ليست سوريا مجرد بلد غارق في الذاكرة المشحونة أو في ثقافة العنف، بل هي اليوم ساحة لتصارع مشاريع خارجية، ومرآة تعكس اختلالات النظام الدولي والإقليمي. إن هشاشة الداخل السوري جعلته عرضة للابتزاز الجيوسياسي، ولتجارب الفيدرالية الموجهة من الخارج، ولإعادة رسم خرائط التأثير...
تقف سوريا اليوم على مفترق طرق حاسم، قد يقودها إلى سيناريوهات متعددة: من التقسيم الفعلي إلى دولة لامركزية ضعيفة محكومة بالنفوذ الخارجي، أو إلى إعادة إنتاج دولة مركزية هشة تُدار بـ”الوكالة” عن قوى دولية وإقليمية متنافسة.
هذه النتائج المحتملة، رغم تنوعها، ترتبط بشكل مباشر بطبيعة السلطة الجديدة التي برزت يوم 8 كانون الأول 2024، في لحظة ما بعد الحرب الأهلية، والتي تستبطن في طياتها ملامح مشروع سياسي مشحون بثأر الأغلبية وخوف الأقليات.
في سوريا اليوم، تتصارع الذاكرة مع الجغرافيا، والدين مع المذهب، والهوية الوطنية مع الهويات الجزئية، كما تتقاطع مشاريع الدول الكبرى مع حسابات الجيران ومخاوف الطوائف وتطلعات الهويات المنبعثة من رحم القهر التاريخي. سوريا، التي توحدت ذات يوم حول شعور وطني عارم وانتماء جغرافي مشترك بعد حقبة الانتداب الفرنسي، تعود اليوم ممزقة بين أكثرية متحفّزة تسعى للثأر والانتصار التاريخي، وبين أقليات خائفة تنكفئ على ذاتها، مطالبةً بالحماية والضمانات.
إن ما نشهده اليوم هو إعادة تدوير طويلة الأمد لصراع عمره أكثر من قرن ونصف. فقد شهدت سوريا الكبرى (بلاد الشام) بدايات التنازع الطائفي منذ القرن التاسع عشر، حينما دفع الحكم العثماني، عبر سياساته المركزية المتذبذبة وسلوكياته القمعية، الجماعات الدينية إلى طلب الحماية من القوى الأوروبية.
ففرنسا الكاثوليكية احتضنت الموارنة والمسيحيين، وبريطانيا مدت يدها إلى الدروز، بينما سعت روسيا لبناء علاقات متينة مع الأرثوذكس، فيما بقي العلويون والأكراد خارج أي حماية فاعلة حتى نهاية الانتداب الفرنسي عام 1946، الذي لم يمنحهم سوى وعود سياسية جزئية لم تكتمل.
لقد كانت تلك المرحلة المبكرة من التدخلات الدولية في سوريا، والتي تزامنت مع صدور قوانين “التنظيمات” العثمانية وقانون “الملة”، بمثابة مقدمة تاريخية لما عرف لاحقاً بـ”المسألة السورية”، أي عجز السلطة المركزية عن إنتاج مشروع جامع، وافتقارها إلى شرعية تُرضي التنوع الديني والقومي والاجتماعي. هذه المسألة، التي ظن السوريون أنهم دفنوها بعد الاستقلال، تعود اليوم إلى السطح، مع مجازر وانتهاكات تطول مدن الداخل والساحل، ومع إصرار الأكراد على الاحتفاظ بحكمهم الذاتي المدعوم أميركياً، فيما تلوذ فئات درزية بالحماية الإسرائيلية تحت ذرائع أمنية .
ما يميز المشهد السوري الراهن هو هيمنة الفكر القروي والعشائري، المتشرب بنزعة سلفية راديكالية، مقابل انحسار فكر الطبقة الوسطى والمدينية ذات التوجهات الحداثوية.
على مدى أكثر من خمسين عاماً، أنتجت المدن السورية نخباً فكرية وسياسية ساهمت في ترسيخ مفاهيم الدولة الوطنية والهوية الجامعة، وكان لحلب ودمشق واللاذقية دور محوري في تشكيل الثقافة السياسية الحديثة. غير أن هذا المشروع بدأ بالتآكل تدريجياً، نتيجة الفشل في التنمية المتوازنة، وتصاعد الاستبداد، وتحول الدولة إلى جهاز أمني طارد للمدنية.
مع اندلاع الانتفاضة في عام 2011، حملت ضواحي المدن وأريافها لواء التمرد، مدفوعة بثقافة الغضب والعنف والتهميش. الرد الأمني العنيف من النظام لم يدرك أن البنية الاجتماعية تغيّرت، وأن الفقر وترييف السياسة والثقافة قد خلقا بيئة قابلة للاحتضان من قبل السلفيات المقاتلة والأفكار الطهرانية المتطرفة. لقد فشل النظام في الاستدارة السياسية، وجاءت لحظة الربيع العربي بمثابة صافرة النهاية لنموذج الدولة القومية المركونة إلى شرعية ما بعد الاستعمار.
مع بروز قيادة أحمد الشرع، بدا أن الحكم الجديد يسير في اتجاه إقصائي خطير، منحاز لمشروع الأغلبية الديموغرافية، التي تُحرّكها نوازع الانتقام التاريخي، وتسندها أيديولوجيا تكفيرية لا تؤمن بالتعدد. فبدلاً من إنتاج عقد اجتماعي جديد أو اعتماد نموذج تسوية تاريخية، تم تبني خطاب عقابي فج، يُعيد إنتاج خطاب الطغيان على أسس دينية ومذهبية، ويضع الأقليات في موقع العدو العقائدي والمجتمعي.
الصدامات في مدن الساحل، وحماة، وحمص، وصولاً إلى جرمانا وصحنايا والسويداء، ما هي إلا نتاج مباشر لهذا المسار الخطير. فلم تعد المسألة السورية مسألة “داخلية”، بل تحولت إلى مختبر للسياسات الدولية، حيث تتصارع روسيا وتركيا وإيران وأمريكا وإسرائيل على جسد جغرافي هش، تحكمه سلطات الأمر الواقع، وتحركه خطوط تماس إثنية ومذهبية لا تنضبط بمشروع وطني جامع .
ليست سوريا مجرد بلد غارق في الذاكرة المشحونة أو في ثقافة العنف، بل هي اليوم ساحة لتصارع مشاريع خارجية، ومرآة تعكس اختلالات النظام الدولي والإقليمي. إن هشاشة الداخل السوري جعلته عرضة للابتزاز الجيوسياسي، ولتجارب الفيدرالية الموجهة من الخارج، ولإعادة رسم خرائط التأثير.
ففي ظل غياب مشروع سياسي وطني متماسك، ورفض الأطراف المتصارعة تقديم تنازلات مؤسِّسة لدولة جديدة، يبدو أن مصير سوريا سيُحسم في غرف السياسات الدولية لا في صناديق الاقتراع أو مؤتمرات المصالحة. لقد تحولت سوريا إلى مختبر مفتوح: تُختبر فيه توازنات القوى الإقليمية، ويتم فيه قياس حدود التعايش بين المكونات، وتجريب النماذج الفيدرالية، وصياغة خرائط التأثير الجيوسياسي في منطقة شرق المتوسط .
اضف تعليق