q
إسلاميات - المرجع الشيرازي

متى يدخل الحاكم في قائمة العظماء؟

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

ما يُفصح عنه واقعنا اليوم أن بعض حكامنا يقدّمون راحتهم ومصالحهم على شعبهم وأمتهم، لذا فإنهم مطالبون بالانتباه والحذر وتغيير أساليبهم في إدارة مصالح الناس، فالراحة لا قيمة لها في الدنيا، ومن يطمح أن يكون حاكما عظيما، عليه أن يتعب من أجل أمته وشعبه بلا هوادة...

تعلَّمت الإنسانية منذ بواكير نشوئها معادلة الحاكم والمحكوم، أو القائد والمنقاد، وتطورت هذه المعادلة مع تطور الحياة البشرية، واتفق الطرفان على وثيقة العقد الاجتماعي، وبموجبها تنازل الفرد عن بعض حرياته ووافق على التزامات محددة لقائد أو حكومة، تضمن له حقوقا وحاجات مهمة، في المقدمة منها الأمن والحريات وتأمين مصدر الرزق.

هذا العقد يتم توقيعه من قبل الحاكم والشعب، ومنه انبثقت الأنظمة السياسية وتنوعّت وتطورت، حتى باتت اليوم من أهم الدروس السياسية تحت مسمى (الأنظمة السياسية) في معظم جامعات العالم، وأفصحت لنا سجلات التاريخ البشري والواقع أيضا عن تجارب حكم نجح فيها حكام وفشل فيها آخرون، ولعل الصفة الأهم التي يتميز بها الحاكم العظيم تتجسد في تقديم الحاكم لمصالح الشعب على مصالحه وعلى نفسه، وقد زخر التاريخ السياسي بنماذج من الحكام العظماء، كُتبت أسماءَهم بماء الذهب وخلّدتهم صفة الإيثار التي كانوا يتميزون بها.

هذا ما يؤكّد أن هناك أناساً عظماء، منحتهم أعمالهم ومنجزاتهم هذا التوصيف عن جدارة، فهؤلاء لم يُخلقوا عظماء، بل طريقتهم في حكم شعوبهم هي التي أعطتهم سمة الخلود الأبدي، نظرا لما قدَّموه من إنجازات عظيمة وما تحلّوا به من صفات، تقع في المقدمة منها أنهم لم يبحثوا عن الراحة والمغانم والملذات، بل كان كل همّهم خدمة الشعب، والسهر على مصالحه وتوفير متطلباته والحياة الكريمة التي يستحقها.

يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في إحدى كلماته التوجيهية القيّمة:

(لا يولد العظماء وهم عظماء، بل هم الذين يصنعون العظمة لأنفسهم، فهم يولدون كسائر الناس. وأحياناً يكون الابن عظيماً أكثر من أبيه، وأحياناً بالعكس أيضاً).

تُرى كيف يمكن للإنسان أن ينضم إلى قائمة عظماء العالم والتاريخ، هنالك شرط يقف في مقدمة شروط الوصول إلى مرات العظمة، وهذا الشرط كما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي هو (عدم الاهتمام بالراحة)، فهناك أناس قادة وعاديّون أيضا، ينصبّ كل همّهم على الابتعاد عن بذل أي جهد مهما كان قليلا أو صغير، ولا يبحث هؤلاء إلا عن الراحة بمختلف أنواعها، لذلك هذا النوع من البشر لا يمكن أن يدخل في قائمة عظماء التاريخ، لأن هذه الصفة تتناقض كليّا مع الراحة والملذات.

الكسل والفشل متلازمان

الكسل من أكبر الأسباب التي تقف وراء فشل الناس، قادةً كانوا أم عاديين، والخمول والدِعة والبحث عن الراحة، تُسقط كل من يهتم بها في خانة الفشل، وتجعله بعيدا كل البعد عن النجاح والتميّز، فإذا كانت الراحة والملذات والمغانم والمال والجاه والنفوذ أهدافا يبحث عنها الحاكم، فإن المسافة بينه وبين العظماء ستكون بعيدة إلى حد الاستحالة، ولا يمكن أن يكون موفّقا في قيادته أو إدارته، لأن حالة الإيثار وتقديم مصلحة الأمة على نفسه معدومة.

كما أنّ المظهرية المفرطة يمكن أن تطيح بالإنسان، فكيف إذا تعلّق الأمر بالحاكم؟، فالأخير إذا كان همّهُ المظهر بملابس باذخة، وحين ينام لا يعبأ بشيء آخر، ويشغله أكلهُ وملبسهُ ونومهُ أكثر من حاضر ومستقبل شعبه كما هو الحال مع بعض الحكومات الحالية، فهذه الأمور تصنع جدارا عاليا بين الحاكم وبين الاصطفاف إلى جانب عظماء التاريخ!.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:

(رمز الموفقية والعظمة في كل مجال هو عدم الاهتمام بالراحة وعدم الركض وراء الراحة. فنوم الإنسان وأكله وثيابه واستراحته، ليس كلّ ذلك بالمهم إن توفّر أو لم يتوفّر، وإن قلّ أو ازداد، وهذه كلّها ليست مهمّة للعظيم).

