شهد الشهران الماضيان عمليّات اغتيال كبيرة وواسعة للنشطاء في الاحتجاجات العراقيّة، وسط عجز تامّ من قبل السلطات العراقيّة في الكشف عن القتلة. مع استعادة القوى المناهضة للاحتجاجات إثر تصاعد الأزمة بين الولايات المتّحدة الأميركيّة وإيران في العراق، تستمرّ عمليّة اغتيال النشطاء في حركة الاحتجاجات بمختلف...
بقلم: مصطفى سعدون
شهد الشهران الماضيان عمليّات اغتيال كبيرة وواسعة للنشطاء في الاحتجاجات العراقيّة، وسط عجز تامّ من قبل السلطات العراقيّة في الكشف عن القتلة.
مع استعادة القوى المناهضة للاحتجاجات إثر تصاعد الأزمة بين الولايات المتّحدة الأميركيّة وإيران في العراق، تستمرّ عمليّة اغتيال النشطاء في حركة الاحتجاجات بمختلف المدن العراقيّة، ومع دعوة المحتجّين إلى مظاهرات واسعة اليوم في 10 كانون الثاني/يناير، من المتوقّع أن ترتفع حالات اغتيال النشطاء.
قتل مراسل تلفزيون دجلة أحمد عبد الصمد ومصور القناة صفاء غالي في وسط مدينة البصرة خلال تغطيته للاحتجاجات في 10 يناير. أطلق مسلحون يحملون سيارة مجهولة النار عليه من مسافة قريبة وهربوا على الفور.
أدانت السفارة الأمريكية في بغداد بشدة اغتيال الصحفيين في قناة دجلة، مطالبة الحكومة العراقية بإجراء تحقيق جاد ينتهي بالعثور على الجناة وتقديمهم الى العدالة، لضمان حماية حرية التعبير في البلد.
ولكن على الأرجح لن يتم إجراء تحقيق بشأن وفاته ولن يتم التوصل إلى نتيجة، على غرار العشرات من الحالات الأخرى خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة التي اندلعت فيها الاحتجاجات في وسط وجنوب العراق.
ففي 4 كانون الثاني/يناير الحاليّ، قتل أحد النشطاء في الاحتجاجات العراقيّة بالقرب من مدينة الصدر خلال هجوم مسلّحين يستقلّون درّاجة ناريّة. وقبله بـ3 أيّام، قتل ناشط آخر بهجوم مسلّحين "مجهولين" في جنوبيّ غرب العاصمة العراقيّة بغداد. وفي 22 كانون الأوّل/ديسمبر من عام 2019، نجا الناشط في الاحتجاجات العراقيّة حسن عبد المحسن البهادلي من محاولة اغتيال على يدّ مسلّحين مجهولين رشقوا سيّارته بـ4 رصاصات أدخلته إلى المشفى، الذي ما زال يرقد فيه بسبب الإصابة.
وقبل يومين من محاولة اغتيال البهادلي، ركّز المرجع الدينيّ الأعلى السيّد علي السيستاني في الخطبة التي ألقاها وكيله عبد المهدي الكربلائيّ في 20 كانون الأوّل/ديسمبر على عمليّات اغتيال النشطاء، وأطلق علي السيستاني وصفاً جديداً عليهم، وقال إنّهم "فاعلون في التظاهرات".
ولم تمنع خطبة السيستاني وتأكيده المستمرّ على ضرورة الحفاظ على حياة الناشطين، الأطراف التي تقوم بعمليّات الاغتيال، والتي عجز الجميع عن تسميتها أو كشفها، ويبدو أنّها تتحرّك بكلّ سلاسة وتنفّذ عمليّاتها متى تريد.
ومنذ الأوّل من تشرين الأوّل/أكتوبر من عام 2019 حتّى 24 كانون الأوّل/ديسمبر من العام ذاته، قُتل 26 ناشطاً فاعلاً في الاحتجاجات العراقيّة، بينما نجا 3 منهم من محاولات اغتيال، وفقاً لإحصائيّات المفوضيّة العليا لحقوق الإنسان في العراق.
نصف عمليّات الاغتيال الـ26 كان في العاصمة العراقيّة بغداد، بينما توزّع النصف الآخر على عدد من المحافظات الجنوبيّة، والغريب أنّ خطابات ومواقف رئيس الحكومة العراقيّة المستقيل عادل عبد المهدي والقيادات الأمنيّة خلت من أيّ حديث عن تلك العمليّات.
وقال عضو مفوضيّة حقوق الإنسان في العراق هيمن باجلان لـ"المونيتور": "إنّ عمليّات القتل التي تطال النشطاء في بغداد والمحافظات الجنوبيّة، تؤشّر إلى أنّ هناك جماعات مسلّحة غير تابعة للدولة تحاول إجهاض الحراك الاحتجاجيّ في العراق، ونحن في المفوضيّة أشرنا إلى أنّ عمليّات القتل تطال النشطاء الميدانيّين في الحراك".
أضاف: "نعمل الآن للضغط على الحكومة من أجل معرفة الجهات التي تقوم بتلك العمليّات، ونتوقّع أنّ أكثر جهة هي التي تنفّذ كلّ هذه العمليّات. نشعر بخطر كبير على المحتجّين، وعلى الحكومة العمل لحمايتهم ومحاسبة الجناة".
