منهج العدل ركن أساس من أركان حكومة الإمام علي (ع)، كما أن هذا العدل يكون محميّا بالرؤية الإنسانية، والسلوك الإنساني، فلا يفترق العدل عن المبادئ الإنسانية التي يجب أن يلتزم بها الطرف الحاكم، وبهذا تشمل المواقف والإجراءات الإنسانية الجميع من دون استثناء، ولا تفضيل بين إنسان وآخر...
(إن منطق الإسلام ليس فيه قانون: «الغاية تبرر الوسيلة» مطلقاً)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
في هذه الأيام المباركة يعيش المسلمون ذكرى ولادة سيد البلغاء ونموذج العدل على مرّ التاريخ، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإذ يتبارك المسلمون بهذه المناسبة التاريخية الخالدة، إنما هم يستلهمون من سيرة الإمام العطِرة معاني وسلوكيات وأخلاقيات العدالة، وتطبيق سياسة العفو واللين في الحياة السياسية.
الأمة التي يشعُّ تاريخها بهذه الشخصية العملاقة، لابد أنها تكون في مقدمة الأمم من حيث التعامل بسياسة العدل، لأن الدروس العظيمة التي قدّمها الإمام علي (ع)، في السياسة والعدالة والقيم المضيئة، كفيلة بجعل الأمة في القمة دائما، شرط أن يتخذ قادتها اليوم من سيرة الإمام علي (ع) طريقا ونموذجا لهم.
فالإسلام في أوج ظهوره إبّان إعلان الرسالة النبوية، قام على ركيزة بالغة القوة والأهمية، ألا وهي ركيزة العدل غير المنقوص أو العدل الكامل، مقرونا بالحفاظ على كرامة الناس من الانتهاك والفقر والاستبداد، بالإضافة إلى التزام قيم العفو واللين والحق، مع التمسك بالصمود وتوفير أسباب القوة ضد الباطل بكل أشكاله ومصادرهِ.
وقد انتهج هذه السياسة وهذه القيم العظمى، الإمام علي عليه السلام، حيث درسها وتعلّمها من أستاذه الرسول الأكرم (ص)، فكان النموذج الأدقّ في تطبيق القيم والمبادئ التي قام عليها حكم الرسول (ص)، حيث العدالة الكاملة، والعفو عند المقدرة، واللين مع من يخطئ، والإنصاف الذي يُحقّ حقوق الناس دونما تفضيل بينهم، مع أهمية إعداد ما يلزم من قوة وتنظيم وإيمان في مواجهة من يسعى لإلحاق الأذى بالمسلمين.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم، الموسوم بـ (السياسة من واقع الإسلام):
(بُنِيَتْ السياسة الإسلامية على أسس العدل الكامل.. والكرامة الإنسانية.. والعفو بجنب الصمود والقوّة).
أدلة كثيرة ملأت صفحات التاريخ، تثبت منهج العدالة في الإسلام، والتي جسدها الرسول الأكرم (ص) ومضى في تجسيدها الإمام علي (ع)، ثم أئمة أهل البيت الذين مشوا على هذا المنهج، فكرّسوا مبدأ العدالة الذي تنبثق منه القيم الأخرى التي تبني الأمة بناء مثاليا لكي يتوافق معها معنى (كنتم خير أمت أُخرِجت للناس.
نموذج حي للعدالة
وكان للمسلمين وللبشرية النموذج الحي في تطبيق العدالة مع الجميع، ففي سياسة الإمام علي الكل سواسية أما العدل، لا فرق بين الصديق والعدو، كلهم يتم تطبيق القانون الإسلامي عليهم، فحين عرف الإمام (ع) بأن بن ملجم قاتلهُ، وأنه سوف يقوم بهذه الفعلة الشنيعة، وأخبره بنفسه حين قال له بوضوح تام (أنت قاتلي)، تأكيدا على كشف عداوته للإمام مع أنه قائد المسلمين الأعلى، لكنه لم يتّخذ إجراءً بالضد منه، لأنه لم يرتكب جريمته بعد.
بهذه العدالة كان الإمام علي (ع) قد تعامل مع أعدائه، بل مع من سيقتله لاحقا، وحين أراد بعض المسلمين من أنصار الإمام (ع) قتل بن ملجم منعهم الإمام وأمرهم بأن (يغمدوا سيوفهم)، وقال نحن لا نعاقب شخصا لم يرتكب جناية، وإن كان يعرف بأن بن ملجم عدو له ويسعى لقتله، هذه عدالة الإمام علي (ع) مع ألدّ أعدائه، فما بالك بعدله مع الآخرين؟
إن سياسة الإمام علي (ع) ومنهجه القائم على العدالة وفق فلسفة خاصة، طبعت حكمهِ بهذه الفلسفة التي ترفض أسلوب الابتداء بالعنف بشكل مطلق، فالإمام (ع)، أخذ من أستاذه ومربيه الرسول الأكرم (ع) نبذ العنف وعدم اللجوء إليه إلا حين يكون مانعا لخطر يهدد حياته وحياة المسلمين، فكانت هذه الفلسفة الكبيرة والعميقة التي أقصتْ العنف، وضاعفتْ من قوة منهج العفو واللين الذي هو المرتكز الأهم في سياسة الإسلام.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(حينما كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، على عرش الرئاسة الكبرى للدولة الإسلامية العظمى التي كانت قد ضربت بأطرافها الممتدة على أعظم رقعة من المعمورة، والتي كانت كل دول العالم تحسب لها الحساب آنذاك، تراه يعرفُ قاتلَهُ، ويذكر لـه أنه هو قاتله، لكنه لا يمدّ إليه يداً بعنف أبداً، لفلسفة العدل، وهي مادام أنه لم يمارس جناية فلا يستحق القتل).
