q
إن استغلال الاوضاع غير الطبيعية في مجتمعاتنا لطرح ما يدعيه البعض من بدائل على المدى القصير، لا تثمر دائماً عن صنع قناعات أو ايمان بقضايا مهما كانت كبيرة وذات شأن، بقدر ما تخلق نوعاً من السجال الفكري القائم على واقع التناقضات التي تعيشها مجتمعاتنا بين النظرية والتطبيق...

لا نعتب على مواقع اتصال حديثة وسريعة ومجانية، مثل؛ "فيس بوك" وتطبيقات أخرى للاتصال مثل؛ "واتس آب"، وغيرها عندما تتحول من نافذة للتعارف وتضييق المسافات بين الأحبة والاصدقاء حول العالم ولتبادل الاخبار والمشاعر، الى منصة لطرح الافكار والمعتقدات في شتى الاتجاهات وبأساليب مختلفة، فهي حالها من حال وسائل الاعلام التقليدية في مراحل ظهورها وتطورها، ثم تحولها الى منصّات لتحقيق اهداف عدّة، لاسيما السياسية منها، مثل تعبئة الجماهير، وقيادة الرأي العام، وغير ذلك.

وهذا إن دلّ على شيء، فانما يؤكد الازمة الخانقة في وسائل "التواصل الثقافي" بين الشريحة المنتجة للفكر والثقافة وبين الجماهير، إذ تحتاج الافكار والعقائد في عملية تسويقها الى التوثيق بالمصادر والأدلة، وهذا ما كان متوفراً للقارئ فيما مضى من العصر الذهبي للثقافة في سني الخمسينات والستينات والسبعينات، وهو ما لا يختلف عليه اثنان من المثقفين اليوم، وما يتذكرونه من مستوى الوعي الجماهيري، وكيف كان الكتاب والكراس، ثم المجلات والصحف مصدر غذاء فكري وثقافي لشريحة واسعة من المجتمع؟

إن سرعة النشر على مواقع الاتصال الحديثة لها مردود ايجابي على المدى القريب في ايصال الفكرة الى المتلقي، وربما يتحدث البعض عن "السبق" في طرح الافكار، على غرار السبق الصحفي أيام زمان، عندما كانت مصادر الاخبار اليومية محدودة بالصحيفة والاذاعة فقط، مع الفارق، ان الاخبار في الايام الخوالي، كانت تمثل حدثاً واحداً ضمن الحياة اليومية المستمرة، بينما الافكار تمثل نظرية ذات عمق وتأثير بعيد المدى على الانسان والحياة بشكل عام.

ومن شأن هذا المنحى من النشر ان يسفر – في كثير من الاحيان- عن نتائج غير طيبة لصاحب الفكرة، وللمتلقي:

أولاً: ما يتعلق بصاحب الفكرة، سواءً كان كاتباً أو متحدثاً في مقاطع فيديو، فهو يندفع – ربما من حيث لايريد- الى حيث التسطيح في وعي المتلقي عندما يطرح افكاراً يعدها مهمة جداً لهم، ومفيدة لثقافتهم الحياتية وطريقة تفكيرهم، بل حتى عقيدتهم، ثم لا يجد الفرصة في تعضيد هذه الافكار بالأدلة المقنعة والمصادر الموثوقة، وبدلاً من هذا نراه يلجأ الى التقديس والامور الغيبية تارةً، والى العقلانية تارةً اخرى.

ثانياً: أما ما يتعلق بالمتلقي، فان الاضطراب على مختلف الاصعدة يجعله مندفعاً نحو مختلف الافكار والطروحات علّها تكون إحداها خشبة الخلاص لما يعيشه نفسياً وفكرياً واجتماعياً، وربما عقائدياً.

إن استغلال الاوضاع غير الطبيعية في مجتمعاتنا لطرح ما يدعيه البعض من بدائل على المدى القصير، لا تثمر دائماً عن صنع قناعات أو ايمان بقضايا مهما كانت كبيرة وذات شأن، بقدر ما تخلق نوعاً من السجال الفكري القائم على واقع التناقضات التي تعيشها مجتمعاتنا بين النظرية والتطبيق، فمن يتفاعل مع هذه الفكرة، إنما كرهاً بالفكرة الاخرى، وليس كونها على حق، وهذا ما يجعل الناس في دوامة اليأس، وتكريس المزيد من مشاعر العبثية والهزيمة النفسية، ومن ثمّ اللامسؤولية في الحياة.

وحتى تأخذ الثقافة دورها الحضاري في إخراج الناس من الظلمات الى النور، وبناءه فكرياً و روحياً، ثم مادياً في هذه الحياة، يُستحسن منهجة المناقشة الفكرية والعقدية في مستويات عدّة، فما يحتاج الى بحوث ودراسات يتولاها مختصون، ينبغي ان يكون مقالها في مقامها الصحيح، وفي مراكز الأبحاث والدراسات والحوزات العلمية، وبعد بلورة للرؤى والافكار والخروج باستنتاجات رصينة، يكون بالامكان تقديمها الى المتلقي على مواقع التواصل الاجتماعي او من خلال وسائل الاتصال المختلفة وبأسرع ما يمكن لحاجة الناس الى الفكرة السديدة في جانب محدد من حياتهم، وبما يفيدهم في التنمية والتطوير، لاسيما في مجالات التربية والتعليم والعمل والتعامل مع قيم عليا مثل؛ الحرية والعدالة والمساواة والسلم.

ان معظم الطروحات الموجودة ذات طابع نقدي لظواهر مثل؛ الاستبداد والعنف والفساد وغيرها من الظواهر السلبية ذات الحاجة الملحّة لمكافحتها وإبعاد شرورها من البناء الاجتماعي والثقافي للأمة، وهو ما يحتاج الى حلول وبدائل تزيل الطابع السلبي من الواقع لا أن تنكئ بالجراح، او تستبدل الاستبداد السياسي باستبداد فكري، والفساد المالي والاداري بحالة اللامسؤولية إزاء الاخطاء في ارجاء المجتمع بأسره بما يميع عملية إصلاحية كبرى مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

اضف تعليق