لقد نفر قرّاء كثيرون من القصة القصيرة العراقية بعد أن وجدوا الكثير منها فارغا إلّا من حشو كلامي، مع غياب للفكرة واضطراب في "الثيمة"، وما ينهض دليلا على كلامنا هنا، هو حضور القصة "التشيخوفية" وغيرها من نتاجات عمالقة هذا الفن إلى اليوم على الرغم من مرور نحو قرن وأكثر على كتابتها...

في جلسة خاصة جمعتني بالأديب وعالم النفس الدكتور ريكان إبراهيم، بمعية أصدقاء آخرين في مقهى حسن عجمي قبل نحو ثلاثين عاما، وكان الحديث عن التجريب والأشكال الجديدة التي يجتهد بها البعض للقصة أو الشعر، قال عبارة ظلت في ذاكرتي وستبقى بعد أن تأكدت من دقتها: ((البقاء للكلاسيكي))! قالها بنبرة جازمة. 

الشيء الذي يجعلني أستحضر مقولة الدكتور ريكان هذه، هو أنه أصدر بعد مدة قصيرة مجموعة قصصية بعنوان (بانوراما لخيول الوهم) وكانت مدهشة حقّا، بموضوعها الذي يستحضر أحداثا كبرى متخيلة من التاريخ العالمي ويعيد إنتاجها ومعالجتها برؤية فلسفية معاصرة، وقد كتبت عنها قراءة قصيرة، حينها، نشرت في إحدى الصحف.

لقد شهد الوسط الأدبي العراقي، منذ الستينات، محاولات لأدباء في التجريب القصصي، حيث اشتغل هؤلاء على تغيير شكل القصة بغية الإتيان بما يدهش القارئ، فابتعدوا كثيرا عن القصة التقليدية مثلما ابتعدوا عن القضايا المعروفة التي كانت محور اهتمام الأدب، وصار شكل القصة هو ما يقلقهم وينهمكون فيه وليس مضمونها، مع أنهم يتلقون ما يصلهم من آداب عالمية مترجمة، ومنها القصة التي كانت تتجدد بملاحقتها المشاكل الإنسانية المتوالدة أو ابتكار رؤى جديدة لمعالجتها.

ولم يصلنا نتاج فيه من التجريب بالشكل الذي يقترحه البعض عندنا. في الثمانينات جاءت موجة جديدة أشدّ قسوة على هذا الفن الذي يمكن وصفه بالمائدة اليومية للقارئ، تمثلت بالاشتغال على اللغة أو تفجيرها!، أو هكذا عُرفت، وكانت النتيجة كسابقتها، إذ لم يمسك المتلقي منها شيئا مثيرا يجعله يستغني عن القصة التي يعرفها، وظل هذا الوافد الجديد غريبا ثم ذوى غريبا فنسيه الأدباء والقراء معا، لعدم انطوائه على حمولة تعني القارئ وتلامس "جوّانيّاته".

لقد بقي عدد من الأدباء العراقيين، يطورون القصة القصيرة بطريقة تنم عن وعي عميق لرسالة هذا الفن، ويرى هؤلاء أن التجريب الحقيقي هو أن تجعل النص رشيقا ممتعا خاليا من الزوائد التي تُرهّله، فعلى سبيل المثال، كانت هناك عبارة شائعة يستخدمها الأدباء العراقيون هي (ياقته المنشّاة) إشارةً إلى ياقة القميص البيضاء التي كانت تُطلى بنشاء أبيض ناصع! 

والكثير أمثالها من العبارات المملة المكررة التي يطنب فيها بعض القصاصين سابقا وهم يصفون الأشياء والأمكنة ببلاغة لم تعد مستساغة، وقد كانت لنا وقفة سابقة بهذا الاتجاه في هذا المكان بعنوان (مرجان الفيلم .. مرجان القصة) حيث جعلنا من فيلم (مرجان أحمد مرجان)، وغيره من الأفلام الحديثة، مثالا للأعمال الفنية التي تميزت بالرشاقة مع تكثيف جمالي يستحق أن يوصف بالتجريب.

لقد نفر قرّاء كثيرون من القصة القصيرة العراقية بعد أن وجدوا الكثير منها فارغا إلّا من حشو كلامي، مع غياب للفكرة واضطراب في "الثيمة"، وما ينهض دليلا على كلامنا هنا، هو حضور القصة "التشيخوفية" وغيرها من نتاجات عمالقة هذا الفن إلى اليوم على الرغم من مرور نحو قرن وأكثر على كتابتها.

اضف تعليق