لم يكن منهج العدل عند الإمام علي (ع) مقتصرا على التعامل مع الأعداء، أو معالجة ظروف الحرب، بل هو منهج يشمل جميع المجالات والعلاقات والتعاملات، ولهذا أصبح منهج حياة للمسلمين، وضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم التي تأسست في عهد الرسول (ص) على العدالة مع الجميع، لتستمر في منهج الإمام علي وأئمة أهل البيت (ع).
اللاعنف في منهج الإمام علي
هكذا هي فلسفة العدل وهكذا هو منهجها وتطبيقها، فلا عقوبة لمن لا يرتكب جناية حتى لو كان عدوّا، ولا حكْم على أحد إلا بالدليل القاطع، سواء كان معارضا أو مؤيدا، على خلاف حكومات الطغيان التي طالما أصدرت عقوبات الإعدام والمؤبد على (تهمة النيّة بارتكاب الجريم)، أي أن الإنسان يُعاقب على نية جريمة لم يقم بها بل لم تكن موجودة لديه، إنما الطغاة هم الذين يفبركونها ويلصقونها بمعارضيهم ومن ثم شنقهم أو حجرهم مدى الحياة.
فمبدأ أو منهج العدل ركن أساس من أركان حكومة الإمام علي (ع)، كما أن هذا العدل يكون محميّا بالرؤية الإنسانية، والسلوك الإنساني، فلا يفترق العدل عن المبادئ الإنسانية التي يجب أن يلتزم بها الطرف الحاكم، وبهذا تشمل المواقف والإجراءات الإنسانية الجميع من دون استثناء، ولا تفضيل بين إنسان وآخر.
مدرسة العدالة الأعظم هي مدرسة الإمام علي (ع)، وهي كانت ولا تزال تشعّ على العالم أجمع، وحريّ بالمقربين المؤيدين المنتمين لخط ومنهج الإمام علي أن يطبقوا فلسفته بالعدل، لاسيما أن الأمم الأخرى من غير المسلمين، قرأت هذا المنهج في صفحات التاريخ، وهناك من كتب عن تجارب العدل العلوي بحروف من نور، حتى بات فنارا يهتدي به الجميع، لذا فإن ساسة اليوم في الدول الإسلامية ملزمين بتطبيق فلسفة عدالة الإمام علي (ع).
لهذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) على أن:
(فلسفة العدل والإنسانية هي فلسفة الحكم والسياسة الإسلامية عند رئيس دولة الإسلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام).
وفي منطق الإمام علي (ع) لا شيء يبرر الهدف حتى وإن كان كرسي الحكم أو راس السلطة، فإراقة الدماء غير واردة بشكل مطلق في منهج الإمام (ع)، كما أن قانون (الغاية تبرر الوسيلة) الميكافيلي مشطوب بالكامل من منهج الإمام علي (ع) ومن سياسته، فبلوغ السلطة أو أي هدف آخر يجب الوصول إليه عبر الشرعية لا غير.
أما أولئك الذين يركبون وسائل الاجرام ونسف الحرية لبلوغ أهدافهم، فهؤلاء ليسوا من الإسلام بشيء، وهم بعيدون عن منهج الرسول (ص) ومنهج الإمام علي وأهل البيت (عليهم السلام)، ولهذا فإن السياسة وامتيازاتها لا يجوز أن تتحقق على حساب دماء الناس أو سحق كرامتهم.
وهذا ما قاله سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) بوضوح: (إن منطق الإسلام ليس فيه قانون: «الغاية تبرر الوسيلة» مطلقاً.. بل فيه قانون بالعكس تماماً: «لا يُطاع الله من حيث يعصى». بمعنى: السياسة الإسلامية التي هي طاعة لله تعالى، لا يجوز تحصيلها من طرق معصية الله، وإراقة الدماء البريئة، وهدر الكرامات).
مجدّدا نقول إننا في مثل هذه الأيام المباركة، يجب أن نستذكر شخصية الإمام علي (ع) وسيرته وما قدمه من إرث إنساني عظيم في مجالات الحياة كافة، ومنها السياسية، لكي نستلهم مواقفه ومبادئه ومنهجه، كي نبلغ الهدف الأهم وهو علوّ شأن المسلمين بين أمم العالم أجمع.
اضف تعليق