q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

التهذيب بين الحضارة المادية والمعنوية

التهذيب بين الحضارة المادية والمعنوية

نعني بالتهذيب المعنوي سلوك الإنسان الذي يتسّم بالإنسانية، ويرتكز على القيم الصالحة، وفي المقدمة منها الشعور بالتعاطف مع الآخر، وإبداء روح التعاون، والتعامل باحترام تام معه، وعلى العكس من ذلك هو التهذيب في إطار الحضارة المادية، حيث يرتكز سلوك الإنسان على تعظيم المصالح الذاتية...

(الإنسان غير الآمن في مسكنه وحياته لا يتمكن من تحقيق الازدهار والنمو)

الإمام الشيرازي

نعني بالتهذيب المعنوي سلوك الإنسان الذي يتسّم بالإنسانية، ويرتكز على القيم الصالحة، وفي المقدمة منها الشعور بالتعاطف مع الآخر، وإبداء روح التعاون، والتعامل باحترام تام معه، وعلى العكس من ذلك هو التهذيب في إطار الحضارة المادية، حيث يرتكز سلوك الإنسان على تعظيم المصالح الذاتية، وعدم إيلاء العلاقات المتبادلة أي اهتمام من خارج إطار المصالح المادية والمنفعة التي يمكن الحصول عليها من الآخر.

وقد فوجئت المجتمعات والأمم التي وصلها المسلمون، بطريقة التعامل الإنساني معهم، حيث يقوم على اللطف والتعاون والتعاطف المعنوي الكبير، وعدم التفكير بالفوائد المادية في مقابل حسن تلك العلاقات، وإبداء الاحترام للناس الذين كان يتعامل معهم المسلمون بعد أن دخلوا بلدانهم لنشر الرسالة الإسلامية خرج رقعة دولة المسلمين في الجزيرة العربية.

عن هذا الموضوع يقول (غوستاف لوبون) في كتابه حضارة العرب:

(إن العرب تركوا الماديين أحراراً في أديانهم، فإذا كان هناك نصارى قد أسلموا واتخذوا العربية لغة لهم، فذلك لما كان يتّصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهدا بمثله، ولما كان يتصف به الإسلام من سبل لم تعرفها الأديان الأخرى، فقد عاملوا أهل سوريا ومصر وإسبانيا وكل دولة استولوا عليها بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في مقابل حمايتهم لهم وحفظ الأمن بينهم، والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب) المصدر: فقه السلم والسلام الجزء الثاني.

ولكن طبيعة الحياة القاسية للعرب قبل الإسلام، وكثرة الغزوات المتبادَلة فيما بينهم، وانتشار منطق القوة فيما بينهم، وشيوع مظاهر الاقتتال الكثيرة بين القبائل آنذاك، يؤكد أن طبيعة العرب قبل الإسلام لم تكن قائمة على التهيب الحضاري المعنوي، وإنما كان يُعرَف عنها القسوة الحادة، والركون إلى المصالح الآنية والغرائز، وهذا المنطق بعيد كل البعد عما جاءت به الرسالة الإسلامية من قيم مختلفة تماما عن السائد في الجزيرة وبين أقوامها.

لقد ذكر المؤرخ الغرب اسم العرب، وحصر بهم ما قام به المسلمون في البلاد التي دخلوها بعد الإسلام، والحقيقة تؤكد أن الإسلام هذّب الجميع وليس العرب وحدهم، وأن الأقوام والأعراق الأخرى التي دخلت الإسلام تم تهذيبها معنويا، في ظل القيم الإسلامية الجديدة، ولذلك فإن العرب ليس وحدهم من تعامل بلطف مع الآخرين، وإنما جميع المسلمين قاموا بذلك بعد أن علّمهم الدين كيف يتعاملون في إطار الحضارة المعنوية مع الناس.

الطبائع البشرية اللطيفة للمسلمين

ولو أننا تحرينا الحقيقة عن طبيعة مجتمع الجزيرة قبل الإسلام، لوجدناه مجتمع تنتشر فيه المعارك المتبادَلة، وتغيب عنه العدالة، حتى يكاد يكون محكوما بقانون الغاب إلا ما ندر، ولكن بعد أن ظهرت الرسالة النبوية، وظهرت تلك المبادئ المعنوية الوضاءة، وتم نشرها وتطبيقها بعد غرسها في القلوب والعقول والنفوس، تطبّع العرب وغيرهم بطبائع الإسلام، وأصبح المسلمون أناس يحترمون إنسانية الإنسان ويحمون كرامته.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول في كتابه القيم الموسوم بـ (فقه السلم والسلام الجزء الثاني):

(لابد من جواب حول ما ذكره غوستاف لوبون في رأيه المتقدم عما صدر من العرب تجاه الماديين أو النصارى وهو: أن تلك المعاملة الرفيعة لم تتوقف على العرب المسلمين فقط، بل كل الأمة الإسلامية من عربٍ أو عجمٍ أو غيرهم كانوا يحملون الإسلام إلى غير المسلمين بهذه الروحية الرفيعة والمعنوية المفعمة باللطف والحنان والسلام والواقعية، وكان ذلك بفضل الإسلام كما لا يخفى، وإلا فتاريخ عرب الجاهلية مليء بالعنف والإرهاب).

