في زمن تتقلب فيه خرائط النفوذ، وتتآكل فيه بعض الدول من الداخل رغم مظهرها الخارجي، يُطرح سؤال لا يزال يؤرق المفكرين والساسة على حد سواء: كيف تُبنى الدولة؟ ليس المقصود هنا تشييد المباني أو تعبيد الطرق، بل بناء المنظومة التي تحفظ الكرامة، وتصون السيادة، وتحرر الإنسان من الخوف والاحتياج...

في زمن تتقلب فيه خرائط النفوذ، وتتآكل فيه بعض الدول من الداخل رغم مظهرها الخارجي، يُطرح سؤال لا يزال يؤرق المفكرين والساسة على حد سواء: كيف تُبنى الدولة؟

ليس المقصود هنا تشييد المباني أو تعبيد الطرق، بل بناء المنظومة التي تحفظ الكرامة، وتصون السيادة، وتحرر الإنسان من الخوف والاحتياج. الدول العظيمة لا تُبنى بالصدفة، بل تقوم على نُظم تشبه أبوابًا تُفتح على مشروع حضاري شامل.

وكما للجنة في الميثولوجيا الدينية ثمانية أبواب، وللهلاك سبعة، يمكن القول إن لبناء الدولة ثمانية مفاتيح، ولكل دولة تؤول إلى السقوط سبع علل مدمّرة.

مفاتيح البناء الثمانية:

العدالة المستقلة: لا يُبنى وطن فوق ظلم. العدالة المستقلة، لا الخاضعة لسلطة، هي العمود الفقري لأي دولة ناجحة.

الاستثمار في الإنسان: بناء الإنسان مقدم على بناء البنية التحتية. دولة لا تهتم بالتعليم والصحة والعقل النقدي، تبني هياكل فارغة.

هوية وطنية جامعة: الانتماءات الفرعية مشروعة، لكن لا بد من هوية وطنية شاملة تذيب الطائفية والعنصرية داخل مشروع وحدوي.

مؤسسات راسخة لا رجال أقوياء: الدولة المستقرة تُحكم بالمؤسسات، لا بالمزاج الشخصي للزعماء. الاستقرار المؤسسي يعني بقاء الدولة مهما تغيّر الأشخاص.

قيادة ذات رؤية: القائد الناجح لا يدير الأزمات فقط، بل يرسم طريقًا للمستقبل ويقود الناس نحوه بذكاء وشجاعة.

اقتصاد إنتاجي متنوع: الاعتماد على مورد وحيد، مثل النفط، يجعل الدولة رهينة للتقلبات. أما الاقتصاد الإنتاجي المتنوع، فيحصّن الدولة.

ثقافة نقدية، لا صوت واحد: نهضة الأمم تبدأ من قبول النقد البنّاء. الدولة التي تحتمل معارضيها أقوى من تلك التي تحتفي بمطبّليها.

عدالة اجتماعية شاملة: الفجوة بين الأغنياء والفقراء إن اتسعت، تحوّلت إلى خندق يبتلع الدولة. التوازن ضرورة للتماسك الوطني.

أما مزالق السقوط السبعة فهي:

الفساد المؤسسي: حين يصبح الفساد جزءًا من البنية، لا مجرد استثناء، تنهار الثقة، ويتآكل الجهاز الإداري من الداخل.

الطائفية والانقسام المجتمعي: دولة تُبنى على كراهية الداخل لا يمكنها الصمود. الانقسام الأهلي باب للحروب الأهلية والتدخل الخارجي.

قضاء تابع لا مستقل: حين يتحول القضاء إلى أداة تصفية خصوم، يفقد القانون هيبته وتولد الفوضى من رحم الدستور نفسه.

تبعية القرار للخارج: الدولة التي لا تملك قرارها لن تملك مستقبلها. السيادة شرط بقاء الدولة ككيان حر.

خنق الحريات: إسكات الرأي الآخر لا يصنع دولة قوية، بل مجتمعًا خانعًا سريع الانفجار عند أول شرارة.

تزييف الوعي عبر الإعلام والتعليم: دولة لا تصنع وعيًا نقديًا، تصنع جيلًا من الأتباع، لا من المفكرين. وهذا ليس سبيلًا للنهضة.

تهميش الأطراف والمناطق الفقيرة: إهمال الريف والمناطق المهمشة يجعلها خارج المعادلة، ثم ضدها. لا تماسك وطنياً من دون عدالة جغرافية.

خلاصة: بناء الدولة ليس قرارًا سياسيًا، بل مشروعًا وطنيًا طويل النفس. إنها مسيرة تبدأ من العدالة وتنتهي عند الكرامة. وكل خطوة تُبنى على وعي وحرية ومؤسسات قادرة. وفي المقابل، فإن الفساد والتفرقة والاستبداد ليست مجرد أخطاء، بل قنابل موقوتة في أساس البنيان. فاختر: هل تفتح أبواب النهوض الثمانية؟ أم تترك الأبواب السبعة مشرعة للسقوط؟

اضف تعليق