أن يصبح الإنسان مثقفاً لا يعني فقط أن يكون قارئاً مهماً أو يحمل شهادات، بل هو رحلة مستمرة تجمع بين المعرفة، الفهم، والتأمل، وتُصقل بالشغف والسعي لتوسيع الأفق. وإليك الآن بعض السمات والخطوات التي تُسهم في تكوين المثقف العراقي...
أن تكون مثقفاً في العالم أمرٌ صعب، لكن أن تكون مثقفاً في العراق هو أمر أقرب إلى المعجزة. لأنك لا تنشأ فقط في فضاء يبحث عن الحقيقة، بل في منفى روحي دائم، حيث تختلط المعرفة بالألم، والكلمة بالدم، والحلم بالخسارات المتكررة.
المثقف لا يُولد هكذا، بل يُصاغ عبر التجربة، والقراءة، والانفتاح، والشك، والجرأة على التفكير خارج الإطار. هو ليس حاوية للمعلومات، بل عقلٌ يحلل، وقلبٌ يشعر، ولسانٌ يسائل، وضميرٌ يتفاعل مع قضايا مجتمعه.
لكن في العراق، للمثقف مهمة مزدوجة؛ إذ عليه أن يكون شاهدًا على تاريخٍ يُعاد تدويره قسرًا، وعلى حاضرٍ يمشي على حافة الانهيار. هو ليس صانع رأي فقط، بل حارس هوية، ومُرمم ذاكرة، وناقش لجراح عميقة لم تُشفَ بعد.
المثقف العراقي محاط بكل ما يُثقل الفكر بما يلي:
•نظام سياسي متقلب لا يحتفي بالعقل بل يُقصيه.
•مشهد اجتماعي يعيش صدمة ما بعد الحروب، وانقسام الطوائف، وتراجع الوعي الجمعي.
•واقع اقتصادي يجعل من الثقافة ترفاً لا أولوية، ومن الكتاب رفاهية مهددة بالانقراض.
ومع ذلك، يبقى المثقف العراقي واقفاً. يكتب، ويقرأ، ويُعلّم، ويصرخ حين يصمت الجميع. يحاول أن يبني جسراً بين ماضي سومر وبابل، وحاضرٍ يحاول أن يتنفس رغم الركام.
هو وريث الحضارات القديمة، لكنه ابن اليوم، يرى في اللغة نجاته، وفي الفن خلاصه، وفي الفكر مقاومة ناعمة لكنها عنيدة.
ليس حيادياً، لأنه في العراق لا يمكنك أن تكون محايداً. كل كلمة تُحسب، كل صمتٍ يُساء تأويله. هو يعرف أن الثقافة ليست آمنة، لكنها ضرورية.
المثقف في العراق لا ينتظر التصفيق، بل يحمل قلمه كأنه سلاح، ودفتره كأنه درع، وكأن عليه في كل يوم أن يُقنع العالم بأن البلاد التي أنجبت الجواهري والسيّاب، لم تفقد بعد قدرتها على إنتاج الوعي والجمال.
فأن تكون مثقفاً عراقياً اليوم، يعني أن تحب وطنك على طريقتك، لا كما يُراد لك أن تحبّه.
أن تحلم، حتى حين لا يترك لك الواقع مساحة للحلم.
أن تكتب، حتى حين تظن أن لا أحد يقرأ.
ونعيد ما قلنا سابقاً...
أن تكون مثقفاً في العالم أمرٌ عسير جداً، لكن أن تكون مثقفاً في العراق، فتلك ملحمة بحد ذاتها. لأنك لا تنشأ فقط في فضاء يبحث عن الحقيقة، بل تُولد في منفى روحي دائم، حيث تختلط الكلمة بالدم، والفكرة بالخطر، والحلم بالخذلان.
فأن المثقف لا يُولد مثقفاً، بل يُنحت من التجربة كما يُنحت الحجر من الصخر. يُصاغ بالقراءة، بالشك، بالتأمل، وبالقدرة على الإصغاء لما لا يُقال. لا تكفيه الكتب، بل يبحث عن المعنى خلف السطور، وعن الحياة وسط الرماد.
لكن في العراق، تتضاعف المهمة؛ فالمثقف هنا ليس شاهداً فقط، بل جزءٌ من المشهد، ومَنفيٌّ في داخله. عليه أن يُفسّر ماضٍ تتراكم عليه طبقات الغبار، وحاضرٍ يترنح على حافة الغياب، وأن يُنقّب عن المعنى في بلادٍ أرهقتها التفسيرات.
تحت سماء العراق، لا يعيش المثقف في برج عاجي، بل في شارعٍ مترب، وسط الناس، يسمع وجعهم ويخزّنه في ذاكرته، ليعيد إنتاجه على هيئة نص، أو موقف، أو سؤال.
هو عدو الصمت، وخصم النسيان، وابن الحيرة النبيلة بين الانتماء للوطن والانتماء للإنسان.
المثقف العراقي يقرأ كما يتنفس، لا هرباً من الواقع، بل بحثاً عن خلاصٍ منه. ينقّب في تراثه كما ينقّب المنجّم عن الذهب في صخورٍ صدئة. يقرأ السيّاب كما يقرأ الفلاسفة، يتأمل الجواهري كما يتأمل المتنبي، ويكتب كما لو كان يكتب لنفسه في آخر الدنيا.
لكن هذه الرحلة محفوفة بالأشواك:
مشهدٌ سياسي متقلّب، لا يحتفي بالعقل بل يُقصيه.
مجتمعٌ ممزق بين الطوائف، تائه بين الحداثة والتقليد.
