الانهيار الإداري ليس حدثاً فجائياً، بل عملية صامتة تبدأ عندما نغرق في تفاصيل لا تخدم الغاية. إن أردنا مؤسسات قوية ودولاً قادرة على النهوض، فعلينا أن نحمي النملة قبل أن نفقدها، كما قال بيتر دراكر، رائد الإدارة الحديثة: “لا شيء غير منتج أكثر من أن تفعل بكفاءة ما لا ينبغي فعله أصلاً...

أخطر ما يواجه المؤسسات ليس الفساد الظاهر أو نقص الموارد، بل ذلك الانهيار البطيء الذي يبدأ في صمت. انهيار يتغذّى على الروتين اليومي، واللوائح المكدسة، والأقسام التي تتكاثر بلا غاية. قصة “النملة المجتهدة” التي أُغرقت تحت سيل من المشرفين والمستشارين ليست مجرد حكاية ساخرة، بل مرآة لواقع مؤسسات تنهار من الداخل بينما يظن قادتها أنهم يحسنون صنعاً.

الإدارة وُجدت لتسهيل العمل، لكنها حين تتحول إلى هدف بحد ذاته، تصبح عبئاً قاتلاً. تبدأ المؤسسة بنجاح بفضل جهود الأفراد، ثم يُضاف مشرف للتنظيم، ثم قسم للمراقبة، ثم لجنة للاستشارات… إلى أن يتضاعف الهيكل، وتختفي القيمة الحقيقية.

دراسات البنك الدولي (2023) تكشف أن البيروقراطية الزائدة تخفض الإنتاجية في بعض الدول بما لا يقل عن 30 بالمئة. أما منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) فتشير إلى أن الإجراءات الإدارية غير الضرورية تُهدر نحو 3 بالمئة من الناتج المحلي سنوياً. الأرقام صادمة، لكنها تؤكد أن “تكلفة الورق” قد تكون أثقل من تكلفة المشاريع نفسها.

هذا التضخم الإداري يُنتج آثاراً متشابهة في كل مكان:

ارتفاع التكاليف: مزيد من الرواتب للأقسام غير المنتجة.

انخفاض الإبداع: العامل المبتكر يصبح أسير النماذج والتواقيع.

تآكل الثقة: المواطن أو العميل يرى مؤسسة بطيئة وغير فعالة.

تفاقم الفساد: كل طبقة بيروقراطية إضافية تفتح ثغرة جديدة للاستغلال.

المأساة أن أول من يُستبعد دائماً هو “النملة” – أي الموظف المنتج – في حين يبقى الجهاز الإداري المتضخم يلتهم الموارد بلا فائدة.

التاريخ المعاصر يُظهر أن الدول والشركات التي كسرت حلقة البيروقراطية هي من نجحت. اليابان وكوريا الجنوبية مثلاً اختزلت الإجراءات الحكومية عبر التحول الرقمي، فاختصرت ما كان يتطلب أسابيع إلى دقائق.

الإصلاح الإداري الناجح يقوم على:

التبسيط المستمر: كل إجراء يُسأل “هل يضيف قيمة حقيقية؟”.

تركيز على النتائج: الإنجاز يُقاس بالأثر، لا بعدد التقارير.

تمكين الكفاءات: الثقة بالكوادر وتحريرها من الأعباء غير الضرورية.

تكنولوجيا ذكية: الرقمنة لتقليل التعقيد لا لتزيينه.

الانهيار الإداري ليس حدثاً فجائياً، بل عملية صامتة تبدأ عندما نغرق في تفاصيل لا تخدم الغاية. إن أردنا مؤسسات قوية ودولاً قادرة على النهوض، فعلينا أن نحمي “النملة” قبل أن نفقدها.

كما قال بيتر دراكر، رائد الإدارة الحديثة: “لا شيء غير منتج أكثر من أن تفعل بكفاءة ما لا ينبغي فعله أصلاً». وهنا يكمن السر: المؤسسات لا تنهض بتكديس الهياكل، بل بتبسيط الطريق نحو الإنجاز.

اضف تعليق