مصطفى إبراهيم إبراهيم

 

ابتلينا في منطقتنا العربية والإسلامية بالفاشية العسكرية التي سطت أو اغتصبت الحكم في عدة بلدان عربية قبل عقود، وكارثتنا "كما لا يخفى على كل بصير" هي أسلوب الحكم الفاشي والقمعي الذي يتبعه الحكام العسكريون منذ اعتلائهم عروش كثير من الأقطار في بلادنا واعتلائهم رقاب وظهور شعوبهم وقهرهم، في الأمة العربية ولإسلامية بصفة عامة، والنموذج الأوضح والأقبح في مصر وسوريا..

ففي مصر صنعت الطغمة العسكرية "مع مرور الوقت" حول نفسها هالة من القدسية الدينية، فصارت الجيوش وقادتها محاطين بهالة دينية، وتابوهات شرعية مصطنعة ومفتعلة وكاذبة، عبر وسائل إعلام مأجورة تتحرك بتعليمات الشؤون المعنوية ومديري مكاتب القادة العسكريين، وبالاستعانة أيضاً بمشايخ وعمائم السلطة الذين تفننوا عبر عقود في فرض هذه الهالة المقدسة المزعومة، بتوظيف أو ليّ أعناق الأدلة الشرعة لترويج الحديث الضعيف "خير أجناد الأرض" الذي حكم عليه علماء الحديث بأنه باطل أو لا أصل له، وراويه هو ابن لهيعة، وهو ضعيف، كما قال علماء الرجال، واقتصرت الأحاديث الصحيحة على التوصية بأهل مصر وقبط مصر وعدم ظلمهم أو الجور عليهم، لكن ترويج الحديث الضعيف "خير أجناد الأرض" كان لتجريم ولتحريم انتقاد أو مجرد الاختلاف مع قادة العسكر.. وإلصاق تهم الخيانة والعمالة بمن ينتقد أو حتى يختلف مع هؤلاء القادة، وتطور الأمر إلى ما يشبه الثيوقراطية، لكنها ليست دينية، بل عسكرية "ومن باب نسبة الفضل إلى أهله تجدر الإشارة إلى أن أول من أطلق هذا المصطلح هو د. أحمد مطر، رئيس المركز العربي للدراسات السياسية والاقتصادية.

والثيوقراطية الدينية كما هو متعارف عليه هي الحكم الشمولي المطلق باسم الإله.. وتقوم على عاملين، أولهما أن يكون الحاكم "سواء شخصاً أو أسرة أو رجال المؤسسة الدينية الكنسية" مندوباً أو حاكماً باسم الإله.. لا يُسأل عما يفعل ولا يُناقش ولا يُنتقد ولا حتى يُسمح بالاختلاف معه في الرأي.

والعامل الثاني هو الديمومة أو الاستدامة بمعنى أنه ينتقل حق الملك الإلهي إلى رجل أو أسرة أو طائفة أخرى غير المحتكرة للحق الإلهي في الحكم.. وإذا انتقل لأي ظرف تكون خطيئة كبرى يجب العودة والرجوع عنها إلى الوضع الطبيعي، وهو احتكار الحكم في الحاكم الأصيل باسم "الإله".. وهو ما ينطبق على حالة الثيوقراطية العسكرية التي ضمت إليها الحكم باسم الإله، وأيضاً احتكار الوطنية والدفاع عن الشعب واحتكار معرفة مصلحة الوطن ونزع هذه القيم عن غير العسكريين.

وتتضح الثيوقراطية العسكرية في أفجر صورها في تصريحات وتصرفات القادة العسكريين، نذكر منها مثلاً ما كان يردده المخلوع حسني مبارك من أن العسكرية المصرية هي مدرسة الوطنية، ما يعني أن خريجيها فقط هم الوطنيون، وما سواهم ليسوا وطنيين أو أقل وطنية من العسكريين، وكذلك رد المشير حسين طنطاوي على لجنة تقصي الحقائق التي اتهمت أجهزة الإنذار والإنقاذ بالقوات المسلحة المصرية بالتقصير في حادث غرق العبارة "سالم إكسبريس"، قائلاً: الجيش لا يحاسب ولا يسأل وهو فوق المساءلة والمحاسبة، وكذلك ما يصرح به من يسمون بالخبراء الاستراتيجيين مثل اللواء حمدي بخيت، الذي قال في إحدى تجلياته إن الجيوش الكبرى هي التي تصنع تاريخ بلادها، كما صرح قائد عسكري بأن الجيوش هي التي تقوم عليها الدول؛ لأن الدول الحديثة قائمة على الحدود التي تحميها الجيوش، وبالتالي فلا وجود للدولة بدون جيش، وبنى على ذلك فرضية أو مسلمة بأن كل ما بداخل هذه الحدود يجب أن يكون خاضعاً للجيش، وكل أفراد الشعب إما "عامل أجرة عند الجيش، أو صاحب عمل في الأرض التي يملكها الجيش ويحميها"..

