لا تتكلم كضحية، بل كقائدة تعلّمت أن الشجاعة ليست في ألّا تسقط، بل أن تنهض من كل سقطة بسلم أعلى، وتقول: الحب ليس كلمة... الحب تضحية، واهتمام، وحنان. الحب أن تكون الصديق، والأب، والأم، والأخ، والزوج في آنٍ واحد...
سكون الفجر يلفّ المدينة، والسماء تتهيأ لشمس جديدة، في زاوية شاهقة من المكان، امرأة تمسك بدرجات السلم المعدني، تصعده كما لو أنها تصعد جرحها الشخصي درجةً درجة.
مروة حسين، ابنة القدس من جبل المكبر، لا تتسلق لتعمل فقط، بل لتثبت أن القلب إذا اشتعل بالإيمان، لا تُسقطه الجاذبية.
فوق الرافعة تضع خوذتها، وتشغّل إذاعة تتلو آيات من القرآن الكريم، لا ترى شيئًا سوى الضوء والهواء، وتشعر بقلبها يدقّ في فراغ السماء، وثم تبدأ يومها... كمقاتلة، لا كعاملة.
وُلدت مروة في 20 يونيو 1993، كانت تعيش كزهرة في بيتها، ومحاطة بعناية زوجٍ يملأ قلبها حبًا، وعائلة لا تدع للوجع سبيلًا إليها، وتستيقظ على دفء الحنان، وتحلم بمستقبل هادئ، كل شيء كان مرسومًا بلون الورد... إلى أن جاء ذلك الاتصال، الذي لم يغيّر يومها فقط، بل أعاد رسم قدرها من جديد.
في 28 يونيو 2013، وبعد سنة ونصف من زواجها، تلقت خبرًا كاد يمحو صوتها من الدنيا أن زوجها "أبو حسن" تعرّض لحادث سير مروّع قرب مدينة طبريا وأُبلغت بوفاته، وعندما بدأت لحظة الانهيار، جاءها اتصال أخر: "زوجك حيّ... لكنه مشلول بالكامل."
من تلك اللحظة انقلبت حياتها، لم يكن الشلل في الجسد فقط، بل في الواقع كله، صارت هي المعيلة، والسند، والكتف الذي يحمل العائلة، طوت صفحة الأحلام المؤجلة وفتحت كتاب الحياة الثقيل بيدٍ واحدة وقلبٍ مثقل بالمسؤولية.
عام كامل قضاه زوجها في المستشفى، تنقّلت خلاله بين مستشفيات الإمارات، والأردن، وتايلند، تطارد الأمل كمن يطارد سرابًا، والنتيجة واحدة: "لا شفاء".
لكنها لم تستسلم.
أصبحت مروة زوجة، وأمًا، وممرضة، وعاملة، وسندًا روحيًا، ووسط هذا الحمل الثقيل أنجبت ابنها حسن، الذي كان جنينًا في شهره الثالث حين وقع ذلك الحادث، اليوم، حسن في الصف السادس، يركض خلف كرة القدم، ويسأل والده يوميًا: "بابا، لماذا لا تمشي؟"
في 2017، حاولت العودة للدراسة لكنها رسبت، فخرجت محبطة، وفي 2019، أسست مشروعًا اقتصاديًا صغيرًا، إلا أن جائحة كورونا كانت أسرع، فأُغلق المشروع، وانكسرت من جديد.
لكن مروة كانت تعرف كيف تنهض من الكسور بسلالم أعلى، في عام 2020 بدعم من زوجها، عادت إلى الدراسة والتحقت بكلية التغذية والرياضة ونالت شهادة البكالوريوس.
وبدأت تمارس عدة وظائف، كانت تعمل عاملة خدمة في إحدى مدارس القدس، تكنس الأرض، لكنها في الحقيقة تكنس اليأس من روحها، وتبتسم لله شكرًا، كأن كل زاوية نظيفة في المدرسة تقربها خطوة من الضوء.
ثم بدأت رحلة التغيير الجسدي والنفسي وفي أشهر معدودة خفّضت وزنها إلى النصف، النساء كنّ يسألنها عن السر فتجيب بابتسامة: "الدورات الرياضية والنظام الغذائي." درّبت أكثر من 500 امرأة، وأطلقت ورشًا رياضية وتغذوية حضورًا وأونلاين.
من المال القليل الذي ادّخرته التحقت بدورات قيادة المركبات، وحصلت على رخص الشاحنات، والحافلات، والدراجات النارية، لم تكتفِ، بل غرقت في البحار كغوّاصة، ومارست الكيك بوكسينغ في الوزن الثقيل وحصدت ميدالية ذهبية، وركبت الخيل، كأنها تمتطي المصير.
