q
ثقافة وإعلام - كتب

دروس نتعلمها من الأشجار القديمة

سرد تاريخي شامل يكشف علاقة البشر المضطربة بالنباتات القديمة على مستوى العالم

ما الثمن المحتمل أن يدفعه البشر وغيرهم من الكائنات، عندما تنفق تلك الأشجار المعمرة قبل آجالها؟، الاجابة معاناة من مشكلات لا حصر لها، لأن الأشجار القديمة تدعم بقاء الغابات، وأن ذلك يتحقق بما تخلفه هذه الأشجار من بذور وبقايا، كما تنمو عليها نباتات أخرى وتعيش عليها الحيوانات. وتشترك جذورها مع كائنات أخرى...
بقلم: جوسي جلاسيوس

عندما خلا القطب الشمالي من الثلوج قبل حوالي 45 مليون عام، ازدهرت أعداد الأشجار التي تشكل اليوم أقدم حفريات العالم الشجرية المعروفة لنا على جزيرة أكسل هايبرج في منطقة كيكيتالوك بكندا. وفي عام 1986، صنَّف فريق من علماء النباتات القديمة تلك النباتات الضخمة على أنها من أشجار Metasequoia occidentalis، وهو نوع منقرض من أشجار الخشب الأحمر، كان قد طُمر في الطمي، ثم تجمد واحتفظ بخشبه.

ويذكر المؤرخ جاريد فارمر في كتابه الحياة النباتية القديمة Elderflora، وهو كتاب يقدم سردًا شاملًا للتاريخ العالمي للأشجار العريقة التليدة، أن كبير فريق علماء النباتات القديمة آنذاك قد "احتفل بهذه الاكتشاف العظيم عن طريق إشعال نيران في غصون أشجار عمرها 45 مليون عامًا ليغلي الماء من أجل وقت تناوُل الشاي". ولا شك أن هذه الأشجار كانت قد نفقت بالفعل منذ حقبة الأيوسين، إلا أن فارمر يصف هذه الواقعة بأنها جزء من نمط مقلق يحتفل فيه العلماء باكتشافهم "لأقدم" شجرة في عصرهم، ثم يدمرونها.

مثال آخر، هو أنه في عام 1957، قضى إدموند شولمان من جامعة أريزونا في مدينة توسان الأمريكية الصيف باحثًا عن أشجار الصنوبر الخشن المخروطية بين الجبال البيضاء بولاية كاليفورنيا الأمريكية. واكتشف ثلاثة أشجار يزيد عمرها عن 4 آلاف عام، وأسماها ألفا Alpha، وبيتا Beta، وجاما Gamma، ثم اختار أن "يضحي" بشجرة «ألفا»، ليلتقط صورًا لابن أخيه وزميل له وهما يقطعان تلك الشجرة، بغرض إثراء علم الحلقات الشجرية. وعندما نشرت جامعة أريزونا خبرًا صحفيًا بعنوان جامعة أريزونا تكتشف أقدم الأشجار الحية UA Finds Oldest Living Thing، كتب فارمر: "لم يُذكر شيء عن كون ما اكتشفوه قد نفق".

انصب اهتمام شولمان على علم المناخ الشجري، وهو يُعنى بوضع تصور للأحداث المناخية السابقة باستخدام بيانات حلقات جذوع الأشجار. أما حفر نفق في عام 1881 في قلب شجرة واوونا البالغ عمرها ألفي عام في منتزه يوسميتي الوطني، للسماح للسائحين بالمرور بسياراتهم عبر شجرة السيكويا العملاقة تلك ذات الارتفاع البالغ 71.3 مترًا (من نوع Sequoiadendron giganteum)، لتسقط بالتبعية، فلا يُمكن أن يُعزى إلى الدافع النبيل نفسه.

