q

ميليسا هوغينبوم- في بعض المناطق النائية بالولايات المتحدة، تفشى مرض الحصبة بمعدلات غير مسبوقة. إذ سُجلت 58 حالة إصابة مؤكدة العام الماضي في ولاية مينيسوتا، وهو أعلى معدل لانتشار الوباء تشهده الولاية منذ 30 عاما.

وفي عام 2008 أيضا انتشر الوباء في ولاية كاليفورنيا، وقيل إن مصدره طفل في السابعة لم يتلق تطعيما. ومنذ أقل من عقد مضى، نجحت الولايات المتحدة في القضاء على مرض الحصبة. لكن باحثين يعزون عودة انتشاره الآن إلى أشخاص لم يتلقوا تطعيما ضد المرض.

إذ يمتنع بعض الناس، بمحض اختيارهم، عن تلقي التطعيمات، وبات يطلق عليهم "معارضو التطعيمات". ويرى هؤلاء أن التطعيمات تضر الصحة، وأن شركات الأدوية تتعمد إخفاء الآثار الجانبية المؤذية للتطعيمات.

قد يكون هذا مثالا واحدا فقط من أمثلة نظريات المؤامرة العديدة التي تضرب الدليل العملي بعرض الحائط. ولو بحثت على الإنترنت ستجد المئات منها، كما يرى منكرو التغير المناخي أن درجة حرارة الأرض لا ترتفع، وبعضهم يزعم أن العلماء يتلاعبون بالأدلة ليوهمونا أنها ترتفع. وفي الواقع، من يصدق نظرية مؤامرة واحدة ستنطلي عليه غيرها بسهولة.

وربما لا تسبب بعض نظريات المؤامرة أضرارا كبيرة، مثل القول إن الهبوط على القمر لم يكن إلا كذبة ادعتها وكالة ناسا الفضائية، أو أن عضو فريق البيتلز سير بول مكارتني مات منذ وقت طويل ويقوم بدوره الآن شبيه له، لكن بعض النظريات قد يكون لها انعكاسات أكثر خطورة، وقد اقترب الباحثون، بفضل ما توصلوا إليه من نتائج جديدة، من فهم الكثير من العوامل وراء انتشار نظريات المؤامرة، على أمل أن يخففوا من وطأة المخاطر والانقسامات التي تثيرها هذه النظريات.

وربما تعود نظريات المؤامرة إلى القرن الثالث، إذ يدّعي إنجيل فيليب، الذي كان مفقودا، أن المسيح تزوج من مريم المجدلية، وخلّدت بعض الروايات الخيالية الشهيرة، مثل رواية "شفرة دافنشي" للروائي دان براون، هذه الأسطورة.

ويربط البعض بين "منظمة المستنيرين" الغامضة التي تزعم إحدى نظريات المؤامرة أنها تبث أفكارها في العالم لإقامة نظام عالمي جديد، وبين مجتمع سري من المثقفين ظهر في عصر التنوير في عام 1776، ولكن شتان ما بين مجتمع المستنيرين القديم وبين "منظمة المستنيرين" المزعومة اليوم.

وقد أنكر البعض مؤخرا حدوث محرقة اليهود، ويزعمون أن النازيين لم يقتلوا ستة ملايين يهودي أثناء الحرب العالمية الثانية، بالرغم من الأدلة المرعبة التي تؤيد حدوثها، ويتساءل علماء النفس، مثل كارين دوغلاس، الأستاذة بجامعة كِنت، عن أسباب بقاء هذه المعتقدات، وربما لا توجد بعد إجابة مباشرة.

فبالنظر إلى وفرة نظريات المؤامرة والأرقام التي تشير إلى أن ما يصل إلى نصف المواطنين الأمريكيين يصدقون نظرية واحدة على الأقل منها، لم يتمكن العلماء من تحديد الخصال المشتركة التي تميز الشخص الذي يصغى لهذه النظريات من غيره.

ومن منا لم يمر عليه وقت تمنى فيه أن يكون فنانه المفضل الراحل على قيد الحياة كما يُشاع؟ فقد نسجت حكايات وأساطير من هذا النوع حول ألفيس بريسلي، وتوباك شاكور، تقول دوغلاس: "كلنا نجنح، بشكل أو بآخر، للارتياب في الحكومة وإساءة الظن بها"، فمن الطبيعي أن نشك في المجموعات أو الأشخاص الذين لا نفهمهم، وتضيف دوغلاس: "يعد الشك من الجماعات الأخرى أحد أساليب التكيف لكي يحمي الشخص نفسه من الأذى".

لكن دوغلاس كشفت بعد بحث متعمق، عن أسباب عديدة تجعل بعض الناس أكثر إقبالا على نظريات المؤامرة من غيرهم. إذ ذكرت إحدى الدراسات، أن البعض لديهم نزعة فطرية وتكاد تكون نرجسية للتفرد والتميز، وقد يتحقق هذا التميز عندما يشعر المرء أن لديه معلومات نادرة أو تفسيرات سرية لبعض الأحداث العالمية.

وكتب مايكل بيليغ، عالم ومؤلف بريطاني في عام 1984: "نظرية المؤامرة تتيح فرصة للوصول إلى معلومات خفية ومهمة وبديهية، بحيث تجعل من يرددها خبيرا، لأنه تحصّل على معلومات لا يعرفها أحد غيره حتى من يطلق عليهم خبراء".

وتكشف دراسات أخرى أن نظريات المؤامرة تساعد الناس على استيعاب الأحداث التي تقع في العالم من حولهم، وخاصة عندما يشعرون بفقدان السيطرة على حياتهم أو بالقلق أو بالعجز عن حماية احتياجاتهم إذا تعرضت للتهديد.

وربما لا يستسيغ الناس فكرة وقوع أعمال العنف بصورة عشوائية، مثل القتل الجماعي، ولهذا يقول ستيفان ليونداوسكي، أستاذ علم النفس بجامعة بريستول، إن نظرية وجود "زمرة من الأقوياء" وراء هذه الأحداث العشوائية قد تطمئن البعض وتريحهم نفسيا. وهذا لأن الناس "متعطشون للإجابات"، بحسب إحدى الدراسات.

وعندما وقع حادث إطلاق النار بولاية لاس فيغاس عام 2017، وهو الحادث الأكثر دموية في تاريخ الولايات المتحدة، والذي أسفر عن مقتل 58 شخصا، اتهم البعض الجماعات الإسلامية الإرهابية، وجماعة "أنتيفا" المناهضة للفاشية بالتورط في الحادث، وزعم آخرون أن الحادث كان جزءا من طقوس منظمة المستنيرين لتقديم القرابين البشرية، هذا بالإضافة إلى قائمة طويلة من الأكاذيب التي كشف زيفها موقع "سنوبس" للتحقق من المعلومات.

وقد تلعب التنشئة أيضا دورا في تشكيل رؤية الفرد للعالم. وذكرت دراسة نشرت في عام 2018 في دورية "الشخصية والاختلافات الفردية" أن الأفراد الذين لم ينجح أحد آبائهم أو كلاهما في إقامة علاقة عاطفية إيجابية وسليمة معهم منذ الصغر، قد يكونون أكثر استعدادا لتأييد نظريات المؤامرة من غيرهم.

وتقول دوغلاس: "هؤلاء الناس يلجؤون إلى تضخيم المخاطر". وتفسر ذلك بأنه أحد أساليب التعايش مع الواقع. وتضيف: "كما يحاول البعض مساعدة الناس في تفسير مصادر القلق أو تبريرها"، بغض النظر عن نجاح هذه الطريقة أو إخفاقها.

وتشير الأدلة المتوفرة إلى أن هذه النظريات لا تبدد المخاوف، بل على العكس، قد تجعل الناس يشعرون أن الأمور خرجت عن سيطرتهم. والأدهى من ذلك، أنها تزيد من الشعور بالحيرة والعجز، والخذلان، وفي هذه الحالة يكون الناس أكثر استعدادا لتصديق المزيد من نظريات المؤامرة، ومع أن بعض النظريات قد تبدو تافهة أو حتي مضحكة، فإن رواجها بين الناس قد يؤدي إلى عواقب وخيمة.

إذ يشعر الأشخاص الذين يرددون نظريات المؤامرة أنهم منفصلون عن المشهد السياسي، ومن ثم تقل فرص مشاركتهم في التصويت. وبالمثل، لن يهتم المشككون في التغير المناخي بالحد من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، أو تأييد السياسيين الذين يعدون بالحد من انبعاثات الكربون، ويساهم معارضو التطعيمات أيضا في نشر أمراض قد تؤذي الأطفال حديثي الولادة وذوي المناعة الضعيفة، أو تقتلهم. ويقول ليونداوسكي إن كل هذه الآثار ترتبت على السيل المتدفق من المعلومات الزائفة التي نواجهها على الإنترنت في العصر الحالي، الذي فقدت فيه الحقيقة هيبتها، وقد أصبح من العسير الآن محو الأكاذيب، ولم تعد محاولات العلماء لدحض نظرية المؤامرة بالحقائق الموثقة تجدي نفعا، بل في الواقع قد تأتي بتأثير عكسي. إذ توصل ليونداوسكي إلى أنه كلما زاد تمسك المرء بنظرية المؤامرة، اهتزت ثقته في الحقائق العلمية. وربما يشعر أن الشخص الذي يحاول إقناعه متورطا في المؤامرة.

ويقول ليونداوسكي: "هذا يعني أن أي دليل يضعف نظرية المؤامرة يُفسر على أنه يدعمها". إذ أن نظريات المؤامرة تحمل الناس على رفض العلوم.

وتسلط هذه المؤامرات الضوء على حجم الاستقطاب في العالم. إذ كشفت إحدى الدراسات التي تتناول كيفية انتشار نظريات المؤامرة على الإنترنت، أن مؤيدي الأدلة العلمية ومؤيدي نظريات المؤامرة لا يلتقيان معا على الإطلاق، ويقول ديفيد غرايمز، عالم الفيزياء بجامعة كوينز في بلفاست: "أصبح كل شخص يعيش في عالمه الخاص، حيث يردد الأفكار والمعتقدات التي توافق أهواءه فيما يسمى بـ' غرف الصدى'".

وقد واجه غرايمز الكثير من الانتقادات والتعليقات السلبية من واضعي نظريات المؤامرة للتشكيك في أبحاثه العلمية، ما دعاه إلى تطوير خوارزميات تبين استحالة بقاء الأسرار الكبرى طي الكتمان لأي فترة من الزمن. وكلما زاد عدد المتورطين في إخفاء الحقيقة، زادت سرعة الكشف عن نشاطهم السري، ويقول غرايمز: "نحن نعيش في عالم واحد، وتؤثر تبعات قراراتنا، سياسيا أو أخلاقيا، على الجميع. ولو لم نتفق على حقائق علمية أساسية، لا يختلف عليها أحد، سنواجه الكثير من العراقيل عند صنع القرارات".

وتتناول بعض الأبحاث الآن العوامل النفسية وراء المساهمة في نشر نظريات المؤامرة. وتشير نتائجها إلى أن الاتجاه الفكري للشخص كثيرا ما يؤثر على معتقداته، ويقول غرايمز: "يموج الكون بالأحداث والتغيرات التي تقع بلا تخطيط مسبق، وهذا قد يحمل الناس على نسج قصص لربط الأحداث ببعضها، حتى لو كانت هذه القصص من نسج الخيال ولا أساس لها من الصحة"، إلا أن البعض يستعين بمواقع الإنترنت للتصدي للعزلة الفكرية التي تفرضها مواقع التواصل الاجتماعي، مثل التجربة الفريدة التي أجريت في النرويج، وعرضت اختبارا للتأكد من أن الشخص يفهم تماما ما يقرأه قبل أن يدلي بتعليقه على المقال.

ويقول ليونداوسكي إن هذا سيساعد الناس في التريث قبل التفوه بكلام عشوائي، وفي الوقت نفسه لن يوقفهم عن إبداء آراءهم، ويحاول الآن الكثير من الصحفيين ومواقع التحقق من المعلومات توعية الناس بكيفية الحصول على المعلومات من المصادر الموثوقة، ومواجهة الرموز العامة ومحاسبتهم إذا ساهموا في نشر معلومات مغلوطة.

لكن غرايمز يقول إنه من الصعب أن يعدل المتشبثون بمعتقداتهم عن رأيهم، على عكس "غير المتشددين" الذين من الممكن التأثير عليهم إذا واجهتهم بالدليل. وهذا يعني أننا قد ندحض الكثير من نظريات المؤامرة إذا واجهنا الناس بأدلة دامغة وواقعية.

وأخيرا، يجدر بنا أن نتحرى الدقة في كل ما ننشره على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ ينشر الناس في الغالب مقالات ذات عناوين جادة دون قراءة محتواها، ويقول غرايم: "أصبحت الآن جميع معلومات العالم متاحة بين أيدينا وميسرة، لكننا مهوسون بالحكايات الوهمية والفارغة"، وهذا هو السبب في رواج نظريات المؤامرة والمعلومات الزائفة.

وهذا يعني أننا لا ينبغي أن نصدق كل ما نقرأه ونسمعه، وإذا بدا لك أن الكلام مخالف للمنطق أو ملفق، فقد يكون إحساسك في محله. وقد يساعدك إدراك حجم نظريات المؤامرة التي تتناقلها الألسن حول العالم في رصدها ومنع انتشارها.

اضف تعليق