q
والخوف أن تستمر الأنظمة العربية المستبدة سلطتها الرقمية في تكريس اليأس؛ لاحتلال العقول، وتهشيم إرادة التغيير، وتحجيم تأثير الأصوات المناوئة، وغسل الأدمغة من خلال مراقبة الفضاء السيبراني، واختراق حسابات أصحاب الرأي والمعارضين وملاحقتهم، وكشف هوياتهم، وتضييق الخناق عليهم في المجال السيبراني، وسن القوانين الجائرة تحت مسميات خادعة ومُضللة...

ليس الزمن السيبراني مرضًا أخلاقيًّا؛ ولكن قدرًا عالميًّا محتومًا، مُتسقًا مع الزمن الإمبراطوري الجديد المؤسَّس على مصادرة الحدود المفتوحة. ومنذ سنوات، أعلنت الدول النفير العام ضد الخطر القادم؛ الحروب الإلكترونية المنظمة التي لا يمكن فصلُها عن السياسة ومفاهيم السيادة والحرب والقوة والسيطرة، حيث الإعلان عن موت الدول والحضارات. ودخولنا إلى عصر ما بعد الحقيقة!

فالموت هنا يأخذ شكله الجديد؛ ألا وهو الانتقال من الموت الكلاسيكي على يد عدوٍّ فيزيقي، إلى موت رقمي-تقني بجيوش افتراضية، لا نراها بالعين المجردة، حيث صعوبة تعقَّب وتتبَّع عدوًّا يختفي بسرعة البرق؟!!، أو القضاء على تلك الجيوش الإلكترونية بسلاح الصواريخ، والمسيّرات، والمسدسات الكاتمة للصوت؟!.

فنحن اليوم نشهد معارك من نوع جديد للسيطرة على الطّيف الكهرومغناطيسي باسم الحرب الإلكترونية لتعطيل الموجات غير المرئية في هذا الفضاء للهجوم على البيانات والبرمجيات، والدخول غير الشرعي، والقرصنة والهجمات المادية على مواقع المعلومات. أما أهدافها فهي: الاستغلال، والخداع، وخلق الفوضى، وأخيرًا التدمير للمعلومات ونظمها. إنها بمثابة حربٍ باردة، تتميز بكثير من التعقيد، وهي أكثر ذكاءً وأقل تكلفةً من الحروب التقليدية!

لقد أضحت ممارسات يومية خفيَّة، تجري داخل شرايين الدولة، دون أن تسمع صوت البنادق وضجيج الأسلحة؛ حيث تنتمي الحرب السيبرانية إلى أشكال (الشر الجديدة)، وخصوصًا إلى ما يسميه (زيغمونت باومان) و(ليونيداس دونسكيس): الشر السائل اللابديل. ففي جانبها السلبي المتعلق بالمعارك والبطولات، يتربَّص المجهول الإلكتروني عند كل نقطة، منتظرًا فرصته قبل الانسحاب، وكأن لسان حاله يقول: “إنك لا تعلم مَن أكون، ورغم ذلك فأنا أعرف ماذا تفعل، وإني أتغير بشكل دائم ونهائي، وأنسحب تاركًا إياك غارقًا في دمارك!».

عالم غريب!! تُسيطر عليه التكنولوجيا الخبيثة والتطبيقات المعلوماتية التي صارت سلاحًا خطِرًا لتهديد أمن الدول، وتقويض أنظمتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ونسف بناها التحتية الحيوية، وطمس هويتها وقيَمها وثقافتها ومخيالها الجمعي. وهو يحدث في ظل اختفاء القوانين التي لا تحترم خصوصيات البشر وحقوقهم الإنسانية. ذلك أن التكنولوجيا الرقمية تبقى حمَّالة أَوجُه، لأن وظائفها السياسية القريبة أو البعيدة الأمد تبقى مرتبطة بمجاهيل الصراع الاجتماعي والهيمنة السياسية.

