q

د. لاهاي عبد الحسين

 

تقوم فكرة "الثقافة"، إبتداءً على كمٍ من الأدراكات بأهمية الأشياء وفي مقدمتها الشعور بالأنتماء للجماعة كما عبّر عن ذلك علماء الاجتماع والأنثـروبولوجيا المحدثون.

وتقوم فكرة "الثقافة الوطنية"، تفصيلاً على أساس التماثل والأرتباط بالدولة فيما تقوم فكرة الثقافة الفرعية لأيٍ من الجماعات الفرعية بما فيها الدينية والمذهبية والعرقية والجندرية والثقافية على فكرة المطالبة بحقوقها الجزئية والتي يمكن أنْ تنسجم مع الكل الأكبر في حال تمّ الاعتراف بها ونظمت شؤونها بقوانين صارمة تمنع العودة الى مربع الاستغفال والاضطهاد وهضم الحقوق. وبذلك يقام الجسر الواصل بين الوطني العام الشامل من جانب، والفرعي المحلي الجزئي، من جانب آخر. فيما عدا ذلك، فأنّ تجاهل الجماعة الفرعية والتغاضي عن مطالباتها بحقوقها المشروعة والسماح لذلك بأنْ يصل حد التذمر والشكاوى المريرة قد يؤدي بها الى التمرد الذي يمكن أنْ يصنع منها جماعة "وطنية" تطالب بالانفصال والتحرر من البلد الأم. وليس في تعاظم دور الثقافات والجماعات الفرعية.

في العراق اليوم ما يدعو الى التساؤل والتعجب والغرابة، على الأطلاق. فقد برزت هذه الظاهرة على مسرح الأحداث عالمياً بجلاء في أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي وبروز ما لا يقل عن دزينة من الدول التي كانت تعيش بكنفه كما في كرواتيا، جزر المالديف، أرمينيا، أذربيجان، الشيشان وغيرها. وسرعان ما لحق ذلك إنهيار نظام الدولة القوية المركزية في عدد من بلدان أوروبا الشرقية مما أسهم ببروز النزاعات والحروب والصراعات العرقية بصورة غير مسبوقة، كما بين التشيك والسلوفاك والبوسنيين والصرب وغيرهم.

أظهرت هذه التطورات على مستوى العالم فشل تنبؤات علماء الاجتماع الكلاسيكيين من أمثال كارل ماركس وماكس فيبر وغيرهما ممن بشّروا بأفول نجم الجماعات الدينية والعرقية مع تنامي نظام الدولة الوطنية القومية الحديثة نتيجة إندماج هذه الجماعات وإنصهارها في الوعاء الوطني والقومي الكبير. تساندت الجهود على الجانب الآخر من القارة الأوروبية لتحقيق مزيد من الأندماج والتوحيد ضمن منظومة الاتحاد الأوروبي على الرغم من مشاعر القلق بشأن إضمحلال واحتمال تغييب دور الجماعات الفرعية.

ومع أنّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي صعَّد مشاعر الخوف من انفراط عقد الاتحاد إلا أنّ هذه المشاعر سرعان ما وجدت مَن يطمئنها ويهدئها بالعمل والسياسات التي تحمي حقوق ومصالح المجتمعات المنضوية ضمن الاتحاد الأوروبي وليس من خلال التجافي والتجاهل كما حدث ويحدث في بلدان أخرى كثيرة من بينها العراق.

وكانت إحدى نتائج حرب 2003 أنّها بأسقاط نظام الدولة المركزية القوية أطلقت العنان لمختلف الجماعات الدينية والمذهبية والعرقية، بل وحتى الجندرية للمطالبة بحقوقها وتأمين مصالحها على الضد من بعضها البعض. وتمثّل التحدي الذي واجه النظام الجديد في تعلق الكثير من العراقيين بنموذج الدولة المركزية القوية والنظام الرئاسي الذي بدا أكثر فعالية وحنكة مما حصل في ظل النظام النيابي الديموقراطي المقترح لمواجهة مختلف الأزمات وبخاصة ما إرتبط منها بالجانب الأمني والمجتمعي.

ولعل ما زاد الطين بلّة إقتران أداء النظام الجديد بمديات غير مسبوقة من الفساد الإداري والتلاعب بالمال العام والنزاعات العشائرية والاضطرابات الشعبية، بل وحتى اشتعال الحرب نتيجة إجتياح جماعات ارهابية لمناطق واسعة عديدة في أكثر من محافظة عراقية. فكان أنْ برزت الى السطح موجات تذمّر واحتجاجات واسعة على العجز الحكومي والضعف وقلة الخبرة في ادارة شؤون البلاد الى جانب شيوع سياسات معتلة كما في مبدأ "التوازن" سيء الصيت والمحاصصة المذهبية والعرقية، على وجه التعيين.

ولم يكتفِ بذلك فسرعان ما اختلفت الجماعات المعنية بالسلطة والحكم ذات الصبغة الموحدة دينياً ومذهبياً التي يُفترض أنْ تكون منسجمة على الصعيد الداخلي مما سمح بظهور التكتلات الحزبية والكتلية وبالتالي إنهيار مبدأ "وضع الشخص المناسب في المكان المناسب" والسماح بظهور مختلف الترشيحات والتعيينات المشوهة على حساب الأهلية والسعة والقابلية والكفاءة. وأعطت ممارسات "الاستجواب" النيابية صورة واضحة لمدى الخلل الذي أُصيبت به المؤسسة التشريعية الأكثر أهمية في البلاد للتأسيس لحكم القانون والنظام كما تجلى ذلك في فهم وتطبيق الاستجواب كآلية للرقابة الشعبية على مستوى الأداء الحكومي الذي تحول الى ما يُشبه "التقرير الاخباري" أو "الكيدي".

وتمثل الإشكال الرئيس أنّه في ظلّ عالم اليوم ومتغيراته المتسارعة وبروز نجم الجماعات الفرعية الكبيرة منها والصغيرة وبمختلف عناوينها الدينية والمذهبية والعرقية والجندرية والثقافية لم يعد ممكناً أو عملياً العودة الى الوراء والأستنجاد بالنظام المركزي القوي أو تخيل الوحدة الوطنية من دون إتخاذ إجراءات وتبني سياسات تمنح الجماعات المتعددة حقوقها وتحمي مصالحها وتؤمّن مرابعها. أمام هذه التطورات صار واضحاً أنّ فكرة العراق الموحد بنمطها التقليدي لم تعدْ مجدية. فقد ظهر عراق مختلف اليوم تطالب فيه مختلف الجماعات بحقوقها ومكانتها وضرورة تمثيلها. ويبدو أننا بحاجة الى تعلّم عدم التطيّر من تنامي مطالبات الجماعات المشار اليها بأعتبارها مطالبات تتعارض مع الإرادة الوطنية العامة الشاملة والجامعة. بل المطلوب التفكر بكيفية العمل لإيجاد آليات تؤدي الى تلبية حاجات هذه الجماعات وإنصافها من دون التفريط بوحدة وسلامة العراق كونه الراعي والسلطان.

وقد يتطلب أمرٌ من هذا النوع تغييراً في موقف الحكومة الاتحادية للتوقف عن القيام بدور "الأخ الكبير" والسماح لفريق عمل مهني ورسمي يقوم بتوزيع المسؤوليات بعلمية وحيادية وبما يضمن إعطاء فرص متساوية ومتكافئة للجميع من دون مراتبية وتفاوت وتمييز ضمن نظام مؤسساتي راسخ الجذور وقوي القواعد كما في مجلس القضاء الأعلى ومجلس نيابي تمثيلي ومجلس الخدمة الاتحادي، الخ.. أما أنْ يسمح بتأسيس هيئات تعنى بشؤون الجماعات المتباينة المشار اليها كل على إنفراد فلا يعني الا أنْ يفتح الباب لتعميق التقوقع والأنغلاق على حساب التلاقي والانسجام من دون الحاجة للإذابة والانصهار بحجة "الجسد الواحد". لسنا جسداً واحداً ولكننا جسدٌ متساندٌ ومتكاملٌ ومتعاونٌ وبنّــاءٌ.

لقد دخل العراق نفق النزاعات المسلحة الدامية نتيجة انفلاق الأزمات الدينية والمذهبية والعرقية وما يتبعها من ثقافات فرعية ممثلة ساهمت بتعبئة المشاعر وإذكاء نيران الحقد والتعصب والكراهية لدى أعداد كبيرة تكاد لا تحصى من الأفراد ممن لعبوا دور الأدوات المنفذة. ولا يتوقع لذلك أنْ ينتهي ويعود العراق واحة سلام من دون تصفية هذه المتعلقات والعمل على تمثيل وتطمين مشاعر أعضاء هذه الجماعات ليس من خلال المحو والحذف والحظر وغضّ النظر وإنّما من خلال المواجهة والتفاهم والتواصل والحوار البنّاء. لقد شقت المجتمعات الإنسانية طريقها نحو الاستقرار وقطع دابر الحروب والنزاعات الدموية القاتلة من خلال احترام الإنتماءات الفرعية لا الادعاء بعدم وجودها أو محوها بالقوة أو بالترضية والإقناع على سبيل التسكين وليس معالجة الحالة السلبية واستئصالها من جذرها.

حتى يحدث ذلك فإنّ أمامنا الكثير مما يتوجب القيام به ليس على المستوى الحكومي فحسب وإنّما على المستوى الشعبي والمجتمعي أيضاً. لقد أظهرت الحركة الاحتجاجية المتواصلة وتنامي تأثير وسائل التواصل الاجتماعي أنْ لا بديل عن التحرك والمساهمة لإصلاح الحال على مختلف المستويات وليس المستوى الفردي أقلها أهمية. لم يعد ممكناً التحرك على الضد من حركة التاريخ والزمن إنسجاماً مع عقارب الساعة وليس على عكسها.

اضف تعليق