القلب يتقبّل كل ما هو جيد من الأشياء، ويمكن لصاحبه أيضا أن يملأه بالمساوئ، وهنا سوف يكون قلبا شريرا قاسيا يحوّل صاحبه إلى وحش يلهث وراء مكاسب الدنيا المغرية، ويهمل المكاسب الصالحة فيخلو قلبه منها، لذا يجب أن يسعى الإنسان لكسب الفضائل ويدخلها في قلبه حتى يكون سليما نظيفا...
(القلب السليم هو القلب الطاهر الذي يحقّق السعادة للإنسان في دنياه وآخرته)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
القلب من الناحية البيولوجية، هو أحد أهم أعضاء الجسم البشري، وهو المضخة التي تجعل الإنسان على قيد الحياة طالما كانت تنبض وتعمل دونما توقّف، فالجسم يتحرك ويتنقل وينتج وينشط وينام أيضا، ولكن في جميع هذه الحركات والسكنات يبقى القلب آلة لا تتوقف عن العمل، دونما كلل أو ملل، فتقدّم الحياة للجسد على طبق من ذهب.
فهل نكتفي بهذا الوصف المهني العملي للقلب، أم هناك توصيفات مهمة أخرى يجب أن ننصف بها هذا (الكيان) العضوي الذي حيّر العلماء وعامة الناس معا، فهذا القلب له مهام أخرى (ليست واقعية ولا مرئية)، إنه نبع المشاعر المختلفة للإنسان، كما أن بعض المهتمين والخطباء والمحاضرين، وصفوا القلب بأنه وعاء تتجمع فيه الأشياء الجيدة والسيئة معا.
وهذه الصفة الأخيرة للقلب تجعل منه متحكما بالإنسان، فيكون جيدا إذا كان قلبه نقيا نظيفا، ويكون عكس ذلك إذا كان هذا الوعاء مرتعا للأشياء الضارة السيئة، وهنا يسمى هذا القلب بالقلب غير السليم، وفي هذه الحالة يكون قلب الإنسان عبئا عليه، ليس هذا فحسب وإنما يجلب عليه الويلات من كل حدب وصوب، فالإنسان حين يكون قلبه ملوَّثا سوف ينتمي إلى الفئة التي تلوّث الحياة وتدمر البشرية ومنجزاتها، بل وتسيء حتى للآخرة.
هذا النوع من القلوب غير النظيفة، تكون حصّته من السعادة صفرًا، وبالتالي فإن صاحب هذا القلب يعيش حياته تعيسا إلى آخر لحظة، وعندما يموت تنتقل التعاسة معه فتكون آخرته بلا سعادة أيضا، وهو ما يسمى بالقلب غير السليم، لذلك إذا أراد هذا القلب أن يكون سليما عليه أن يحسّن علاقته بالبيئة الاجتماعية التي يتواجد فيها.
أما كيف يمكن تحقيق هذا الهدف، فإن هذا الأمر ليس سهلا، ولا مباحا لكل من هبَّ ودب، وإنما عليه أن يسعى للعيش في مجتمع صالح، وهذا يعني أنه يجب أن يشارك في صنع المجتمع الصالح المتمسك بالقيم الجيدة، والمجتمع الصالح هو حصيلة حتمية لمجموعة العلاقات والقلوب النظيفة التي تعيش فيه وتتعايش مع بعضها في انسجام ونقاء و وئام.
القلب وعاء الصالحات والسيئات
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله)، يقول في سلسلة محاضراته القيمة نبراس المعرفة، القلب السليم:
(إذا أراد القلب أن يكون سليماً، فمن الممكن أن يتحقّق ذلك من خلال العلاقة بينه وبين مجتمعه الذي يعيش فيه، فإذا كان المجتمع صالحاً وجذوره نظيفة، سوف يتأثّر الإنسان بهذا المجتمع ويأخذ منه العادات والسجايا الحميدة فيكون قلبه طاهراً سليماً).
من المزايا المتوفرة للإنسان، إن فرصة اكتساب سلامة القلب متوفرة له، وهذا يتطلب سعيا كبيرا منه لتحقيق هذا الهدف، فالقلب لا يمكن أن يكون سليما من الفراغ، وإنما يجب على حامله أن يملأ هذا القلب بالطيبات الصالحات من المواقف والتصورات، وهذا يمكن أن يجري في إصرار الإنسان على اكتساب ما هو جيد من المجتمع والبيئة وزجّهِ في قلبه.
القلب يتقبّل كل ما هو جيد من الأشياء، ويمكن لصاحبه أيضا أن يملأه بالمساوئ، وهنا سوف يكون قلبا شريرا قاسيا يحوّل صاحبه إلى وحش يلهث وراء مكاسب الدنيا المغرية، ويهمل المكاسب الصالحة فيخلو قلبه منها، لذا يجب أن يسعى الإنسان لكسب الفضائل ويدخلها في قلبه حتى يكون سليما نظيفا.
