q
إسلاميات - المرجع الشيرازي

الغاية من التعلم

النوع الآخر من العلماء الذين لن يجدوا ريح الجنّة ويحرمون من رؤيتها، أولئك الذين يسعون وراء العلم، ولكن هدفهم من التعلّم كسب القدرة على خداع الناس، وإرادتهم تصيير الباطل حقّاً والحقّ باطلاً. يجهد جهده لكسب العلم، إلاّ أنّ دافعه لذلك هو التعلّم لبسط هيمنته على أذهان الناس...

«يا أبا ذر، إنّ شرّ الناس منزلةً عند الله يوم القيامة: عالمٌ لا ينتفع بعلمه. ومَن طلب علماً ليصرف به وجوه الناس إليه، لم يجد ريحَ الجنة.

يا أبا ذر، من ابتغى العلم ليخدع به الناس، لم يجد ريح الجنة».

رسول الله (ص)

يحدّد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لنا في هذا المقطع من الوصيّة الأسوأ بين الناس، حيث يشير إلى أنّ الأسوأ هو من لا ينفعه علمه شيئاً، أو لا ينتفع ممّا تعلّم، أي من يعلم ما هي الموبقات ـ مثلاً ـ ثم يعمد إلى اقترافها. ومن الواضح أنّ مثل هؤلاء الأفراد قد ضلّوا وهم أعجز عن هداية الآخرين.

التعلّم لنيل المناصب

يواصل الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله نصيحته لأبي ذر رضوان الله تعالى عليه ولكافّة المؤمنين، فيشير إلى أنّ من طلب العلم للحصول على المناصب ومغانم الدنيا، فقد حرم نفسه من ريح الجنّة، أي أنّه ليس يُمنع من دخولها فحسب، بل لا يمكنه الاقتراب منها أيضاً.

طبعاً، نلاحظ أنّ أكثر العلماء ـ من الناحية العملية ـ ينالون المناصب الدنيويّة الظاهرية، وأنّهم مع ما يحملون من العلم يتمتعون بمنزلة رفيعة، إلا أن ما يحدّد المصداق لقول النبي الأكرم هو نوع النيّة المبيّتة التي تدفع إلى كسب العلم، ولاشك في أنّ لكلّ فرد من الأفراد دافعه الخاصّ به وراء تحمّل مشاقّ طلب العلم.

ويلاحظ هذا التفاوت أيضاً في مختلف مناحي الحياة. فمن الناس من ينطلق إلى العمل لتأمين معاشه، وآخر يتاجر لأنّه يعلم بأنّ الكاسب ـ بالكسب الحلال ـ حبيب الله، وهو يريد أن يحقّق رضا الربّ المتعال، فالطرفان يصلان إلى أهدافهما، وكل منهما يؤمّن معاشه عن هذا الطريق، ولكن ذلك الذي يقصد السوق تقرّباً إلى الله سبحانه، فإنّ كل عمله ثواب وأجر، ويكون عند الله أحبّ من ذلك المجرّد عن نيّة التقرّب، وليس له من همّ سوى تأمين معاشه، رغم أنّ ما يقوم به هو أيضاً سلوكٌ مطلوب وممارسة ضرورية.

التعلم وخداع الناس

«من ابتغى العلم ليخدع به الناس لم يجد ريح الجنّة».

النوع الآخر من العلماء الذين لن يجدوا ريح الجنّة ويحرمون من رؤيتها، أولئك الذين يسعون وراء العلم، ولكن هدفهم من التعلّم كسب القدرة على خداع الناس، وإرادتهم تصيير الباطل حقّاً والحقّ باطلاً.

فالابتغاء يعني الطلب، و«من ابتغى العلم» أي من سعى وراء العلم، وهو بطبيعة الحال يجهد جهده لكسب العلم، إلاّ أنّ دافعه لذلك هو التعلّم لبسط هيمنته على أذهان الناس ليجرّهم إلى حيث يريد هو، لا إلى حيث يريد الله تعالى.

وليس هذا النوع من الدوافع بالجديد، وإنّما هو دافع عرفه الإنسان منذ القدم، ومثال ذلك ما يعرف بمذهب السفسطائيين والسفسطة(1) حيث تمّ التخطيط لنشر وتوسعة وتفعيل هذا النوع من التفكير لخلط الحقّ بالباطل، والتأسيس للمغالطات الفكرية في القضايا الحقوقيّة، والذين اشتغلوا بهذا الشغل عكفوا على دراسة الفلسفة والحقوق، فتعلّموا بشكل رسميّ أصول المغالطات، ليلبسوا الحقّ بالباطل أثناء المرافعات القانونية.

مقياس العمل

كثير من الناس يدرسون ويعظون ويهدون الآخرين إلى الصراط السويّ. وكثير من الناس يمارسون الكتابة والتأليف، وكلٌّ منهم يشبه الآخر، ويعمل كلّ منهم ـ حسب الظاهر ـ كما يعمل سواه، غير أنّ العامل الذي يميّزهم شيءٌ يمكن تسميته: (النيّة) وهي التي تفرّق وتميّز الطرفين في حقيقة الأمر أو عالم المعنى.

وهناك أربعة عناصر تمثّل ملاكات لتقييم عمل وسلوك الإنسان عموماً، وهي:

1. النيّة.

2. كيفيّة العمل.

3. كميّة العمل.

4. نتيجة العمل.

وجميع هذه العناصر دخيلة ومؤثّرة في تحديد قيمة العمل، إلا أنّ عنصر «النيّة» له من التأثير الكبير ما يفوق غيره من العناصر بصورة مباشرة وحسّاسة.

إنّ النيّة بمثابة الجوهرة الأصيلة والمحور الذي يحدّد لكلّ عمل قيمته المناسبة، والله سبحانه وتعالى من جانبه محيط بجميع النوايا ولا يعزب عنه أمر من الأمور ونيّة من النوايا. ومن جانب آخر لا مناص من القول بأن توجّهات النفس ومسيراتها الإيجابيّة والسلبيّة لها تأثير بالغ على طبيعة الحياة الاجتماعية والدينية والسياسيّة للإنسان.

وتعتبر حياة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أفضل درس وخير مثال لفهم هذه الحقيقة. فقد كان الأصحاب جميعاً يحيطون بالنبي ويتردّدون عليه ليستلهموا منه القضايا والمباحث العلمية والأحكام والبصائر الدينيّة، ولكن نيّاتهم المخلصة أو غير المخلصة هي التي جذبت كلاً منهم إلى طريق معيّن، وانتهت بهم إلى هذا المصير أو ذاك. ويمكن الإشارة هنا إلى أنّ نيّة «سلمان المحمّدي» الخالصة قد بلغت به حدّاً وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله بالقول: «أنت منّا أهل البيت»(2).

وليس أبو ذر غريباً عن هذه المنزلة الأسمى، إذ إنّه لم يسئ إلى أحد، وكان إلى جانب أبي ذر أشخاص تتلمذوا على يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله واستلهموا من علمه المتصل بالوحي، ولكن أبا ذر وسلمان وأمثالهما هم الذين بلغوا هذه القمّة السامقة.

إنّ أقوال وأفعال وأفكار النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله كانت كلّها علوماً سماويّة ومعارف إلهيّة، وكان كلّ واحد من الأصحاب يستلهم من وجوده المقدّس ما يستلهم، وفي الوقت ذاته كانت في مواقف بعضهم ما يبعث على الحيرة والتعجّب، لاسيّما للأجيال التي تلتهم، فرغم أنّهم جميعاً كانوا يأخذون عن رسول الله صلى الله عليه وآله، إلاّ أنّ نواياهم المتباينة دفعت كثيراً منهم إلى السقوط في المهاوي السحيقة بصورة لا تُصدَّق، وكان أحد هؤلاء الأصحاب رجل يسمى (القعقاع).

فمع أنّ ما تلقّاه القعقاع من النبي صلى الله عليه وآله لم يكن من ناحية الكم بأقلّ من غيره من الأصحاب، إلاّ أنّه لم يكن يتمتع بنيّة وشخصية وسلوك طاهر نزيه، وكان يمتاز بالعنف المفرط مع الناس، حتى أنّه سلك سلوكاً شيطانيّاً مع سكّان إحدى القرى غير المسلمة التي كان يفترض به أن يدعو أهلها إلى الإسلام والسلام، ولكنّه عمد إلى تقسيمهم عدّة أقسام، فمنهم من حرق، ومنهم من رمى من فوق الجبل، ومنهم من رجم، ودفن بعضهم أحياءً في الآبار.

وإذا قارنّا الآثار الوجوديّة الخاصّة بأبي ذر بما يميّز هذا الشخص ـ القعقاع ـ اتّضح لنا مستوى تأثير النيّة على الإيمان. فأبوذر رحمه الله تعالى لم يكن له سلطة أو جيش أو ثروة، وإنّما كان سلاحه الوحيد نيّته الطاهرة وسلوكه القويم مع جميع سكّان ما يدعى الآن بجنوب لبنان، حتى هداهم بذلك إلى الانتماء لمدرسة أهل البيت سلام الله عليهم واتّباع سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، في حين كان لعنف القعقاع وخشونته اللئيمة ومئات الأشخاص من أمثاله ردّة فعل عكسيّة في مواقف سكّان المناطق غير المسلمة، فزادوهم بعداً عن الإسلام والقرآن، فتسبّب هؤلاء (الأصحاب) باستفحال العداء من قبل الكفّار لدين السماء الحقّ. وإنّ المؤكّد في الأمر هو أنّ سبب عدم إسلام الناس في مختلف مناطق العالم يعود إلى نوع سلوك القعقاع وأمثاله الذين كانوا شرّ سفراء و(فاتحين).