ثم دخلت دورة قيادة الرافعات البرجية ونالت رخصتها، الآن، تعمل لساعات طويلة، تصعد أكثر من مئة متر في أكثر من عشر دقائق، تتوقف بين طابق وآخر لتلتقط أنفاسها، أن العمل في الأعلى لا يحتمل الخطأ لكن قلبها أثبت أنه لا يعرف السقوط.
تعمل وسط عمّال من جنسيات مختلفة، وتتحدث العربية وتحاول تعلّم الرومانية، وتطلب وقتًا للصلاة فيصمت الجميع احترامًا، تؤمن مروة أن كل عمل عبادة وكرامة الإنسان لا تُقاس بالوظيفة بل بالنية.
تحلم بأن تصبح مدرّبة معتمدة في قيادة المركبات، تعرف الطريق وخطواته وتتيقن أنها ستصل، لأن من وصلت إلى السماء لا تعرف طريقًا آخر سوى الصعود.
زوجها أبو حسن، قبل أن يقعده الحادث، كان بطلًا رياضيًا في الكاراتيه، عضوًا في منتخب فلسطين، يحمل الحزام الأسود أربع مرات، وشارك في بطولات عديدة، وحاصل على بكالوريوس محاسبة، وحافظ للقرآن الكريم، وكان كهربائيًا، مدربًا، وصديقًا، والآن هو معلّمها، ويدعمها نفسيًا، ويساعدها في حفظ القرآن الكريم، يقول لها: "الشلل الحقيقي ليس في الجسد، بل في الروح."
تحاول حفظ القرآن خلال وقت الراحة، وفي الطريق إلى العمل، وفي صمت الليل، لا تتمنى من الدنيا إلا شيئًا واحدًا: أن ترى زوجها واقفًا، يضحك، ويحمل حسن إلى المدرسة، كل صباح، يقبّل حسن يد والده، ويسألها: "كان واقفًا... لماذا الآن فقط جالس؟"
تقول مروة، بعينين لا تبكيان: إن "منيتي أشوفه واقف، هاي أمنيتي الوحيدة، وعندي ثقة كبيرة برب العالمين، قدوتي نبي الله أيوب ويونس(عليهما السلام)".
لا تتكلم كضحية، بل كقائدة تعلّمت أن الشجاعة ليست في ألّا تسقط، بل أن تنهض من كل سقطة بسلم أعلى، وتقول: "الحب ليس كلمة... الحب تضحية، واهتمام، وحنان. الحب أن تكون الصديق، والأب، والأم، والأخ، والزوج في آنٍ واحد."
في يومٍ ما، بعد أن تُنهي دورة قيادة المركبات، ربما تترك الرافعة، وتبدأ مشروعها الجديد، لا أحد يعلم مساره، لكنها وحدها تعرف أنها ستصل، لأن من تعلّمت أن تطير، لا يمكنها أن تعود إلى الأرض... إلا محلّقة.
واليوم، تقول مروة حسين بفخر: إن" وصلتُ إلى هذه المرحلة من النجاح والتوفيق... صار لي اسمٌ نموذجي في فلسطين، ما وصلت إليه كان بفضل الله، ثم بوقوف زوجي إلى جانبي."
قال أبو حسن زوج مروة: إن "أنا لا أعتبر مروة مجرد زوجة، بل هي سندي وعمودي الفقري في هذه الحياة، منذ أن تعرضت لحادث السير الذي قلب حياتي رأسًا على عقب، كانت هي أول من وقف بجانبي دون تردد، بل وبكل ما أوتيت من صبر وقوة."
وأضاف: "لم ترَ في إعاقتي نهاية، بل بداية جديدة لنكمل الطريق معًا، تحمّلت مسؤولية البيت والأسرة، وتحولت من زوجة إلى أم وأب ومدرّبة وممرضة، وكل هذا دون أن تشتكي أو تتراجع."
وأوضح: "رغم أنها كانت تعمل سابقًا معلمة وأخصائية تغذية، قررت أن تتعلم قيادة الرافعة، فقط لتضمن لنا حياة كريمة، ولم تكتفِ بذلك، بل واصلت التعلم والعمل بكل شغف."
وأكد: "أنا فخور جدًا بها، وأشعر أن من واجبي أن أكون أول من يؤمن بها ويدعمها، الحياة الزوجية بالنسبة لي شراكة، ومروة كانت دائمًا الطرف الأقوى في هذه الشراكة."
وختم حديثه قائلاً: أن "كل يوم أزداد قناعة بأنني محظوظ بوجودها في حياتي، ومهما فعلت، لن أستطيع أن أُجازيها على ما قدمته لي ولابننا، لقد أعادت لي الحياة... وهذا أكثر مما كنت أحلم به."
اضف تعليق