أشجار أسطورية

يشير كتاب فارمر إلى أن الأشجار القديمة الضخمة تحظى بالتبجيل وتتعرض للتدمير في آنٍ واحد، فتظهر "في أقدم الأساطير الباقية، وفي أقدم النصوص التي بين أيدينا اليوم". وقد ارتبطت في الأذهان في السابق بالآلهة، والأبطال، والرسل، والمعلمين. كما لعبت أدوارًا محورية في ملحمة جلجاميش في بلاد الرافدين، وفي الأسطورة البولونزية عن «راتا» الذي قطع شجرة رفيعة المقام لنحت قارب.

وفي العصور الأحدث، فتك المستوطنون الأوروبيون بـ"الشعوب الأصلية وأزالوا أشجار أراضيها بلا هوادة". وتظهر الأبحاث أنه خلال 8 آلاف عام تلت انحسار الأنهار الجليدية في العصر الجليدي الأخير، تضاعفت الكتلة الحيوية لأشجار الغابات في غرب وسط الولايات المتحدة الأمريكية (A.M. Raiho et al. Science 376, 1491-1495; 2022)؛ أي أن قطع الأشجار بسبب الثورة الصناعية، ولأغراض الزراعة لمدة 150 عامًا فقط، كان كفيلًا بمحو المخزون الكربوني لهذه الغابات.

ويذكر فارمر أن "الغزوات الاستعمارية، والثورات الصناعية اعتمدت على الخشب". ويعدد أمثلة لذلك، منها، على حد قوله: "البندقيات الطويلة الخشبية التي كان الغرض منها استعمار الأراضي وأخذ الأسرى، والسفن البحرية ذات الصواري العملاقة لنقل العبيد، وحصاد عملهم". كذلك في نيوزيلندا، دمر المستوطنون الأوربيون أشجار كاوري المهيبة، التي أمكنها أن تعيش لما يزيد عن ألفي عام، وغطت مساحة قدرها 1.2 مليون هكتار من الأراضي. وأصبحت جذوع تلك الأشجار التي بلغ طولها 50 مترًا صواري لسفن المستوطنين، واستُخدمت مادتها الصمغية في صنع الورنيش والمشمع.

وأشجار كاوري أو Agathis australis هي من فصيلة عاريات البذور، شأنها في ذلك شأن أشجار الصنوبر والتنوب، والراتنج، والأرزية، والسرو والشجر الأحمر. وهذه النباتات لا تزهر، وتتسم ببذور عارية، وتميل إلى النمو بوتيرة أبطأ، والبقاء حية لفترة أطول من النباتات المنتمية إلى فصيلة كاسيات البذور، وهي نباتات مزهرة تنتج ثمارًا. ويمكن لحوالي 25 نوعًا من النباتات – أغلبها من النباتات الصنوبرية - أن يعيش لأكثر من ألف عام، دون مساعدة من البشر في موائل محدودة غير محمية.

ويستعرض فارمر في كتابه أيضًا نتائج استقصاء عالمي يتناول حماية الأشجار التليدة، والاحتفاء بها عبر العالم، ومن أمثلتها أشجار الزيتون Olea europaea في بلاد الشام. وجدير بالذكر أن الأبحاث المنشورة هذا العام تشير إلى أن هذه الأشجار جرى توطينها على النمو في بلاد الشام قبل حوالي 7 آلاف عام، من أجل الانتفاع بثمارها وزيوتها (D. Langgut and Y. Garfinkel Sci Rep. 12, 7463; 2022). وفي إفريقيا، تُعد أشجار »الباوباب« Adansonia أكبر الأشجار، وأطولها عمرًا، وهي أشجار وارفة الظلال، تخدم في توفير المأوى، والطعام، وعدد من الأدوية والأنسجة. وقد اعتاد العبيد الإفريقيون زراعة أشجار الباوباب في منطقة الكاريبي، ومازال بعضها حيًا إلى الآن.

وأحد أنواع هذه الأشجار هو شجر الجنكة ثنائي الفلقة Ginkgo biloba، ويرجع إلى 390 ألف عام مضت، وقد استمر بقاؤه في الصين فقط، التي انتشر منها هذا الشجر حول العالم في الألفية الماضية، حتى إن أيكة من أشجار الجنكة قد نجت من القصف الذري على هيروشيما في اليابان، في أغسطس من عام 1945، لتنبت براعمًا في الربيع التالي لتلك الكارثة.

ويوضح فارمر أن الغطاء الشجري الحالي للكوكب، يندرج تحته 3 تريليونات نوع من النباتات الضخمة، التي تغطي حوالي 30% من الأراضي كافة. وهو آخذ في التوسع. بيد أنه صارت تشكل غالبيته أحزمة خضراء (أشجار مزروعة لحماية المحاصيل أو الحيوانات)، وأشجار محاصيل الخشب النامية في المناطق معتدلة المناخ، والمزارع الاستوائية لزيت شجر الأوكاليبتوس وزيت النخيل. ويتكون جزء آخذ في الانكماش من هذا الغطاء الشجري من مجتمعات بالغة القدم غنية بالأنواع.

خسارة فادحة

ويتساءل فارمر في كتابه، قائلًا: "ما الثمن المحتمل أن يدفعه البشر وغيرهم من الكائنات، عندما تنفق تلك الأشجار المعمرة قبل آجالها؟". ويجيب: "معاناة من مشكلات لا حصر لها". وهو ما يعلل له مضيفًا: "الأشجار القديمة تدعم بقاء الغابات"، ويوضح أن ذلك يتحقق بما تخلفه هذه الأشجار من بذور وبقايا. كما تنمو عليها نباتات أخرى وتعيش عليها الحيوانات. وتشترك جذورها مع كائنات أخرى في استهلاك عناصر غذائية، عبر فطريات تحت الأرض. فضلًا عن كون مجموعات "الأشجار القديمة" بمثابة أحواض تختزن الكربون، في حين أن المزارع واسعة النطاق أحادية المحاصيل، تُعد أقصر عمرًا، وأقل امتصاصًا لغازات الدفيئة من الهواء.

وحتى الأشجار البائدة التي نمت يومًا ما في القطب الشمالي- الذي كان استوائيًا فيما مضى- قد تقدم لنا دروسًا عما يحدث في عالم يهيمن عليه الاحترار. فتروي عالمة النباتات القديمة هوب جاهرين في مذكراتها فتاة المختبر Lab Girl في عام 2016 كيف أنها قضت ثلاثة فصول صيف على جزيرة أكسل هايبرج تحفر "مائة قدم في عمق طبقات من الأزمنة"، إذ حوت تلك الغابة الصنوبرية المورقة الكثير من أشجار التنوب، والسرو، وأشجار الأرزية، والشجر الأحمر، وشجر الراتينج، والصنوبر، والشوكران، إلى جانب مخزون من النباتات التي تنتمي إلى فصيلة كاسيات البذور في الطبقات التحتية مثل: القيقب، والألدر، والبتولا، والجوز، والكستناء، والزان، والرماد، والبهشية، والجوز، والميعة، والجميز، والبلوط، والصفصاف والدردار. وقد ازدهر نمو نباتات تلك الغابة، حتى خلال ثلاثة أشهر من الظلام في فصل الشتاء، وثلاثة أشهر من الأشعة المستمرة في فصل الصيف.

تعقيبًا على ذلك، يقول فارمر: "قبعت هنا إحدى أعظم الغابات على مر الأزمان". والآن، مع احترار القطب الشمالي بوتيرة أسرع من أي بقعة أخرى على سطح الأرض بأربعة أضعاف تقريبًا، فإن جينومات الأنواع النباتية الشجرية القريبة تطوريًا من هذه الحفريات الشجرية الغابية قد تتمتع بدرجة كافية من القدرة على التكيف، تتيح لها الازدهار في كوكب استعاد احتراره، على حد قوله. وختامًا، يشير فارمر إلى أن بإمكاننا أن نستقي الكثير من الدروس من الأشجار القديمة. لذا، يجب أن نتحلى بالحكمة لنستمع إليها.

اضف تعليق