نحن نعيش في هذه الدنيا، تحيط بنا المعاصي، والمغريات، وحتى الشياطين، لذا نحن في معركة مستمرة بين الخير والشر، فإذا أردنا الفوز في هذه المنازلة الطويلة المعقدة، علينا بالمعرفة الواقعية التي تفتح أمامنا الأبواب الصحيحة للخلاص، وتمنحنا الحصانة ضد الانحراف، وهو ما ينبغي أن نسعى إليه...
(إنّ الإنسان العارف حقًّا لا يرتكب الخطيئة)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
يفتش الإنسان دائما عن السبل التي تحميه وتصون كرامته وتبعد عنه الضرر، ويسعى جاهدا في البحث عن السبل التي تقِيه من الانحراف، فهناك صراع محتدم بين العقل والنفس، وهناك إرادتان متصارعتان، إرادة العقل و إرادة النفس، وكلاهما على نقيض، لهذا يحتاج الإنسان إلى من يعينه على هذه المنازلة المستمرة والعسيرة بين العقل والنفس.
الله سبحانه وتعالى وقف مع الإنسان، وفتح له نوافذ الإيمان، ودلّه على سبل الاستقامة، وفتح له باب الدعاء وباب الاستجابة أيضا، لهذا ما على هذا الكائن الوحيد في ولادته وفي موته، سوى التمسك بطريق الله، والابتعاد عن الخطيئة بأنواعها، عبر الاطلاع المستمر على المعرفة والفهم وتوخي الحذر من كل أشكال الانحراف التي يضعها الشيطان في طريق الإنسان على طبق من مغريات كبيرة وهائلة.
لكن الله تعالى أكرم الإنسان، و وقف إلى جانبه، وبقي من هذا الإنسان أن يقف هو مع نفسه، ويجنبّها الولوج في مسالك الخطيئة، فالدخول في هذا العالم المنحرف له بداية ولكن قد لا تكون له نهاية، لذا لابد من الحذر الشديد، واللجوء إلى الفرص التي منحها الله لعباده.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (كتاب يا أبا ذر):
(إن الله تبارك اسمه قد أكرم عبده كرامة لا تقاس بغيرها، وهي إذنه له بدعائه وعبادته والتحدّث إليه بصورة مباشرة، كما وعده الاستماع إليه وقبول عبادته).
يستمع الله تعالى لدعاء الإنسان، وتكون الاستجابة بشروطها المعروفة، وهناك حالة الانقطاع إلى الله تعالى أثناء الدعاء، أي أن يتوجه الإنسان أثناء دعائه إلى الله وهو في حالة خشوع وانقطاع تام عن كل شيء، وهذه حالة وصل نموذجية مع الخالق، حين يتوجه الإنسان بدعائه ورجائه، لذا على الإنسان أن يتسلح بالمعرفة الواقعية.
أي أنه مطالَب بمعرفة الأحكام والمبادئ والقيم التي نصّ عليها الدين، وعليه أن يتمكن من بلوغ هذه المعرفة، لأنها هي السبيل الوحيد لإبعاده عن مسالك الانحراف، كما أنها الطريقة الوحيدة التي تجنّب الإنسان من السقوط في حبائل الشيطان.
كيف نحصل على أحسن المراتب؟
فالمطلوب من كل إنسان أن يحصل على المعرفة الواقعية بشكلها الصحيح، ولهذه المعرفة درجات ومراتب، تبدأ من الأقل إلى الأعلى، بحسب الجهد والمساعي التي يبذلها الإنسان في هذا المجال، ولهذا نلاحظ أن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) هم أصحاب أعلى المراتب وأسمى الدرجات في المعرفة، وهذا جعلهم (عليهم السلام) الأقرب إلى الله تعالى، بعد أن تحصّلوا على كل المعارف وأغلقوا كل الأبواب بوجه الخطيئة.
من هنا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) على أن: (للمعرفة درجات ومراتب، وإنّ المعصومين يتمتّعون بأعلى الدرجات وأسمى المراتب).
لماذا علينا جميعا بأن نحوز على المعرفة، لاسيما الواقعية، والمعرفة المعنوية، لأننا في حال حققنا هذا النوع من المعرفة، فإننا سوف نعرف الذات الإلهية، فنخجل بعد هذه المعرفة من الخطيئة، ولا نسمح لأنفسنا بارتكاب المعصية في حضرة الله تعالى، لهذا فإن جميع الأبواب التي تؤدي إلى الانحراف سوف تنغلق في حال حصل الإنسان على المعرفة.
نعم فالمعرفة تبني حجبا وجدرانا عالية وفاصلة بين الإنسان وبين الخطيئة، فالعقل العارف ليس كالعقل الجاهل، العارف لا يمكن أن يتجرّأ ويرتكب الذنب المخالف لأحكام الله، على العكس من الجاهل الذي يكون كالأعمى، يخوض في غمار الذنوب وهو يجهل نتيجتها وآثارها، ثم لا يلبث أن يصحو على فواجع الذنوب ونتائجها المزرية.