ولم تخل عمليّات الاغتيال من القصص الغريبة، إذ في الـ20 كانون الأوّل/ديسمبر قتل الناشط علي العصمي بمحافظة ذي قار-جنوبيّ العراق، لكنّه لم يكن هو المستهدف، فشقيقه الناشط سلام العصمي هو الذي كان مستهدفاً، ووجّه رسالته إلى "القتلة" في اليوم ذاته، قائلاً: "هذا الذي قتلتموه أخي الصغير، وليس أنا. كان أخي سيتزوّج بعد أشهر".
أثارت عمليّات الاغتيال رعباً كبيراً في صفوف المحتجّين، الذين يضطرّ بعضهم إلى عدم العودة للبيت وترك ساحات الاعتصام، خصوصاً أولئك الذين في ساحة التحرير-وسط بغداد، فكثيراً ما تحدّثوا عن مخاوف كبيرة ومراقبة تحيط بهم من قبل جماعات مسلّحة.
لا أحد من النشطاء في المجتمع المدنيّ كان يتوقّع أن تكون عمليّات الاغتيال "بشعة" إلى هذا الحدّ، وكلّ ما كانوا يتوقّعونه، وإن اشتدّت الأحداث، عمليّات اعتقال أو اختطاف وتهديد، لكنّهم فوجئوا بالسياسة المتّبعة من قبل الأطراف المناهضة للاحتجاجات باللجوء إلى القتل عبر عمليّات الاغتيال.
وأشارت مفوضيّة حقوق الإنسان، وهي مؤسّسة وطنيّة مرتبطة بالبرلمان العراقيّ وشكّلت وفق مبادئ باريس 1993 الخاصّة بالمؤسّسات الوطنيّة المعنيّة بحقوق الإنسان، إلى أنّها "تضغط على الحكومة العراقيّة للحدّ من عمليّات الاغتيال التي تطال النشطاء في الاحتجاجات".
وفي حقيقة الأمر، لا تستطيع المفوضيّة أن تتجاوز الحدود التي وضعت لها عندما صوّت على أعضائها في البرلمان العراقيّ، فهي في المحصّلة مؤسّسة خاضعة للمحاصصة، وأعضاؤها ينتمون إلى الأحزاب الموجودة في السلطة. وبالتّالي، لن تكون قادرة على التطرّق أو الحديث عن قتلة المحتجيّن حتّى وإن وصلت إليهم.
لم تكشف السلطات العراقيّة حتّى الآن عن الأطراف التي تقوم بعمليّات اغتيال النشطاء، ولم تعلّق على الحوادث أساساً، لكن ما يتمّ تداوله في الأوساط السياسيّة العراقيّة والشعبيّة أنّ الاتّهامات توجّه إلى جماعات مسلّحة مقرّبة من إيران.
قال مستشار المركز العراقيّ للدراسات الاستراتيجيّة باسل حسين خلال مقابلة مع "المونيتور": "أعتقد أنّ عمليّة قتل المتظاهرين واستهداف الناشطين دخلت مرحلة جديدة من الاستهداف المباشر العشوائيّ إلى الاستهداف الانتقائيّ لناشطين مدنيّين معيّنين لأسباب عدّة، لعلّ من أهمّها الذي يرتبط بنوع هذا الناشط المستهدف سواء حركيّاً أيّ قدرته على تنظيم هذا الحراك أو في التحشيد له أو فكريّاً بمعنى امتلاك هذا الناشط قدرة على التأثير على المتظاهرين وتوعيّتهم وتثقيفهم".
أضاف: "هناك عجز حكوميّ منذ الأيّام الأولى لانطلاق حركة الاحتجاج الشبابيّ، بل وجّهت اتّهامات إلى أجهزة حكوميّة بأنّها إمّا تقاعست عن عمد وإمّا تواطأت وإمّا شاركت في عمليّات قمع المتظاهرين".
عمليّات الاغتيال في غالبيّتها طالت ناشطين غير معروفين، أو أنّهم لم يكونوا في الحسبان أو من المؤثّرين مع بدء الحركة الاحتجاجيّة أو حتّى قبلها، لكنّ العمليّات ركّزت على الناشطين الذين يقومون بأدوار لوجستيّة في الاحتجاجات، مثل جمع التبرّعات أو الاسعاف أو التحرّك الميدانيّ للتحشيد.
إنّها المرّة الأولى، التي تشهد فيها احتجاجات عراقيّة مثل هذا النوع من الرعب، بحسب ما وصفه نشطاء، فكلّ المخاطر في الاحتجاجات السابقة كانت عبارة عن تهديدات واختطاف، باستثناء حادثة مقتل الناشط هادي المهدي في بغداد خلال عام 2011 على خلفيّة قيادته الاحتجاجات ضدّ حكومة نوري المالكي آنذاك.
أشارت عمليّات الاغتيال، التي طالت نشطاء في الاحتجاجات العراقيّة، إلى مدى قدرة الجماعات المسلّحة على تنفيذ عمليّاتها بكلّ سهولة، وإلى أنّ الأجهزة الأمنيّة العراقيّة لم تكن في بعض الأحيان متواطئة، فهي عاجزة عن حماية الناس.
اضف تعليق