وكان آخر تلك التجليات العسكرية تصريح رئيس برلمان الانقلاب في مصر بأنه لا يجوز ولا يصح مناقشة دخل أو ميزانية القوات المسلحة، ولا دخل قادتها، سواء من في الخدمة أو من على المعاش، مضيفاً أن البرلمان يحني هامته إجلالاً واحتراماً لقادة القوات المسلحة، وكأن الجيش بقادته ليس سوى جزء من الشعب له مهمة الدفاع عن الدولة والشعب، وهي مهمة وطنية مثلها مثل مهمة الشرطة في حفظ الأمن ومثل مهمة الأطباء ووزارة الصحة في الحفاظ على صحة الشعب، بل أصبح الأمر وكأن كل هؤلاء خدم أو عمال "أنفار" يعملون بالأجرة أو أصحاب أعمال يقيمون في إقطاعية العسكر ويدينون لهم بالسمع والطاعة..

وللأسف ترسخت هذه المفاهيم حتى ساد عند الكثير من العوام مقولة: "مصر لا يصلح لحكمها سوى العسكر"، والأنكى مما سبق أنه عندما تم الخروج على هذه الأكذوبة لمدة عام واحد، وهي عام حكم د. مرسي، خطط العسكر منذ انطلاق شرارة ثورة يناير/كانون الثاني لوضع الخطط وتدبير المؤامرات للحفاظ على حقهم الإلهي المزعوم في حكم مصر، واستعادته إذا خرج من بين أيديهم، بل والتصريح بالتكفير عن السنة النشاز التي خرج فيها الحكم "صورياً" عن أيديهم، ودبروا المؤامرات التي اعترف بها قائد الانقلاب العسكري "السيسي"، وكشف عن تدبيرها قبل انقلاب 3يوليو/تموز بفترة زمنية ليست قصيرة.. وأيضاً ارتكبوا المذابح بدءاً بـ"ماسبيرو" ومروراً بـ"محمد محمود 1 و2" ومسرح البالون ومجلس الوزراء والمنصة والحرس الجمهوري ورابعة ورمسيس والدقي للتكفير عن خطيئة الاحتكام إلى غير العسكر، والتوبة عن هذه الجريرة والعودة إلى جادة الصواب بعودة مصر أسيرة للجنرالات مرة ثانية.

ومن صور الثيوقراطية العسكرية أيضاً الإصرار على عدم محاسبة الجنرالات تحت أي ظرف ولا في أي أمر يخص المؤسسة العسكرية، سواء في مجال الدفاع عن الشعب والقيام بمهمتها الرئيسية قبل ظهور مهام صناعة الكعك والغُريبة والمكرونة والصلصة، ولا يحق للبرلمان ولا لأي جهة وطنية مراجعة تلك الميزانية المؤسسة، والتشبث بأن تكون هذه الميزانية رقماً واحداً في الميزانية يذكر للمعرفة فقط من قبل البرلمان، والنص على ذلك في الدساتير المختلفة سواء قبل ثورة يناير أو بعدها، ويجب على كل وطني شارك في ذلك التكفير عن هذه الخطيئة الكبرى في حق الوطن..

وهنا يثور سؤال: أين النخب المدنية والليبرالية التي أيدت 30 يونيو/حزيران و3 يوليو/تموز.. وما زالت تدور في فلك العسكر، وإن عاد بعضها عن تأييد هذه السلطة الغاشمة، أين من صدعوا رؤوسنا بالحديث المتواصل عن مدنية الدولة، ورفض الحكم بما أنزل الله.. والترهيب بفزاعة الثيوقراطية والحكم الديني باسم الإله؟ لماذا يسكتون عن هذه الثيوقراطية العسكرية، التي وصلت في بجاحتها وكفرها في سوريا لأن يستبدل الجند والضباط اسم بشار بدلاً من لفظ الجلالة في كلمة التوحيد يقولون: "لا إله إلا بشار"، والعياذ بالله.

القول الفصل في نهاية الأمر للشعب، وسيأتي اليوم الذي تنفض فيه هذه الشعوب وهذه الأمة غبار هذه الطغمة الفاشية، ولكن بعد أن يزداد الوعي بمخاطر حكمها وتنفيذها لمخططات الأعداء وعرقلة نهوض الأمة.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق