والثقافات الحادة، والهويات الحزبية المتصلبة.
هناك أسئلة ممنوع طرحها في البيئات المغلقة أو شبه المغلقة، لأن هناك من هو مستعد لقمع أي صوت مخالف وطمس التفكير النقدي. “الأسئلة الممنوعة” هي تلك التي تحاكم الأفكار والمواقف والسياسات، سواء كانت واقعية أو مثالية، وتحاول نبش الجذور النفسية التي أنتجت تلك المواقف، ومدى صلتها بنمط الشخصية التي تتبناها وتُصر عليها.
لنمط الشخصية دور محوري في تحقيق الانتصارات أو التسبب بالهزائم. وتوفر القدرات، وحُسن التعامل مع المعلومات، والقدرة على قراءة المتغيرات، كلها أدوات في يد القادة لكسب المعارك واستغلال الفرص وتحقيق النجاحات.
مكمن الخلل في مشاريعنا يكمن في الجمود على أفكار ونظريات تصبح بمرور الوقت “مقدسات” لا يجوز الاقتراب منها أو تعديلها، رغم أنها – في جوهرها – ليست سوى مبادئ عامة قابلة للتكييف والتطوير. أجواؤنا الفكرية والسياسية تعاني من تكلس شديد، يستثمره المغامرون والمتسلقون والطامحون، دون أن يأبهوا للأثمان الباهظة التي تدفعها الجماهير، بلا قرار منها ولا إرادة.
اضف تعليق