ان مواكبة المستقبل تتمّ عبر رصد الاحتمالات، والتخطيط السليم، والقرارات الصائبة التي يتّخذها روّاد الأمة وعلماؤها في مختلف الاختصاصات، في الهندسة والطب والزراعة والصناعة حتى يأتي البناء متكاملاً، نحن إذاً نقف وجها لوجه أمام مسؤولية تاريخية، فحواها إننا معنيون جدا باستشراف الغد وصناعة المستقبل...
كبار العلماء يُشغلهم المستقبل، يعاينون الماضي ويرصدون الحاضر، ثم تبدأ الانطلاقة نحو بناء المستقبل، عالمنا بكل كائناته البشرية العاقلة، فيه حاجة دائبة لرسم خطوات واثقة تؤمن حياة أكثر تطورا للأجيال السابقة، بيد أن هناك تباين في هذه المساعي، تختلف باختلاف درجة الوعي والتقدم وصحة التهيئة والاستعداد، انطلاقا من البعد الأقصى الموغل في الزمن، ونعني به الماضي، مرورا بالحالي عبورا إلى الزمن القادم، وكيفية صناعته بما يحقق قفزة غير مسبوقة بين الأمم.
معرفة المستقبل تبدأ مما أصبح في عداد المندثر، والاندثار هنا لا يعني المحو، فالتجارب التي تعيشها الأمم تبقى مخزونة في ذاكرة التاريخ البشري، منها تستلهم الأمم منطلقاتها، وتستمد ديمومتها، وتسعى للتمايز الأجود على حساب من يقاسمها ثنائية الزمكان ممن يقطن المعمورة، الماضي السحيق هو نقطة الشروع نحو مستقبل غير منقوص، منه تتحرك العقول والعلوم والأقلام بحثا واستقصاءً وسبراً للأغوار، فلا يصح عزل الماضي عن السلسلة المتماسكة، لأن انسلاخ أحد الأبعاد الثلاثة للزمن، يعني التضحية بتراكم علمي تجاربي هائل لا يجب إهماله أيّاً كانت الأسباب.
الفقيه الموسوعي المجدد، الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، له كتاب بعنوان (فقه المستقبل)، جاء فيه:
(إذا أرادَ الإنسانُ أن يُعانقَ المستقبل ويستشفَ آفاقه، فعليه أن يبدأ بالحياة، يفترشها زهوراً ورياحين، ويضع لها سلالم ومدارج. عليه أن يبدأ مسيرة المستقبل من نقطة سحيقة في الماضي، لأنّ للإنسان ثلاثة أبعاد؛ ماضٍ وحاضر ومستقبل).
المتوالية الزمنية تتناسق في سياق زمني متنامٍ، يأخذ المسار التراكمي، هذه المتوالية تبدأ من الماضي، ليتأسس عليها الحاضر، فكل ما تمخّض عمّا انصرف من الأزمنة، وكل ما تراكم من تجارب وعلوم وأنشطة علمية تجربية عملية يكتنفها الماضي، ستكون عوامل مساعدة لبناء وتطوير الحاضر الذي يسعى فيه العلماء والمفكرون، مواصلة ما أنجزه الأسلاف، فالعملية تراكمية تُشبه إلى حد كبير بناء شيء ما، بناية أو عمارة أو برج أو قلعة، أساسها يبدأ فيما مضى من الزمن، وانجازها سيمثل الحاضر، أما تطويرها وتحسينها فهو منوط بالمستقبل.
في كتاب الإمام الشيرازي نفسه، نقرأ بهذا الخصوص:
(الماضي هو الأساس في بناء المجتمع الإنساني لما يحملُ من قيم وتجارب وتراث وتأريخ. وفوق الماضي يُشيّد الحاضر بسلوكه وظروفه وملابساته. وفوق الحاضر يشمخ المستقبل عالياً مظلّلاً مُشرقاً).
الأهداف الكبيرة وصناعة المستقبل
فارق شاسع بين الأبعاد الزمنية الثلاث، بالأخص البون الكبير بين الآني والمستقبلي، يتضح ذلك بالفوارق الحدّية في طبيعة الأهداف وسياقات صناعتها، فأهداف الآني وحاجاته صغيرة سريعة التحقّق كونها آنية، سرعان ما يدهمها الزوال والتلاشي، لكن لو أمعنّا النظر بالأهداف المستقبلية، فإننا سنلاحظ بكل الوضوح، مدى الحجم الهائل لأهداف القادم من الأزمنة، لكننا سرعان ما سنكتشف ضآلة أهدافنا حاضرا، عبر ضآلتها وسرعة اندثارها!!.
يظهر ذلك جليا في التخطيط الكبير، المعقد، المتداخل والمحسوب لصناعة مستقبلنا، يُنجَز ذلك عبر برامج علمية متخصصة ذات طابع استراتيجي، يتمخض عنها سلسلة من الأهداف الكبيرة التي تختلف كل الاختلاف عن الحاجات الآنية، الأمر لا يختلف عن حاجتنا لصناعة رغيف الخبز الآن، فكم يستغرق ذلك وما هي الصعوبات التي تواجهنا في الحصول على دقيق القمح المتاح؟ ثم كم تستغرق مدة شواء الرغيف؟، لكن لو أتينا على صناعة مستقبلية من أي نوع كان وضمن الأهداف بعيدة المدى، فإن الهدف المستقبلي لا يمكن أن نقارنه بأي حال من الأحوال مع الآني.
هذا التوصيف أو التشبيه الذي ورد آنفاً يفسّر لنا، لماذا الأهداف المستقبلية ذات طابع كبير ويكتسب أهمية لا يمكن مقارنتها بأهمية تصنيع مطمح آني، سرعان ما ننساه بعد صناعته السهلة وحاجتنا الآنية له.