مصير العنف

لقد ضرب أشخاص مثل القعقاع وخالد مثلاً للعنف والخشونة، ولم يخلّفوا وراءهم غير التنفّر والعناد والحقد.

ومن الشواهد على ذلك الاختلاف بين كيفية مبايعتهم من قبل الأمّة وكيفية مبايعة الإمام علي سلام الله عليه. فقد روي أنّهم قيّدو الإمام سلام الله عليه بالحبال ووضعوا السيوف على رقاب الثلّة من حوارييه لأخذ البيعة منهم قسراً؛ فيما أعلن أمير المؤمنين سلام الله عليه ـ وهو الإمام المنصوب بنصّ القرآن الكريم ووصيّة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ـ أنّ الناس جميعاً غير مجبَرين على مبايعته، وكان إذا قيل له: إنّ فلاناً وفلاناً لم يبايعا، وإنّ من الضروري إجبارهما وغيرهما من أمثالهما على البيعة، كان سلام الله عليه يرفض ذلك رفضاً قاطعاً، ولعلّه كان يكتفي في بعض الحالات بالحوار الهادئ معهم، أو يذكّرهم ما سبق منهم من المبايعة له في واقعة الغدير، أو بما سمعوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله في كونه الإمام والخليفة الشرعي دون سواه.

الإسلام يرفض العنف

إنّ من الممكن جدّاً نشر الإسلام والتبليغ له من دون استخدام القوّة والسيف. وقبل ذلك لابدّ من تحديد موقف الدين من العنف وممارسة القوّة واستعمال السلاح. إن الإسلام لم يشرع استخدام القوّة إلا حين الدفاع وردّ الاعتداء أو الهجوم المعادي، وقد طلب أهل البيت سلام الله عليهم منّا أن نكون لهم خير دعاة، فقد روي عن الامام الصادق سلام الله عليه:

«كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً»(3).

وثمّة مثل رائع للسلوك المسالم والداعي للأمن والسلام كان له أكبر الأثر في اعتناق الناس للإسلام، وهو السلوك الشخصي للنبي المصطفى صلى الله عليه وآله بعد فتح مكّة المكرّمة. لقد كانت مكانة أبي سفيان في الإسلام معلومة، فهو الذي أعلن منذ بدء الدعوة رفضه ومعارضته للحركة الربانيّة المحمديّة الوليدة، وقد كرّس كلّ جهوده ووظّف حياته وجميع ما يملك لطمس نور الإسلام وتصفية شخص النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، ورغم هذا التاريخ الأسود لأبي سفيان إلا أنّ النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله جعل من بيته محلاً آمناً وقال بكلّ صراحة:

«من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»(4).

ومن الواضح أنّ هذا العفو والكرم لا نظير لهما عبر التاريخ، فأين نجد قائداً قد جعل دار عدوّه الألدّ والأكثر حقداً عليه وعلى مبادئه وأصحابه محلّ أمن وسلام.

إنّ سعة لطف ورحمة نبيّنا المصطفى صلى الله عليه وآله بلغت حدّاً يعجز الآخرون عن دركها، ولم يبقَ لهم إلا اتباعه بما أمكنهم.

قصة أخوين

كان في عهد الإمام الجواد سلام الله عليه أخوان يعيشان بين المسلمين، وفي قصّتهما خير نموذج لدرك ما للنوايا من التأثير في سلوك وشخصيّة ومصير كلّ إنسان.

هذان الأخوان هما محمد بن فرج الرخجي وعمر بن فرج الرخجي، عاشا في جوّ عائليّ واحد، فبلغ محمد فيها القمّة حين أصبح من الأصحاب المقرّبين والأوفياء للإمام الجواد سلام الله عليه. وقد نُقلت في كتابَي (جواهر الكلام) و(وسائل الشيعة) روايات عن محمد بن فرج باعتباره راوية ثقة، وأحد أصحاب الإمام المعصوم سلام الله عليه. بينما كان أخوه عمر على النقيض منه تماماً حيث اشتهر بالظلم والوقاحة وخدمة المجرمين، من أمثال: هارون والمأمون والمعتصم والمتوكّل.

وفي تلك البرهة حيث كان محمد منشغلاً بتحصيل العلوم الحقّة وجمع الأحاديث والروايات ونقلها، كان أخوه عمر منهمكاً في ظلم الشيعة وقمعهم وتدميرهم.

فبعد استشهاد الإمام موسى الكاظم سلام الله عليه على يد طاغيته الجلودي وبأمر من هارون العباسي مباشرة، أوعز هذا الأخير له بمصادرة أموال وممتلكات أسرة الإمام الكاظم، ثمّ أمر بتعيين عمر بن فرج والياً على المدينة ومكّة، وأصدر له مرسوماً يبلّغه الناس، ويقضي بمنع التعامل مع العلويين، بل بلزوم الامتناع عن التحدّث إليهم.

واستمرّت هذه الجرائم والمضايقات الشديدة حتى زمن الإمام الجواد سلام الله عليه، وكان عمر بن فرج الرخجي والياً في مكّة والمدينة، وكان يمعن في معاقبة كلّ من يحاول كسر طوق المحاصرة العباسية اللئيمة ضدّ العلويين، بحيث يصادر جميع أمواله ويجلده ضمن التحقير وإسقاط الشخصية وهدر الكرامة.

وقد ورد في التاريخ تعبير خاصّ لهذا النوع من العقوبة، فكان يقال: «أنهكه عقوبة وغرماً» أي حقّر شخصيّته وأهدر كرامته و«غرماً» إشارة إلى مصادرة أمواله، أي إنّ كل من كان على علاقة طيبة بآل عليّ بن أبي طالب سلام الله عليهم، كان جزاؤه أن يزاح عن الوجود، وأن تصادر أمواله كافّة.

واستمرّ التعذيب والتنكيل والإرهاب إلى زمن المتوكّل العباسي، حيث وصل الحال بقضيّة مصادرة الأموال إلى أنّ النساء الهاشميّات كن لا يخرجن من بيوتهنّ لعدم امتلاكهن العباءات الكافية، بل كن جميعاً يصلّين بعباءة واحدة على الترتيب، وقد وصفتهن بعض الروايات بأنهنّ كنّ حواسر.

قال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين: وكان المتوكّل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً على جماعتهم، مهتمّاً بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم. ثم ذكر من ذلك كرب قبر الحسين سلام الله عليه وعفاء آثاره.

(إلى ان قال): واستعمل على المدينة ومكة عمربن الفرج الرخجي فمنع الناس من برّ آل أبي طالب، وكان لا يبلغه أنّ أحداً برّ أحداً منهم بشيء وإن قلّ إلاّ انهكه عقوبة وأثقله غرماً، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ثم ينزعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر! إلى أن قُتل المتوكّل فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم ووجّه بمال فرّقه فيهم، وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادّة مذهبه طعناً عليه ونفرة لفعله(5).

وكان الوضع على هذه الصورة طيلة حكم المتوكّل، وكان الأئمّة المعصومون سلام الله عليهم قد اختاروا أسلوب الصبر والتحمّل دون أن يستفيدوا من قدراتهم المادّية أو المعنويّة في حين كان القضاء على السلطة العباسيّة برمّتها ليس بالأمر الصعب بالنسبة للأئمة سلام الله عليهم، وهم الذين يتمتّعون بأقرب المكانة لدى الله القادر المتعال.

وكان سبب ذلك التحمّل والصبر ـ حسب ما جاء في الروايات ـ امتحان الناس، حيث ينبغي أن يُميَّز الخبيث من الطيّب، ويرتقي من هو جدير بالرشد والتكامل إلى أعلى المراتب، ويختبر ما يحمل من الإرادة، فالجميع يجب أن يعرضوا للفتنة والبلاء.

فكان الحكّام وأتباعهم من جهة، والأئمّة وأتباعهم من جهة أخرى يمثّلان فريقين يتعرّضان للاختبار الإلهي، لكي ينال فريقٌ الخزي والعذاب، ويستحقّ الفريق الآخر رضوان الربّ وجنان الخلد والرحمة الأبديّة، ولتكون حيواتهم خير نموذج وقدوة حسنة لمن أراد النجاة من الشيطان والموبقات والعذاب الأخروي.

إنّ كلا الفريقين روّضوا أنفسهم وربّوها، ولكنّ العلويين روّضوها بشكل، والعباسيين وشياطينهم وعتاتهم بشكل آخر، أي إنّ الجميع كانوا يستعدّون للقاء مصيرهم. وقصّة الامتحان والاختبار، والتكامل أو السقوط، قصّة لا تنتهي، واليوم وكلّ يوم يعيش الناس جميعاً في ساحة الامتحان.

