q
تُعد سباقات السيارات الحديثة Formula 1 بمثابة تجسيد مبهر لما تصل إليه هندسة السيارات من دقة وإحكام، غير أن شعبية تلك الرياضة لا ترجع إلى أداء السيارة، بقدر ما ترتبط بمهارة السائقين، وجرأتهم على اتخاذ القرارات، وهم يدفعون تلك السيارات إلى حدود قدراتها القصوى...
بقلم: جيه. كريستيان جيردس

تُعد سباقات السيارات الحديثة «فورميولا 1» Formula 1 بمثابة تجسيد مبهر لما تصل إليه هندسة السيارات من دقة وإحكام، غير أن شعبية تلك الرياضة لا ترجع إلى أداء السيارة، بقدر ما ترتبط بمهارة السائقين، وجرأتهم على اتخاذ القرارات، وهم يدفعون تلك السيارات إلى حدود قدراتها القصوى. ولمدةٍ تزيد على قرن من الزمان، كان النجاح في حلبة السباق إنجازًا بشريًا يستحق الاحتفاء، فهل نشهد الآن انتصارًا مماثلًا للذكاء الاصطناعي في هذا الميدان؟ في بحث نشر على دورية Nature، يقطع بيتر وورمان، وزملاؤه1 خطوة في هذا الاتجاه، من خلال طرحهم لنموذج «جران توريزمو صوفي» Gran Turismo Sophy، وهو سائق إلكتروني يعتمد على شبكة عصبية، تتفوق على صفوة اللاعبين البشريين المتمرسين في لعبة الفيديو الشهيرة «جران توريزمو» Gran Turismo.

يسهُل تعريف الهدف من أي سباق: فالفائز هو من يقدر على قطع المضمار كاملًا في زمن أقل من منافسيه. غير أن تحقيق هذا الهدف ينطوي على مواجهة معقدة مع الفيزياء، ذلك أن التعامل مع مضمار السباق يتطلب استخدامًا محسوبًا لقوة الاحتكاك بين إطارات السيارة وبين الطريق، وهي قوة محدودة، ومن ثم فإن استهلاك جزء من هذه القوة لحظة الاحتكاك، عند استخدام المكابح على سبيل المثال، يقلل من القوة المتاحة للدوران حول منعطف ما.

ولمزيد من الدقة، يمكن القول إن كل إطار يستطيع توليد قوة احتكاك تتناسب مع القوة الرأسية أو الحِمْل، الذي يربط الإطار بالطريق. فكلما تسارعت حركة السيارة، انتقل الحمل إلى الإطارين الخلفيين، ما يقلل من قوة احتكاك الطريق بالإطارين الأماميين، ويمكن لذلك أن يؤدي إلى انخفاض حساسية التوجيه، إذ لا تستطيع عجلة القيادة توليد مزيد من قوة الانعطاف، وتفقد كل ميزاتها الوظيفية، فلا يكون أمام السيارة سوى الانحراف عن مضمار السباق عند المنعطفات. وفي المقابل، فعند استخدام المكابح، ينزاح الحِمْل باتجاه الجزء الأمامي من السيارة، ما يمكن أن يؤدي إلى زيادة في حساسية التوجيه، بمعنى أن الإطارات الخلفية تفقد قوة الجر، فتبدأ السيارة في الدوران حول نفسها. وفي حلبات السباق ذات الطبيعة الطوبوجرافية المعقدة، تظهر أيضًا التعقيدات المرتبطة بالضبط الدقيق لانتقال الحمل مع نظام تعليق السيارة، فتصبح صعوبة توجيهها في السباق أكثر وضوحًا.

ولكي يستطيع السائق الفوز في سباق ما، يتحتم عليه، بقدر ما تتيح له الفيزياء بالطبع، أن يختار مسارات تتيح للسيارة البقاء داخل حدود قوى الاحتكاك تلك، وهي حدود تتصف بكونها دائمة التغيّر. فإذا استخدم السائق المكابح في وقت أبكر من اللازم، عند الاقتراب من منعطف ما مثلًا، سيؤدي ذلك إلى إبطاء سرعة السيارة، ومن ثم خسارة وقت. أما إذا استخدم المكابح متأخرًا بقليل عن اللحظة المناسبة، فلن يتوافر لديه من قوة الاحتكاك بالأرض ما يكفيه للدوران حول المنعطف مع الاحتفاظ بخط السير الذي يريد الحفاظ عليه، خاصة عند اقترابه من أضيق أجزاء المنعطف. وحتى لو ضغط السائق المكابح بقوة أكثر من المطلوب، فقد يؤدي ذلك إلى دوران السيارة حول نفسها. ومن هنا يمكننا فهم ما يتمتع به سائقو السباقات المحترفون من قدرة مذهلة على اكتشاف إمكانات سياراتهم، لفّةً إثر أخرى، وعلى مدار السباق كله.