العارف يستحي من الله، ولن يقرب الخطيئة، ولهذا كلما تحصّل أكثر على أشكال المعرفة، وغاص في أعماقها، كان أكثر امتناعا عن الانخراط في لجج الحرام، فيبتعد عنها، ويقترب أكثر إلى الاستقامة، ويتشبّه كثيرا بحياة المعصومين (عليهم السلام).
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يشير إلى ذلك بالقول:
(إنّ الإنسان العارف حقّاً لا يرتكب الخطيئة، لأنّه يدرك حقيقة الله وشأنه، ويلفّه الحياء والخجل من أن يرتكب ذنباً في محضر ربّه، لاسيّما وأنّ جميع الطرق التي تؤدّي إلى ارتكاب المآثم والانحراف البشري تنغلق وتنقطع عند المعرفة، فيُمنح صاحبها حياة شبيهة بحياة المعصومين).
ليس الفائدة الوحيدة من تحصيل المعرفة الابتعاد عن الخطيئة، وإنما هنالك فوائد أخرى مهمة، منها مثلا كسب الإنسان للصحة البدنية، لأن نبذ المعصية تقود الإنسان إلى الوسطية والاعتدال، فيراعي بدنه في مختلف شؤون الحياة الجسدية أو الروحية.
مثلا يعتدل في غذائه وطعامه وشرابه، ويعتدل في سلوكياته المختلفة، فيكون إنسانا وسطيا معتدلا، ويكون في منأى عن الأمراض المختلفة، البدنية، أو حتى الروحية، وهذا في حقيقة الأمر يشكل له مكسبا كبيرا، ليس على الصعيد الروحاني وحده، وإنما حتى في طبيعة حياته الواقعية المادية، فالمكسب هنا يكون مزدوجا.
كيف نسمو روحيا ومعنويا وماديا؟
أولا كسب القضايا الروحية، فيسمو الإنسان معنويا، وثانيا كسب القضايا الواقعية الجسمية، كتجنب الأمراض والاعتدال في الطعام، وانتظام السلوك مع الآخرين وفق منهج الاعتدال والاستقامة، هذه كلها مكاسب تجميع بين الروحي والمعنوي من جهة، وبين المادي من جهة ثانية.
هذه النقطة يشير لها سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(إنّ التعرف إلى الحالة البيئيّة أو الطبيعيّة لبدن الإنسان تدفعه في معظم الأحيان إلى انتهاج سبيل الاعتدال والوقاية الصحيّة فيما يخصّ أمور التغذية، ليكون في منأىً عن الأمراض، إضافة إلى أنّ المعرفة المعنويّة بدورها تنجي أو تقي المرء من التعرّض للأمراض والمشاكل الروحيّة كذلك).
في واقعنا الحياتي نجد الكثير من الأشخاص من الذين يهتمون بالجانب المادي وحده، فيخسرون أنفسهم وأرواحهم، ويلهثون نحو مكاسب الدنيا والأموال وكل ظنهم أنهم في بقاء مستمر بهذه الدنيا، لكنهم حتما إلى زوال، بينما هناك من يفهم جيدا أهمية التعامل بعقلانية و واقعية مع الشؤون المعيشية المادية، ومع الجانب الروحي والمعنوي بما يحفظ درجة التوازن بينهما، فيعيش الإنسان في حالة من الاستقرار والاعتدال المريح.
كل هذا لا يمكن أن يصل إليه الإنسان ما لم يحصل على المعرفة الواقعية، فهي سبيله الوحيد نحو الروح المستقرة، والنفس الآمنة، والعقل القوي، بالإضافة إلى فوز الإنسان بقهر الانحراف وإبعاده عن حياته إلى الأبد.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(متى ما حصلت المعرفة الواقعيّة، أصبحت روح الإنسان وقواه العقليّة وحتَّى المادّية في مأمن من الوقوع في طرق ومهاوي الانحراف).
واستنادا إلى ما جاء في أعلاه، فالإنسان مطالَب بالمعرفة الواقعية، وبفهم شؤون الحياة المختلفة، وفهم الدين، وفهم الناس، والاطلاع الجيد على الأحكام التي تنظّم علاقة الإنسان من خالقه ومع دينه وأئمته (عليهم السلام).
لابد أن يتطور الإنسان في عبادته، وفي معارفه الواقعية والمعنوية والمادية أيضا، وأن يحصل على ذلك النوع المهم من الاعتدال والتوازن الذي يضمن له حياة جيدة ومستقرة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(من المفروض على الإنسان أن يسعى دائماً لتوسيع دائرة فهمه وأفق وعيه فيما يتعلّق بالربّ الواحد الأحد، وبعبادته وبشروطها، وينبغي أن يسير ضمن عملية تطوّر متواصل).
الخلاصة نحن نعيش في هذه الدنيا، تحيط بنا المعاصي، والمغريات، وحتى الشياطين، لذا نحن في معركة مستمرة بين الخير والشر، فإذا أردنا الفوز في هذه المنازلة الطويلة المعقدة، علينا بالمعرفة الواقعية التي تفتح أمامنا الأبواب الصحيحة للخلاص، وتمنحنا الحصانة ضد الانحراف، وهو ما ينبغي أن نسعى إليه جميعا بكل ما نمتلك من إرادة و وعي و معرفة.
اضف تعليق