q
الايمان بالله –تعالى- والرضى بقضائه وقدره وفق قاعدة الرحمة واللطف والمصلحة التي يجهلها الانسان المصاب في قادم أيام حياته. فمجرد الايمان بأن الله يأخذ من الانسان شيء ويعطيه أشياء، تمثل باباً من الاطمئنان النفسي بأن {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}، وأن في هذه الاصابة المؤلمة حكمة للابتلاء...

{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}

سورة الأنفال/ الآية:7

جميع الناس ينشدون السلامة لأبدانهم ولأرواحهم، فلا يحبون أن يصابوا بجروح او بأمراض تسبب لهم الآلام بأي مكان من بدنهم، كما لا يحبون الألم في حياتهم المعيشية وفي علاقاتهم الاجتماعية، مما تنتجه الضغوط الاقتصادية، او المشاحنات بسبب سوء العلاقات البينية، ولعل مردّ هذا الى أصل تكوين الانسان من الماء والطين؛ {خُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}.

الى جانب هذا السبب، ثمة سبب موضوعي آخر لتجنب الألم؛ هو الخشية من ظهور الجوانب السلبية من النفس البشرية، فالألم يخرج صاحبه من حالته الطبيعية الى حيث التوتر والقلق والجزع، وهو بدوره ينعكس على السلوك وطريقة الكلام، ويساعد الى إظهار الحالات السلبية في بعض المستشفيات، ولدى بعض افراد المجتمع خلال فترة الألم هذه.

كيف يكون الألم جميلاً؟!

في حد ذاته هو مُرّ في نفس الانسان، فهو يعرّض صاحبه الى ضغوط نفسية هائلة، ليس أقلها؛ يحوله من انسان قادر الى عاجز على حين غفلة، والضغط يكون أشد اذا كان تجاوز الخمسين من العمر وهو معتدّ بنفسه بأنه لم يتورط بمرض او اصابة لتحتوشه المستشفيات فجأة ثم يدخل غرفة العمليات لإجراء عملية جراحية تعيد جزئي العظم المكسور الى مكانه الصحيح، وهي عملية لاشك معقدة وصعبة، وما يعقب ذلك من آثار والتزامات تخرجه من حياته الخاصة وتقعده في البيت لفترة طويلة.

بيد أن لحظة تأمل في ليل المستشفى الهادئ، تذكر الانسان بحقيقتين طالما تغيب عن الكثير من المندمجين مع الحياة اليومية، وصخبها، ومتطلباتها:

الحقيقة الأولى: استذكار الألم والمعاناة التي تعرض لها رجال الإصلاح عبر التاريخ خلال مسيرتهم الجهادية ضد الظلم والتضليل والانحراف، وهم الرجال الذين نعدهم اليوم رموزاً لتحدي الواقع الفاسد، بل ويسعى البعض لأن يحذو حذوهم ويقتدي بهم فيما فعلوه من ملاحم بطولية مسترخصين الدماء والاموال، وتركوا حياة الراحة والاطمئنان والسلامة مع عوائلهم ليخوضوا المواجهة مع جبهة الباطل.

فعندما نتلو العبارة البسيطة في زيارة الامام الحسين، عليه السلام، متوجهين الى أصحابه الكرام: "يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً"، أرى أن كسر في عظم الساق، او حالة مرضية في وظائف الاعضاء أو مشكلة صحية في البدن، تمثل لمسة بسيطة وخاطفة لما تجرعه أولئك الابطال في ساحة المعركة، فقد كانوا بشراً، كما أن الامام الحسين، كان بشراً يحتوي على المشاعر والاحاسيس مع الفارق في القدرة على الاستيعاب، والامر ينسحب الى كل من جاهد وضحى وخاض أهوال الحروب الحق منذ عهد رسول الله، ثم عهد أمير المؤمنين، ثم معركة كربلاء، ثم استمرار المسيرة في من خاض المعركة في مطامير السجون وتحت التعذيب في سجون الطغاة في العهد الأموي والعباسي وحتى تاريخنا المعاصر.

نحن نخلّد ذكرى الامام الحسين، عليه السلام، وأصحابه في واقعة الطف، وجميع الابطال والمضحين في تاريخنا الماضي والحاضر، لأنهم استرخصوا دمائهم على طريق أهداف عظيمة وسامية، هي نفس الاهداف التي نتحدث عنها اليوم ونطالب بها مثل؛ الحرية والمساواة والعدالة والكرامة، فهل نعقل أن تأتينا كل هذه المطالب الكبيرة دون ألم أو ثمن؟

وهل نكون مثل أولئك الأوائل من المحيطين بالنبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، ممن لم يجربوا الحرب في حياتهم، فوجدوا أنفسهم فجأة وجهاً لوجه مع مشركي قريش في حادثة القافلة التجارية التي كان يقودها أبوسفيان، وقد تعرض لها المسلمون لتكون غنيمة مقابل ما تكبدوه من خسائر في مكة؟ فجاء الخطاب الإلهي بأن في المسلمين من يفضل السلامة وطريق غير ذات الشوكة والألم وعدم المواجهة مع المشركين، فجاءت تكملة الآية الكريمة: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}، فاختار الجميع طريق ذات الشوكة وخاضوا معركة بدر الظافرة.

أما الحقيقة الثانية: فهي استذكار من يتجرعون الألم المادي والمعنوي لفترات مختلفة من ابناء المجتمع.

نحن نتابع الاخبار ونكتب عن حوادث العنف والارهاب بأن "سقط عدد من الشهداء وعدد آخر من الجرحى"، فكيف حال الجرحى ياترى؟!

من يتعرض للألم في بدنه سيفهم حال ذلك الجريح في حوادث التفجيرات الارهابية، او حوادث السير، او حتى الامراض المؤلمة، بل وحتى حادث انهيار المبنى الصحي في بغداد قبل ايام، فمنظر حمل أحد المصابين المنتشلين بين الانقاض، وهو رجل كبير يرسم صوراً متعددة لمناطق الكسر او الجروح في بدنه، والكمية الهائلة من الألم والمعاناة التي يتجرعها.

هذا الفهم يفيد في طريقة التعامل مع الاحداث واصحابها، فالتفاعل والتضامن سيكون بشكل آخر على اساس من ذلك التفهم والتحسس، وهذا بدوره يعزز حالة التكافل والتعاون بين افراد المجتمع، فالتجربة التي نتحدث عنها تمثل جزءاً من آلاف او ملايين التجارب لأشخاص تذوقوا الآلام والأوجاع قبلي، لاسيما أولئك الذين يتذوقون مرارة الألم مصحوبة بمرارة ألم الفقر الذي يحول بينهم وبين علاجهم او اجراء العمليات الجراحية اللازمة لإنقاذ حياتهم.

لا نهرب من الألم

الألم غير مطلوب للإنسان في بدنه، وفي الحديث عن الامام الصادق، عليه السلام: "سلو الله العفو والعافية"، ثم إن الصحة والسلامة من عوامل القوة، بيد أن الاستعداد لهذا الألم وعدم حذفه من قائمة التوقعات يجعل صاحبه في حالة نفسية تمكنه من استيعاب الحالة الطارئة مهما كانت صعبة، ولعل هذا يفسر فلسفة اللجوء الى الادعية والاذكار للحفظ، لاسيما خلال الحركة والتنقل، بمعنى أن ثمة احتمال التعرض للأذى موجود حتى وإن كانت بنسبة واحد بالمئة.

هذا ما بالنسبة للحالة البدنية في وقت الحادثة، أما ما تتركه من آثار وتبعات على حياة الانسان فهنا يكون الاختبار العسير، عندما يكون ثمة عوق بالموضوع، او الطفل او الفتاة او الزوجة لعاهة مستدامة بسبب حادث سير، فان أول سؤال يتبادر الى اذهان الكثيرين: لماذا أنا بالذات دون الآخرين؟!

الحديث عن القضاء والقدر طويل ومبحوث من قبل العلماء المختصين بالعقائد، إنما الذي يهمنا في هذا الحيز؛ الايمان بالله –تعالى- والرضى بقضائه وقدره وفق قاعدة الرحمة واللطف والمصلحة التي يجهلها الانسان المصاب في قادم أيام حياته. فمجرد الايمان بأن الله يأخذ من الانسان شيء ويعطيه أشياء، تمثل باباً من الاطمئنان النفسي بأن {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}، وأن في هذه الاصابة المؤلمة حكمة للابتلاء والاختبار على الصبر، والقدرة على تحويل هذا الألم الى مرقاة معرفية لمزيد من تفهّم الحياة، وايضاً تفهّم افراد البشر.

اضف تعليق