ورغم كثرة التعقيدات التي تكتنف التعامل مع إمكانات السيارة، فإن هذه الإمكانات مسجَّلة بدقة من الناحية الفيزيائية، ومن ثم، فهي تخضع للفهم، ويمكن حسابها وتعَلُّمها. فعلى سبيل المثال، وُجِد أن سيارة السباق ذاتية القيادة، التي تنتجها مجموعة «أودي تي تي إس» Audi TTS، وهي سيارة من طراز «شيلي» Shelley، تستطيع باستخدام نموذج فيزيائي بسيط2، أن تُنهي لفّات سباق في فترات زمنية تماثل ما يحققه أبطال السباق من الهواة. لكن في المقابل، لا تُجري «جي تي صوفي» حسابات مفصلة اعتمادًا على الفيزياء، بل تتعلم من خلال نموذج للشبكات العصبية. ولكن بالنظر إلى المعلومات المتوفرة للسيارة «شيلي» و«صوفي» بشأن المضمار وحركة السيارة، فليس من المستغرب أن تتمكن «جي تي صوفي» من إنجاز دورة سباقٍ سريعة، باستخدام قدر كافٍ من بيانات التدريب.

أما الشيء اللافت حقًا، فكان أداء «صوفي» في المواجهات المباشرة مع السائقين البشريين. فبعيدًا عن تقدم «جي تي صوفي» على المنافسين في زمن اللفّة الواحدة حول المضمار، لوحظ أيضًا أنها تفوقت على منافسيها بكل المعايير. فقد تعلمت «جي تي صوفي»، خلال عملية التدريب، أن تسلك مسارات مختلفة عند المنعطفات، استجابةً لاختلاف الظروف. وفي إحدى المرات، حاول سائقان بشريان غلق الطريق أمام اثنتين من سيارات «صوفي»، ومع ذلك نجح الذكاء الاصطناعي في إيجاد مسارين مختلفين، تستطيع السيارة من خلالهما التغلّب على هذا العائق، ما مكّن سيارتيّ الذكاء الاصطناعي من المرور.

وقد أثبتتْ «جي تي صوفي» كذلك قدرتها على تنفيذ مناورة كلاسيكية، أثناء مشاركتها في محاكاة للجزء الأخير المستقيم من حلبة «دي لا سارث» de la Sarthe الشهيرة، وهي حلبة تُجرى عليها سباقات «لو مان 24 ساعة» 24 Hours of Le Mans. واستطاعت «جي تي صوفي» تنفيذ المناورة عن طريق القيادة بسرعة، خروجًا من مسار السيارة التي تتقدمها، بهدف خلخلة الضغط خلف هذه السيارة، ما يزيد من قوة المقاومة عندها، ومن ثم تحاول «جي تي صوفي» تجاوزها. تعلمتْ «جي تي صوفي» هذه الحيلة من خلال التدريب، اعتمادًا على أمثلة كثيرة تتضمن هذا السيناريو ذاته، وإن كان ذلك يصلح للتعميم على أي سائق بشري من سائقي سيارات السباق، القادرين على تنفيذ هذه المناورة. لكنَّ تفوُّقَ «جي تي صوفي» على السائقين البشريين، في منافسة مباشرة، وعلى هذه الدرجة من المهارة، يُعد إنجازًا تاريخيًا للذكاء الاصطناعي.

تتجاوز النتائج التي حققها وورمان وفريقه مجرد التفوق على البشر في لعبة فيديو. ففي وقت تعمل فيه الشركات على زيادة كفاءة السيارات ذاتية القيادة بالكامل، وتوظيفها لنقل البضائع أو الركاب، يتصاعد الجدل حول مساحة استخدام برمجيات تعتمد على الشبكات العصبية، في مقابل برمجيات أخرى تعتمد على الفيزياء فحسب. وبشكل عام، فعندما يتعلق الأمر بإدراك الأجسام والتعرّف عليها في البيئة المحيطة3، فإن الشبكات العصبية لا يضاهيها شيء آخر. غير أن تخطيط المسارات بقي حكرًا على الفيزياء والاستمثال الرياضي. وحتى شركة «تِسلا» Tesla المُصنّعة للسيارات، التي تستخدم الشبكات العصبية كأساس لتصميم السيارات ذاتية القيادة، كشفتْ عن أن شبكاتها العصبية تُغذّي إحدى برمجيات تخطيط المسارات، المُعتمدة على الاستمثال الرياضي. (انظر: go.nature.com/3kgkpua). ولكن نجاح «جي تي صوفي» على مضمار السباق يشير إلى أن دور الشبكات العصبية في برمجيات السيارات ذاتية القيادة يمكن أن يصبح، ذات يوم، أكبر بكثير مما هو عليه الآن.

هل، إذَنْ، سيخبو نجم سباقات «فورميولا 1» بين البطلين الشهيرين، لويس هاملتون وماكس فيرستابين، لتحل محلها المنافسة بين نُسخ مختلفة من «جي تي صوفي»؟ ففي النهاية، الفيزياء التي صُممتْ لعبة «جران توريزمو» على أساسها تضاهي بصورة كبيرة سيارات السباق الحقيقية، لدرجة أن مدير «جران توريزمو»، كازونوري ياماوتشي، استخدم لعبة الفيديو هذه في محاولة لاستكشاف طرق يُعدل بها سيارة السباق الحقيقية التي يملكها، بل واستطاع مساعدة سيارته للتغلّب على مشكلة متكررة، تحدث عند دورانه حول منعطف في حلبة «نوربورجرِنْج»، وهي إحدى حلبات سباق الجائزة الكبرى في ألمانيا، والتي تحمل لقب «ذا جرين هيل» The Green Hell (انظرgo.nature.com/3tw22aa). بل ساعدتني هذه اللعبة أنا نفسي، إذ جعلتْ حلبة «لاجونا سيكا» Laguna Seca مألوفة لي تمامًا، قبل حتى الالتحاق بمدرسة لتعليم قيادة سيارات السباق.

هناك، ولا ريب، بعض التحديات التي لا تزال تواجه انتقالنا من منصة التحكم في لعبة فيديو إلى حلبة السباق. فعلى سبيل المثال، لم تتعلم «جي تي صوفي» بعدُ أن من الأفضل أحيانًا اقتفاء أثر السيارة التي تسبقها، لكسب الوقت، بدلًا من الانخراط في صراع شرس مع السيارات الأخرى عند كل منعطف. ويشير وورمان وزملاؤه إلى أن «صوفي»، بطبيعة الحال، لا تزال في موسمها الأول، وليس هناك ما يدعونا للاعتقاد بأنها لن تتمكن من إتقان هذه الاستراتيجية بكفاءة أيضًا مع تنامي خبرتها.

لكن الأمر الأصعب بالفعل هو المواقف المتباينة التي تَظهر مع كل لفّة من لفّات السباق. فعلى العكس من سباقات «جران توريزمو»، التي اعتمد عليها وورمان وزملاؤه، فإن حالة الإطارات في سيارات السباق الحقيقية تتغيّر من لفّة إلى أخرى، ويتعين على السائقين البشريين أن يتكيفوا مع هذه التغيرات على امتداد زمن السباق. فهل ستصبح «جي تي صوفي» قادرة على فعل الشيء ذاته، في حالة إمدادها بالمزيد من البيانات؟ ومن أين يمكن الحصول على هذه البيانات أصلًا؟ صحيحٌ أنه من السهل إجراء عمليات محاكاة لسيارات حقيقية، ولكن لا توجد سيارة سباق حقيقية أكملت من لفّات السباق ما يكفي لتدريب «صوفي» في شكلها الحالي، كما لا يتوفر لدينا إلا القليل من برامج الذكاء الاصطناعي القادرة على التعامل مع تغيّر حالة الإطارات. غير أن هناك أدلة على أن الشبكات العصبية تستطيع الانتباه لتغير الظروف الديناميكية في السيارات على أسطح الطرق المختلفة2. وهكذا، فربما يتعين على سائقي سيارات السباقات من البشر أن يحذروا المنافسَ القادم بقوة.

اضف تعليق