ومما يسهّل المهمة لحكامنا كي يكونوا من العظماء، أنهم يستطيعوا الامتثال لنماذج من عظماء الحكام في التاريخ الإسلامي، بل وأعظم العظماء، إنه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، والعترة الطاهرة أجمعين، إنهم عالم متكامل من الدروس التي يمكن لأي حاكم أن يطلّع عليها حتى تتاح له فرصة تحقيق العظمة والاصطفاف إلى جانب العظماء.

السؤال الأهم كم حاكم من حكامنا اليوم دخل هذا (العالم من الدروس) الذي قدمه نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وهو يسوس الأمة وينقلها من الطيش والانفلات والجهل إلى الحضارة والنظام والإبداع والتقدم المضطرد؟، الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، أن حكام المسلمين لم يتمكنوا من بلوغ هذه الدروس الخالدة، وربما لم يرد في بالهم مطلقا هدف الوصول إلى مراتب العظمة.

وإلا ما الذي يفسر عدم نهل حكامنا من سيرة وتجربة الرسول الأكرم (ص) في الحكم وإدارة الأمة، ولماذا لم يتعلم حكامنا من تجربة الإمام علي عليه السلام في الحكم حيث آثر فيها أمته على نفسه، وتخلّى عن المظهرية الزائفة، وجعل بينه وبين النوم والراحة والأنانية مسافات بعيدة، فخلّده هذا الإيثار في سجلات التاريخ إلى الأبد.

لذا سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:

(إنّ أعظم العظماء هو مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله والعترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين. وتاريخ كل واحد منهم، عالم من الدروس، بل العالم صغير أمام تاريخ هؤلاء العظماء).

مزايا تجربة الحكم النبوية

الإيغال في تجربة الحكم النبوية، وهضم تفاصيلها جيدا، والتدقيق في المواقف والقرارات، وردود الأفعال، وأساليب الإدارة والتعامل من الأشخاص والأمم والأحداث، كفيل بتقريب حكّامنا اليوم من قائمة العظماء، ومن أهم ما قدمته التجربة النبوية تفضيل الشعب والأمة على النفس الحاكمة، فكان الرسول صلى الله عليه وآله يجوع حتى يشبع شعبه، وكان يسهر حتى تطمئن أمته.

يقدّم نفسه دائما على أنه المثال والنموذج للأمة، لا علاقة له بالمظهرية، الجوهر همّهُ المستدام، المعرفة ديدنه، وحرصه على تعليم الناس أدق وأصغر الأمور، حتى يصبح الإنسان راعيا لنفسه ورقيبا على ضميره، وبالنتيجة يصبح عنصرا فاعلا إيجابيا ومثالا للآخرين، يتعلم التضحية ويقتنع بأن سعادته تكمن في إسعاد الآخرين وليس العكس، هذه هي الصفات النبوية التي تؤكدها تضحية الرسول الأعظم (ص)، حينما كان يجوع حتى تشبع أمته.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكّد ذلك في قوله:

(إنّ نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله كان يجوع حتى لا يجوع شعبه، ولا يجوع الآخرون. وهذا ما يجب أن نتعلّمه من رسول الله صلى الله عليه وآله).

مَن يودَّع الراحة، ولا يبحث عن الدِعة، ويجافي الخمول والكسل، ويجعل من بلوغ أهدافه همّا يرافقه في صحوه ونومه، في حلّه وترحاله، ويردع نفسه عن المصالح غير المشروعة، سوف يصبح مع الوقت مثالا لمن حوله، يسيرون خلف خطوه، ويعملون بأخلاقه، ويقتدون بأفكاره وسلوكه، وهذا كلّه يحتاج إلى إنسان لا يفكّر براحته ومصالحه على حساب الدور الكبير الملقى على عاتقه، خصوصا إذا كان من القادة المسؤولين عن حاضر ومستقبل الشعب والأمة.

هكذا يتضّح أن الراحة لا يمكن أن تكون هي هدف الإنسان العظيم، بل على العكس تماما، فالعظماء كما أثبت التاريخ والواقع، هم أولئك الذين لا تهمهم راحتهم ولا نومهم ولا مظهرهم ولا مأكلهم، الذي يشغلهم بشكل كلّي إنصاف الآخرين، والإيفاء بالتزاماتهم، حتى لو كان ثم جهدهم وسعيهم راحتهم الزائلة.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:

(من يودّع الراحة يوفّق ويبقى في التاريخ ويخلد، فالراحة لا قيمة لها في الدنيا أبداً).

ما يُفصح عنه واقعنا اليوم أن بعض حكامنا يقدّمون راحتهم ومصالحهم على شعبهم وأمتهم، لذا فإنهم مطالبون بالانتباه والحذر وتغيير أساليبهم في إدارة مصالح الناس، فالراحة لا قيمة لها في الدنيا، ومن يطمح أن يكون حاكما عظيما، عليه أن يتعب من أجل أمته وشعبه بلا هوادة.

اضف تعليق