يرد أيضا في كتاب (فقه المستقبل)، للإمام الشيرازي:
(تتجلّى الأهداف الكبيرة في حاجات المستقبل الواسعة، بينما تظهر الأهداف الصغيرة في حاجات الإنسان المؤقتة؛ وصناعة المستقبل تتم عبر البرنامج الذي يضعه الإنسان لتحقيق أهدافه الكبيرة).
هذا يستلزم نوعا من الاستعداد البشري لاستقبال القادم من الزمن، لا يُضاهى ولا يُقارَن بالحالي المتلفع برداء الحاضر، إذ لابد أن يبقى الإنسان في حالة من الاستعداد النافر للغد القادم، وكيفية توظيفه بطرائق تستخلص فوائده كلها، دون أن تبقي منها شيئا للضياع أو الإهدار، كما أننا ملزمون بإحداث التأثير الضخم في الغد القادم، ولا ندعه يمر كما لو أنه شبح غير مرئي، لأنه فرصة عظيمة من فرص التراكم البنائي المذهل، الذي يهيّئ مستلزمات البناء الخلاق.
هكذا يوجه الإمام الشيرازي القادة والعلماء وكلّ المسؤولين عن صناعة المستقبل:
(على الإنسان أن يكون على استعداد تام لاستقبال الغد والتأثير فيه، والتكيّف معهُ فيما لا يمكن تغييره).
ويطالب (أعلى الله درجاته)، بالتكيّف مع ما لا يمكن تغيره، أو بتفسير آخر، ما يخرج عن طاقتنا وقدرنا على تغييره، كل شيء يدخل في هذا المنطق، علينا أن تكيّف معه بما لا يجعل منه عائقا أمام صناعتنا للمستقبل المضيء.
رصد الاحتمالات والتخطيط السليم
تبان للراصد المتصدي لملامح عالم اليوم، تلك السرعة الهائلة، وذلك التسابق غير المسبوق نحو المستقبل، لم يكتف الإنسان بما اكتشفه وحققه فوق الأرض، فبلغ السماء، واقتحم مجاهيلها، فهبط أو إنسان على سطح القمر في 1961م، وتوالت المكتشفات الفضائية الهائلة، حتى قيل مؤخرا بأن الصين لم تنتج الطاقة الكهربائية من الأرض بعد اليوم، وإنما وظّفت منجزاتها العلمية الفضائية للحصول على كفايتها من الطاقة عبر الفضاء، ولو تحدثنا عن عسكرة الفضاء، فإننا سنُصاب بصدمة.
هكذا هو عالمنا اليوم، وهذا يضعنا كعراقيين ومسلمين في مأزق لا نُحسَد عليه، حين يطالبنا الإمام الشيرازي (ليس الآن بل قبل أكثر من عقدين)، بأن حركة العالم السريعة نحو المستقبل تستدعي منّا تغييراً شاملا، لأننا في حقيقة الأمر عاجزون عن تطبيق أفكار المجدد الشيرازي، وهو يدعونا جميعا (قادة ومجتمعات) إلى أن نكيف أنفسنا ونتناغم مع التغيير العالمي ونسهم فيه، حتى نكون جزءاً من المستقبل الناجح والمضمون.
الفقيه الموسوعي الإمام الشيرازي يقول:
(عالمنا اليوم يشهد حركة قوية وسريعة نحو المستقبل في كافة أوجه الحياة، وهذه الحركة توجب تغيراً شديداً، فيجب أن نكيِّف أنفسنا مع هذا التغيير حتى نمتلك ناصية المستقبل).
ولم يكتفِ الإمام الشيرازي بالدعوة إلى ملاحقة التغيير في العالم، بل هناك سمة من سماته الخلاقة في التأليف والمحاضرات الصوتية والمرئية، حين يضع مع كل دعواته لتقدم المسلمين، حلولا علمية عملية، يحرص سماحته على تقديمها في قالب التبسيط والسلاسة، والقدرة على التعاطي معها وتحويلها إلى منجز ممكن التحقيق.
يُنجَز ذلك بإعمال الرصد لكل الاحتمالات متوقَّعة الحدوث، ووضعها تحت مجهر التحليل والتعرّف والتشريح، تهيئةً لما هو متوقَّع الحدوث مستقبلا، يرتفقُ ذلك بتخطيط دقيق، وقرارات تجانب الخطأ في صحتها ودقتها، يُقْدِم عليها قادة الأمة العلميين، ولا يقتصر هذا على تخصص محدد، فكل مجالات البناء لها حصة حتى يتم الإنجاز بهيكل متكامل.
الإمام الشيرازي يرى أن: (مواكبة المستقبل تتمّ عبر رصد الاحتمالات، والتخطيط السليم، والقرارات الصائبة التي يتّخذها روّاد الأمة وعلماؤها في مختلف الاختصاصات، في الهندسة والطب والزراعة والصناعة حتى يأتي البناء متكاملاً).
نحن إذاً نقف وجها لوجه أمام مسؤولية تاريخية، فحواها إننا معنيون جدا بصناعة المستقبل، بالشروع من حومة الماضي السحيق، وقوفا عند الحاضر وانطلاقا منه نحو مستقبل يتسابق الجمع البشري للتفوق فيه، فهل نحن على قدر هذه المسؤولية العظيمة؟؟ إنه التحدي المصيري الذي سيبقى يلاحقنا لحظة بعد لحظة، وساعة بعد أخرى، وعاماً بعد عام، فماذا نحن فاعلون؟؟؟
اضف تعليق