الفكر مرآة صافية

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

ثقافة الطلب مهمة في حلقات العمل المختلفة، الرئاسة والإدارة والمكانة الاجتماعية وسواها، كل صاحب شأن وصاحب سلطة وأمر، لابد له أن يفهم منهج النبوة التربوي هذا، ويلتزم بثقافة الطلب ويشجع عليه، وينشره بين الحلقات المختلفة، لكي يكون منهجا تربويا يزيد من قوة ومتانة العلاقات الاجتماعية...

(الإنسان الذي يفكّر قبل أن يتكلّم لا يندم)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

تمتلك الأمم الناجحة رصيدا تربويا كبيرا، وتعتمد في حياتها على كنوز سلوكية تدعمها قواعد وضوابط في غاية الجمال تحقيقا للإنسانية العالية، لذلك نلاحظ أن المجتمع أو الأمة التي تُسعَد في حياتها، تعتمد على ركيزة التعاون والمحبة بين أفرادها، فيسود الحب والمودّة والتقارب بين مكوناتها وأفرادها، بغض النظر عن الوجاهة أو الثراء أو المراكز العليا مثل الرؤساء والمدراء والمسؤولين الكبار، ومن أروع ما حثَّ عليه الإسلام أن يحبب (الرئيس أو رب الأسرة أو المسؤول أو المدير) نفسه لموظفيه.

فإذا كان المدير أو رئيس المؤسسة أو سواها من التشكيلات الإدارية والإنتاجية، متواضعا مع مرؤوسيه وكاسرا للحدود معهم، فإنه بذلك يشجعهم على التقرّب منه، ومن ثم يطلبون منه ما يحتاجونه، وبهذا يكون المدير أو المسؤول الأعلى هو أول من يكسر الحواجز أمام العاملين معه، فلا يخجلون منه، ولا يترددون بطلب ما يحتاجونه، لأنه سمح لهم بردم الفجوة بينهم وبينه، فيطلبون ما يحتاجون منه دون تردد أو خوف أو خجل.

هذا السلوك حثَّ عليه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وتعامل به مع جميع الناس الذين عملوا معه في شتى المجالات، وهذا يعني أن جميع المسلمين المؤمنين يجب عليهم أن يسيروا وفق ما سار عليه النبي وأحفاده من الأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام، لذا ينبغي أن يكون الإنسان ودودا متواضعا وكلما ارتفع منصبه ومكانته الإدارية والاجتماعية، يزداد ودًّا وتقاربا من عموم الناس لاسيما العاملين معه من موقع أدنى.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يقول في سلسلة نبراس المعرفة: محاضرة (الألفة بين المؤمنين):

(على الإنسان أن يكون متآلفاً ودوداً مع كل شخص يعيش معه ومن هم أدنى منه، من مدرّس وصاحب عمل وزوج ورئيس، ‌ويجب أن يُعمل بهذا المنهج التربوي في كافّة المجالات، ومنها المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وهذه المجالات تُعدّ جزءاً صغيراً من جزئيات كبيرة للتلاحم والتحابّ بين الناس).

إذن نحن نقف أمام منهج تربوي يجب أن نهضمه جيدا، والأهم بعد ذلك أن نعمل به، حتى يكون هذا المنهج ضمانا لنا في صنع مجتمع ناجح وأمة متميزة، لهذا ينبغي على كل من يتبوّأ منصبا كبيرا ويكون تحت أمرته بشر يعملون معه، أن يشجعهم على ثقافة الطلب، وأن لا يردّ بالسلب بل عليه أن يتأنى كثيرا ويفكر بالإجابة المناسبة لكي لا يندم بعد ذلك.

ثقافة الطلب بين السائل والمسؤول

المطلوب من المسؤول، المدير، الرئيس، المعلم أو سوى ذلك من المناصب، أن يشجع العاملين معه وموظفيه على ثقافة الطلب، وأن يكون بشوش الوجه، ويتعامل معهم وكأنهم أخوة لهم أو أبناء، ويُشعرهم بأنهم قريبون منه، ولا حواجز بينه وبينهم، حتى لا يشعر صاحب الطلب بالحرج من مديره أو رئيسه أو معلمه، فقد يمنعهم خجلهم من الطلب، بل قد يكون المحتاج لا يفكر أصلا بالطلب من مديره تحسبا أو خوفا أو تردّدا. 

لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(ينبغي للمدير والرئيس وصاحب المنزلة والمقام أن يحثّ من هم دونه مرتبة والذين تحت أمرته على ثقافة الطلب، وأن يدعوهم إلى ذلك الطلب، فلعلّ الأشخاص الذين يعملون أو يدرسون تحت أمرته يمنعهم حياؤهم من تقديم الطلب، أو يكونوا غير منتبهين له، أو ليست لديهم الشجاعة الكافية في التقدّم به، أو أسباب أخرى متعدّدة).

وكلما أشعرَ صاحب الوجاهة أو المدير أو الرئيس مرؤوسيه بأنه ليس متعاليا عليهم، ولا حواجز بينه وبينهم، فإنه بهذا السلوك الصحيح يشجعهم على الطلب، ويكسر طوق الخجل والتردد ويجعلهم يطلبون ما يحتاجونه بالفعل، ولا يختلقون طلبات غير واقعية أو ليست صحيحة، وحتى لو شعر المدير بأن هذا الطلب أو ذاك مبالَغ به، أو خارج قدرته على تحقيقه، فينبغي أن يكون الرد متأنيا وليس متسرعا، فالتسرع في رد الطلب قد يوقع المدير أو المسؤول في حالة ندم كبيرة.

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يؤكد هذه الحقيقة السلوكية فيقول:

إنّ تعامل المسؤول الأعلى مع الأدنى (بتلك الطريقة - المحبّبة- تمنح الأشخاص الأدنى القدرة على الطلب، وخاصة الذين تعتريهم حالة الخجل والذين هم غير ملتفتين ولا يحبّون إحراج مديرهم أو رئيسهم بطلباتهم فيمتنعون عن ذلك، لكن ذلك المدير أو الرئيس أو صاحب الوجاهة أو المتمكّن ماليا يُقدم على تشجيع الآخرين للطلب منه فيتحقّق الأمر بزوال حاجز الخوف أو الخجل).

حتى من الناحية الشرعية من مهمات المؤمنين أن يشجعوا بعضهم على طلب الحاجة، فهذا المنهج التربوي السلوكي يقوي علاقة المحبة والمودّة فيما بينهم، لذلك من المهم أن يبادر المؤمن بأن يبدي استعداده لمعاونة أخيه ومساعدته على تحقيق ما يحتاجه وتلبية طلباته التي يتمكن من مساعدته فيها، فهذا المنهج يجعل من العلاقات المجتمعية في غاية المتانة والقوة، ويزيد من حالات التواصل والتقارب والتكافل بأروع الصور.

التفكّر حصانة الإنسان من الندم 

وهذا المنهج السلوكي التعاوني يمثل سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وآله، وهو مطلب شرعي، وقد تم بناء الأمة الإسلامية وفق هذا المنهج، وتعلم الناس ذلك وتعاملوا به مع بعضهم ليصبحوا في طليعة المجتمعات والأمم آنذاك، فحريّ بنا اليوم أن نطبق هذا المنهج التربوي المتفرّد بمدخلاته ومخرجاته التي تقود الأمة والمجتمع إلى النتائج التي تليق بالناس الذين يكسرون الحواجز الفاصلة بين الرئيس والمرؤوس وبين المدير ومن يعمل تحت إدارته.

أما حين نتساءل لماذا نعمل بهذا المنهج، فإن الذين عملوا به قبلنا هم من المعصومين، وهم حجج علينا جميعا، لذلك كل فرد منا ملزم بتطبيق هذا المنهج، حتى نقطف ثمار هذا السلوك التربوي الكبير، وكم هو رائع وجميل ومهم أن يكون المدير محبوبا من موظفيه، والرئيس مقربا من مرؤوسيه والمعلم مبجلا من تلاميذه، وهكذا يمتد هذا المنهج التربوي إلى رب الأسرة، وإلى أرباب العمل من دون استثناء، لنحقق أقصى درجات التماسك والتحاب بين أفراد المجتمع.

يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(المطلوب شرعاً أن يتلاحم الأفراد وتكون بينهم ألفة ومحبّة، ومن مقدّمات التلاحم والألفة بشتى أنواعها وصورها بين المؤمنين هو دعوة‌ بعضهم بعضاً إلى المطالبة بحاجاتهم، باعتبار أنّ ذلك سنّة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله، وكل عمل من أعمال المعصوم حجّة وسنّة علينا نحن كمسلمين).

لذا مطلوب من الرئيس والمدير والمسؤول ورب الأسرة أن يشجع على ثقافة الطلب، ويساعد على نشرها بين الناس، وأن يفكر كثيرا قبل أن يرد الطلب، لأن التفكير المتأني يمنح حصانة للإنسان ضد الندم الذي ينتج عن التسرع في عدم تلبية طلبات الناس لاسيما تلك المهمة التي تتعلق بحاجات وطلبات لا يمكن تأجيلها.

وكما يقول العقلاء وأصحاب الحكمة العالية، (كل إنسان يفكر قبل أن يتكلم لا يندم)، لهذا إياك والتسرع في الكلام والإجابة التي لم تكن واثقا من صحّتها، لأن الذي يطلب منك قد لا يكرر طلبه مرة أخرى بدافع الكرامة والخجل، وقد يكون طلبه غير قابل للتأجيل بسبب الحاجة الملحّة، لذا فإن جميع المدراء والرؤساء والمسؤولين وأصحاب الوجاهة، مطالَبون بالتأني في ردّ الطلب حتى لا يطالهم الندم عمّا فعلوه.

كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي متأملا: 

(الفكر مرآة صافية، وعلى الانسان أن يتأمّل في جوابه وأن لا يسرع فيه وخاصّة في الامور المهمة. فالإنسان الذي يفكّر قبل أن يتكلّم لا يندم، والنادمون هم الذين يتكلّمون بسرعة ومن دون تفكير، ثم سرعان ما يندمون على قولهم).

خلاصة ما مرّ في أعلاه، ثقافة الطلب مهمة في حلقات العمل المختلفة، الرئاسة والإدارة والمكانة الاجتماعية وسواها، كل صاحب شأن وصاحب سلطة وأمر، لابد له أن يفهم منهج النبوة التربوي هذا، ويلتزم بثقافة الطلب ويشجع عليه، وينشره بين الحلقات المختلفة، لكي يكون منهجا تربويا يزيد من قوة ومتانة العلاقات الاجتماعية، ومن ثم بناء المجتمع والأمة بأفضل ما يمكن لاسيما أننا نقف أمام تجربة نبوية تم تطبيقها في الأمة وأثبتت نجاحها الكبير.

اضف تعليق