قَالَ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ سلام الله عليه فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، حَدَثَ بِآلِ فَرَجٍ حَدَثٌ؟ فَقُلْتُ: مَاتَ عُمَرُ. فَقَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّه) حَتَّى أَحْصَيْتُ لَهُ أَرْبَعاً وَعِشْرِينَ مَرَّةً. فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا يَسُرُّكَ لَجِئْتُ حَافِياً أَعْدُو إِلَيْكَ.

قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَوَلا تَدْرِي مَا قَالَ ـ لَعَنَهُ اللَّهُ ـ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَبِي؟ قُلْتُ: لا.

قَالَ: خَاطَبَهُ فِي شَيْ‏ءٍ فَقَالَ: أَظُنُّكَ(6) سَكْرَانَ. فَقَالَ أَبِي:

اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أَمْسَيْت لَكَ صَائِماً فَأَذِقْهُ طَعْمَ الْحَرْبِ وذُلَّ الأَسْرِ.

فَوَاللَّهِ إِنْ ذَهَبَتِ الأَيَّامُ حَتَّى حُرِبَ مَالُهُ وَمَا كَانَ لَهُ ثُمَّ أُخِذَ أَسِيراً وَهُوَ ذَا قَدْ مَاتَ ـ لا رَحِمَهُ اللَّهُ ـ وَقَدْ أَدَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ وَمَا زَالَ يُدِيلُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ(7).

فالإمام اتّخذ من علم الله تعالى شاهداً عند الله نفسه، مشيراً إلى براءته من فداحة التهمة الموجّهة إليه.

استجابة دعاء الإمام الجواد

بقي عمر هذا في منصبه والياً على المدينة ومكّة إلى ما بعد استشهاد الإمام الجواد سلام الله عليه. وبعد ذلك تمّت الاستجابة لدعائه، فبسبب وقوع بعض الأحداث والتقلبات السياسيّة، غضب المتوكّل على عمر وأمر بمصادرة جميع أمواله وممتلكاته وخدمه، ثمّ ألقاه في السجن، وقيده بما يزيد على ثلاثمائة كيلو من الحديد في رقبته ويديه ورجليه، وأصبح عرضةً ـ بأمر المتوكل ـ للضرب وتصاعد عدد الجلدات في كل يوم بصورة منتظمة.

إنّ الفرد يجب أن يحافظ على نفسه، فمن العذاب الدنيوي ما لا يخطر على بال ابن آدم، فكيف بالعذاب الأخروي؟!

وتمرّ الأيام، ولا يجد عمر بن فرج سوى الأغلال والإهانة والفقر ومضاعفة الجلدات حتى بلغ عددها ستّة آلاف جلدة، وتخلّصت منه البشرية ذات يوم، إذ رحل إلى حيث ما ينتظره من العذاب الأخروي إزاء ما خان المسلمين واضطهد أولياء الله تعالى وحارب قانون السماء، إرضاءً للطغاة الزائلين، ورغبةً في بعض المال والسلطة.

* مقتطف من كتاب (يا أباذر) لسماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي
وهو شرح نصوص مباركة من وصيّة الرسول الأعظم (ص) لصاحبه الجليل أبي ذر الغفاري

......................................
(1) السفسطائيون: جماعة ظهرت في اليونان من أهل الرأي في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد، ولم يكن همّهم إماطة اللثام عن الحقائق بقدر اهتمامهم على تعليم تلامذتهم فنّ من الجدل والمناظرة، ليتمكّنوا في مختلف المواقع والحالات ـ ولاسيّما في الحوارات السياسية ـ من التغلّب على خصومهم، بعيداً عن كونهم على صواب أو على خطأ.
(2) إقبال الأعمال ص637.
(3) وسائل الشيعة ج12، ص8، باب وجوب عشرة الناس حتى العامة.
(4)، وقال صلّى ‏الله ‏عليه‏ وآله: «من أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن». التهذيب ج6، ص136، باب أصناف من يجب جهاده.
(5) الكنى والالقاب للشيخ عباس القمّي: ج3، ص 144.
(6) إنّ مفردة (ظن) تعتبر من الأضداد في اللغة. ورغم أنّ الظنّ من حيث المعنى يخالف اليقين، إلا أنّه في هذه الجملة قد يعطي معنى اليقين، أي أنّ عمر كان يقصد القول بأنّ الإمام سكران على وجه اليقين، والعياذ بالله.
(7) انظر الكافي ج1، ص496، باب مولد أبي جعفر محمد بن علي.

اضف تعليق