يقول سماحة المرجع الشيرازي:
(إن الاكتساب أمر ذاتي يعود إلى اختيار الإنسان وعزمه على أن يكون قلبه سليماً وقادراً على تربية نفسه بنفسه، فالإنسان إذا عزم على الحصول على هذه الفضيلة المهمة فإنه سيوفق بمقدار سعيه إلى الوصول للقلب السليم)
من الغايات المصيرية للإنسان أن يملأ قلبه بالسعادة، وهذه القضية على الرغم من صعوبة تحقيقها، إلا أنها ممكنة لمن يمتلك الإرادة والإصرار والإيمان، فسعادة قلب الإنسان تنعكس عليه وعلى حياته، ليس هذا فحسب، وإنما كل الذين يعيشون بالقرب منه سوف يكونوا سعداء أيضا، مثال ذلك الأب الصالح السعيد ما أن يدخل بيته حتى تنتشر السعادة في قلوب عائلته كلها، أو صديق صالح ما أن يتواجد مع أصدقائه حتى ينقل لهم سعادته كلها.
فالسعيد يسعد الآخرين، والتعيس يتعس الآخرين، هذه معادلة واضحة المعالم، وعلى كل إنسان أن يلتزم بتطبيق الجيد منها، بمعنى من الأفضل له أن يكون سعيدا ويسعد الآخرين الذين يهمونه، ولكن الخطوة الأهم كيف يكون سعيدا حتى يسعد الآخرين، هذا ما يجب أن يعمل عليه الإنسان من خلال صناعة القلب السعيد الذي لا يمكن أن يُملَأ بالسعادة إلا عندما يكون قلبه نظيفا نقيًّا خاليا من شوائب الدنيا، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالسعادة الحقيقية سوف تنتقل مع الإنسان إلى آخرته أيضا.
نماذج الحصول على السعادة
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: (إن الإنسان الذي يحمل قلباً سليماً وطاهراً وبأي نسبة كانت، فإنه سيعيش بمقدار ذلك سعيداً في الدنيا بل ويُسعِد من هم يعيشون حوله، وستكون هذه السعادة سبباً لسعادة آخرته وسعادة من يتأثّر به).
بالطبع هنالك حاجة قصوى للنموذج الذي يمكن أن يساعد الناس على أن يبلغوا مرتبة السعادة التي يطمح بها كل إنسان، ومن أعظم هذه النماذج الرسول صلى الله عليه وآله، والعترة الأطهار، والعلماء الأفاضل، هؤلاء يمكن أن يكونوا النماذج التي يستفيد منها كل إنسان لاستحصال السعادة بعد أن يدرس سيرتهم وحياتهم جيدا.
لكي تنعكس عليه مواقفهم وإيمانهم وتجاربهم وسعادتهم، فليس هنا أكثر سعادة من رسول الله صلى الله عليه وآله، لأن قلبه هو الوعاء الذي امتلأ بالنقاء حتى أقصاه، وهذا هو السبب الذي جعل من السعادة ترافق الرسول وتعيش معه، وهذا هو السبب الذي جعل من كل الناس القريبين من الرسول صلى الله عليه وآله سعداء في حياتهم.
حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(رسول الله وعترته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين وكذلك الأتقياء من العلماء الماضين هم نماذج يمكن للإنسان أن يتأسى بهم ويستفيد منهم في هذا المجال).
لقد كانت مقدرة النبي صلى الله عليه وآله في التعامل مع محيطه هائلة، وقد ذكرنا من السيرة المعطرة بالدروس النبيلة، كيف كان نبينا يتعامل مع جوقات المنافقين والمشركين الذين يكنّون له العداء والكراهية، فهو لم يكره هؤلاء لأن قلبه غير قادر على الكراهية، بل أخذهم بالرفق والحكمة والصبر والتأني واستمال قلوب الكثير منهم.
وهذا درس لمن يرغب أن يتعلم كيف يكتسب السعادة وكيف يسعد بها نفسه ومحيطه وأصدقائه ويؤثر فيهم، لكي يكونوا سعداء وتصبح دائرة السعادة أوسع ما يمكن لتشمل الجميع في الدنيا والآخرة.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(لينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وآله كيف عاش مع المشركين والمنافقين ومن كانوا يعيشون ظهرانيه ومحيطه، ليتعلّم من تلك السيرة في مختلف مجالات حياته).
هكذا بالفعل يمكن للقلوب السليمة أن تكون مصانع للسعادة في الدنيا والآخرة، وعلى من هم لا زالوا في رحاب هذه الحياة، أن يعملوا بصدق وقوة على جعل قلوبهم في منجى من السوء والشر والكراهية، حتى يكونوا سعداء، ويسعدوا الناس الذين يحبونهم، ولعل هذه أبسط الهدايا التي يمكن أن نقدمها لأنفسنا، وللناس الذين يستحقون السعادة والأمان.
اضف تعليق