لذا من أهم المبادئ التي انبرى الإسلام لنشرها بعد السعي لبناء الأمة ونشر الدين خارج بقعة دولة المسلمين، هو مبدأ تهذيب الإنسان في الجانب الحضاري المعنوي، وتطوير إمكانياته من حيث الاستيعاب والفهم، والانتقال من لغة وأجواء العنف إلى أجواء الرحمة، واللين، والتعاطف القائمة على الحضارة المعنوية التي تحترمك الإنسان وتحفظ مكانته.

وهكذا تم غرس هذه القيمة العظيمة في تربة المجتمع الإسلامي كلّه، فأصبح المسلم متعاطفا إنسانيا مع الآخرين، حتى لو كانوا من أديان أو أعراق أو طوائف أخرى، فالمهم أن يقوم التعامل مع الآخرين، على أساس كونه كائن يستحق الاحترام، ويجب التعامل معه في ضوء ما جاءت به تعاليم الرسالة النبوية ومضامينها الخلّقة التي ساوت بين الجميع من دون استثناء أو تمييز لأي سبب كان.

حيث يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:

(لتأكيد التباين والاختلاف أيضاُ بين تهذيب الحضارات المادية للإنسان، وبين تهذيب الشريعة الإسلامية لـه، نقول: إن تهذيب الإنسان وسلامته هو أحد المبادئ التي عمَّق الإسلام جذورها في نفوس المسلمين).

الحضارة المعنوية إنقاذ للبشرية

علما أن الاختلاف قطعي بين التهذيب المادي والتهذيب المعنوي، كالاختلاف القاطع بين الماديات والمعنويات، فالإنسان المادي يعيش في مجتمع تقوم علاقاته ومصالحه تبعا لمبدأ الربح والمنفعة، وبعضهم يسميها البراغماتية التي تقوم على أساس المصلحة والفائدة من الآخر هي الأساس في إدامة العلاقة واستمرارها، وليس للجانب الأخلاقي المعنوي أي دور في إقامة هذه العلاقات الإنسانية.

وعندما ينشغل الإنسان بالقضايا المادية فإنه سوف يفقد الاهتمام بصورة تامة بالجوانب المعنوية، ولا يعيرها أي اهتمام كان، لأنه انجرف في العالم المادي، ولم تعد القضايا والتعاملات المعنوية ذات أهمية أو جدوى بالنسبة له، في حين أن الإسلام يهدف بالدرجة الأولى إلى تطوير وتهذيب الإنسان وسلوكه وتعامله وأهدافه أيضا.

يقول الإمام الشيرازي:

(لكن الإنسان يختلف عما هو عليه في الحضارة المادية حينما تزداد معارفه فتتعدد أهدافه فيسيطر على الحياة، ويفسدها بعد أن يزداد حرصه وتتشعب طموحاته، أما الإنسان في الإسلام يعمل من أجل التطور والاستقرار والازدهار والسلام والتقدم في كافة مجالات الحياة).

لقد ثبت بالأدلة الواقعية المسجلة والمثبتة، أن تزايد دخول الأفراد من الأمم والأديان الأخرى في الإسلام، يعود سببه إلى حصولهم على الأمان والاطمئنان، كون الإسلام يوفر في مبادئه هذه الحاجة الإنسانية التي لا يمكن للناس فقدانها، كونهم يرغبون بالعيش الآمن والسعيد، وهذا هو الذي يقدمه الإسلام في ظل الحضارة المعنوية، في حين تفتقد له الحضارة المادية.

إن فقدان الأمن الواقعي يؤدي حتما إلى فقد الأمن النفسي، وهذا يضع الإنسان في مواجهة دائما للإنسان مع الخوف والقلق، لذلك صنع الإنسان هذه الحاجة الأساسية للإنسان، وهي الاطمئنان النفسي، ومن ثم التقدم والتطور والازدهار في الحياة الواقعية.

هذا ما أشار إليه الإمام الشيرازي وهو يقول:

(الإسلام هو رسالة السلم والسلام الذي يريد للإنسانية الرقي والتقدم والحضارة والسكينة والاطمئنان، فإن الإنسان غير الآمن في مسيره ومسكنه وحياته لا يتمكن من أن يحقق الازدهار والنمو، بل كثيراً ما يسبب فقدان الأمن ـ الناشئ من الخوف ونحوه ـ تحطيم الإنسان في أبعاده المختلفة واستنفاد معنوياته السامية التي تحافظ على كرامته وإنسانيته).

وأخيرا فإن التهذيب في ظل الحضارة المعنوية، هو الأقرب إلى الإنسان من الحضارة المادية التي تجعله كائنا لاهثا وراء المنتوجات السلعية البراقة التي تأخذ وقته كله، وتدخله في متاهات تسلب من اطمئنانه وأمانه واستقراره، في حين أن أهم ما يحتاجه الإنسان لكي يعيش حياة مستقرة آمنة، هو الشعور المعنوي الآمن بعيدا عن القهر المادي المخيف.

اضف تعليق