صارت خطرًا على كل الدول، لا أحد، هنا أو هناك، في مأمن، وهي تضرب الجميع، حتى تلك الدول التي تُسيطر على المجال الفضائي، وتستثمره في سرقة المعلومات وتدمير البنية التحتية للدول؛ لذلك حذَّر المستشار السابق للبيت الأبيض في مكافحة الإرهاب (روبرت نيك) من أن الولايات المتحدة قد تتعرض لهجوم إلكتروني قد يُدمرها أو يَشل قدرتَها على الرد الحاسم في غضون خمسة عشر دقيقة.

وبالمقابل، ستشهد منطقتنا في عهد الصراع الرقمي تغييرات بنيوية في النظم السياسية، وإعادة صياغة مفاهيم السلطة وإدارة الحكم، ووضع ترتيبات جديدة تتلاءم مع هذا التسونامي المرعب، بأمواجه العالية والقوية التي ستضرب المنظومة السياسية والاجتماعية، بفعل قوة الرقميات وهجماتها الإلكترونية، وقدراتها التضليلية المُشبَّعة بما يُسمَّى في التحليل النفسي (انشطارات التمثُّل).

لذلك نتوقع زيادة الهجمات بالبرمجيات الخبيثة التي تستهدف الأنظمة الحاسوبية المتحكمة في الإنتاج الصناعي؛ من أجل تعطيل إنتاج النفط والغاز والسيطرة عليها، وربما السيطرة على اقتصاد الطاقة؛ مما يعرض للخطر حياةَ المواطنين الذين ترتبط حاجاتهم إلى الماء والكهرباء بالصناعات الطاقية. مثلما تستهدف هذه البرمجيات الخبيثة قرصنة المعطيات والملفات السرية التي يُمكن أن تُستعمل في الجوانب الأمنية، أو تعطيل سير العمليات الحاسوبية وإلحاق أضرار بليغة بعملية الإنتاج داخل الشركات.

والأخطر، أن تتعمق أكثر السلطوية الرقمية في أوطاننا، وتقوم بالتحريض ضد منظومات الحكم في الجغرافيا السياسية العربية، و» تَهْكِير» العقل العربي، وتثوير الرأي العام، من خلال افتعال الأزمات وصناعتها بما يخدم استراتيجيتها. وكذلك إنتاج سرديات ملغومة؛ تدفع بأصحاب القرار للاستسلام له، واتخاذ قرارٍ ضد نفسها، أو إجراءات تصب في مصلحة الجهة المؤثرة، في ظل تواجد قراصنة وسائط التواصل الاجتماعي، والبرمجيات الخبيثة التي يزداد حضورها الفاعل لتنفيذ المهمات الصعبة، في إنتاج ونشر الدعاية المُغرضة، وتعبئة المجنَّدين، والقيام بعمليات الهجوم الشبكي.

والخوف أيضاً أن تستمر الأنظمة العربية المستبدة سلطتها الرقمية في تكريس اليأس؛ لاحتلال العقول، وتهشيم إرادة التغيير، وتحجيم تأثير الأصوات المناوئة، وغسل الأدمغة من خلال مراقبة الفضاء السيبراني، واختراق حسابات أصحاب الرأي والمعارضين وملاحقتهم، وكشف هوياتهم، وتضييق الخناق عليهم في المجال السيبراني، وسن القوانين الجائرة تحت مسميات خادعة ومُضللة، والقيام بعمليات التضليل المعلوماتي وتزييف الأخبار، والسيطرة الاستبدادية على الفضاء الإلكتروني، وقضايا المراقبة وانتهاك الخصوصيات. والمشكلة أننا نعاني من ظاهرة «إبستيمولوجية الإعجاب بالمُشكل» التي تقيد الحاضر بمسلمات الماضي، والاندهاش بالتقنيات الرقمية، حيث النظر للمستقبل بعين حولاء غير قادرة على مواجهة تحديات الأخطار السيبرانية، والاستفادة من فرص الفضاء الأزرق.

قادِمُ الأيام سيشهد حروباً سيبرانية شرسة، ساحاتها الفضاءات الرقمية؛ حيث تتحول الحرب الإلكترونية، برأي الخبراء، إلى: شر سائل، أقنعته متعددة وفاعلة؛ مما يجعلها تتوارى عن الأنظار؛ إنها بمثابة الجذر الخبيث في نبات الإنترنت الذي يبهر الناظر بأزهاره اليانعة.

اضف تعليق