اقتصادٌ يجعل من الثقافة ترفًا لا ضرورة، ومن الكتاب حِملًا ثقيلًا لا يُغري.
ورغم ذلك، لا يتوقف. يمضي. يكتب. يُعلّم. يُقاوم. يحمل قلمه كما يحمل آخرون سلاحهم، يزرع الجمال في تربةٍ يابسة، ويُصرّ أن العراق لم يُفقد بعد قدرته على إنجاب الوعي.
المثقف هنا لا يطلب التصفيق، بل يسأل: من أنا؟ وماذا يمكن للكلمة أن تصنع حين يعجز الرصاص؟
هو المُحب الذي يختلف، الحالم الذي لا ينام، المؤمن بأن الكتابة شكلٌ من أشكال الصلاة.
فأن تكون مثقفاً عراقياً اليوم، يعني أن تُحب وطنك على طريقتك، لا كما يُملى عليك.
أن تحلم، حتى حين لا يتسع الواقع للحلم.
أن تكتب، حتى حين تظن أن لا أحد يقرأ.
أن تظل واقفاً، حتى حين يسقط من حولك الجميع.
وهنا قد نتساءل: كيف يصبح الإنسان مثقفاً؟ وما معنى أن تكون مثقفاً في العراق؟
لكي تكون مثقفاً في العراق، ليس مجرد ترفٍ فكري، بل هو فعل مقاومة. في بلدٍ أثقلته الحروب، وشوّهت هويته المزايدات، وتنازعته الأيديولوجيات، يُصبح الوعي عملة نادرة، والمثقف ضرورة ملحّة.
المثقف العراقي لا يُولد مثقفاً، بل يُنحت نحتاً من ألم الواقع- كما قلنا سابقاً- ومن جراح الذاكرة الجمعية. يقرأ لا ليهرب من الواقع، بل ليُفكّكه، ويفهمه، ويعيد تركيبه بلغة أعمق. إنه يقرأ السيّاب والبياتي كما يقرأ الجاحظ ونيتشه، ينهل من تراثه، ويقارن حاضره، ويضع وطنه في قلب كل فكرة.
لكن أن تكون مثقفاً عراقياً لا يكفي أن تمتلك المعرفة، بل أن تمتلك الجرأة على النقد، والحلم بالتغيير، والصبر على الخذلان. المثقف هنا لا يعيش في برج عاجي، بل على أرضٍ تميد، يحاور الناس، ويصطدم مع السلطة، ويتعثر بأوهام الطوائف، ويكافح ليبقي روحه حرة.
هو ذاك الذي لا يُساوم على ضميره، حتى وإن أُسكت، ولا يتنازل عن جمال اللغة، حتى في زمن القبح. هو الحائر بين هويته العراقية وانتمائه الإنساني، بين الماضي العريق والحاضر المرتبك.
فإذا كان المثقف في العالم صوت العقل، فالمثقف العراقي هو نبض القلب الجريح، وضمير وطنٍ يحاول أن يتذكّر نفسه.
أن يصبح الإنسان "مثقفاً" لا يعني فقط أن يكون قارئاً مهماً أو يحمل شهادات، بل هو رحلة مستمرة تجمع بين المعرفة، الفهم، والتأمل، وتُصقل بالشغف والسعي لتوسيع الأفق. وإليك الآن بعض السمات والخطوات التي تُسهم في تكوين المثقف العراقي:
1. القراءة المنتظمة والواعية: في مجالات متعددة، أدب، فلسفة، تاريخ، علوم، دين، فن... لا مجرد الاطلاع، بل القراءة النقدية التي تثير الأسئلة وتُحرّك التفكير.
2. الانفتاح على الآخر: المثقف لا يحبس نفسه في قوالب فكرية أو أيديولوجيات مغلقة، بل يسعى لفهم وجهات النظر المختلفة والتفاعل معها.
3. الشك الإيجابي: لا يقبل كل ما يُقال له، بل يُحلّل، ويختبر، ويُعيد النظر، حتى في أفكاره الخاصة.
4. الكتابة أو التعبير: بالكتابة أو الحوار أو الفن، يُحاول المثقف أن يُبلور أفكاره ويشاركها، لا ليُعلّم فقط، بل ليُعيد التفكير فيها من جديد.
5. الوعي بالواقع: المثقف مرتبط بمجتمعه وزمانه، يُراقب التغيرات، ويتفاعل معها بفهم لا بعاطفة فقط.
6. الاستمرارية والتواضع: المثقف يدرك أن طريق المعرفة لا نهاية له، وأنه مهما تعلّم، لا يزال يتعلم.
ولهذا، لا يُقاس المثقف العراقي بعدد كتبه، ولا بحجم شهرته، بل بقدرته على البقاء إنسانًا وسط كل هذا الخراب، وعلى أن يحمل جذوة النور في العتمة، حتى وإن أحرقت أطراف أصابعه.
هو آخر الرابضين على أسوار المعنى، لا يبيع قناعاته، ولا يساوم على ضميره، ولا يكتب إلا حين يشعر أن الكتابة ضرورة داخلية، لا وظيفة.
هو الحرف الذي لا يُحني رأسه، والكلمة التي تنبت حتى من باطن الجرح.
ففي عراقٍ منهكٍ بالتقلبات، تظل الثقافة شجرة العنقاء، تنبعث من رمادها، والمثقف فيها ليس شاهدًا على النهاية، بل نذير البداية الجديدة.
لذلك نقول: إذا أردت أن تعرف ما تبقى من روح العراق، ففتش عن مثقفيه، ففيهم يُختبأ الوطن الحقيقي.
اضف تعليق